مقدمة
من الملاحظات الغريبة أن حياة ابن خلدون فى مصر قد تحولت إلى سكون عجيب لا يتفق مع خضم الصراعات التي نشأت عليها أسرته،والتي أنطبع بها تاريخه الشخصي خلال(31 ) عاما ، فهل نتصور أن يحدث هذا من ابن خلدون فى مصر المملوكية والتي يتاح فيها المجال للتآمر لكل قادر عليه ، خصوصا وأنه حين وصل إلى مصر فى الثانية والخمسين من عمره كان أستاذا فى التآمر ؟
فاللمحات القليلة التي ظهر فيها ابن خلدون بين سطور التاريخ المصري فى هذه الفترة ( 784 : 808 ) المليئة بالتآمر كان تأثيره كبيرا وواضحا ، وذلك مثل اتصاله السريع بالسلطان برقوق بمجرد وصوله للقاهرة ، وصداقته السريعة مع السلطان برقوق أحد كبار المتآمرين فى العصر . ثم العلاقة الغامضة بين ابن خلدون ويلبغا الناصري الذي نجح فى إزاحة برقوق من السلطة ، ثم عودة العلاقات إلى مجاريها بين ابن خلدون والسلطان برقوق بعد عودة برقوق إلى السلطة ، حتى أن برقوقا انتقم من كل من خانه وتعاون مع أعدائه ما عدا ابن خلدون ، ثم مقتل أحد خصوم ابن خلدون بعد أن دبر مكيدة لعزل ابن خلدون وسجنه، وذلك بعد موت برقوق ، واللقاء الذي تم بين ابن خلدون وسفاح عصره تيمورلنك حين كان يحاصر دمشق ، ثم تلك العلاقة الغامضة بين ابن خلدون وتلميذه المجهول الأمير سعد الدين إبراهيم المعروف بابن غراب ، ذلك الشاب الذي وصل إلى قمة النفوذ وهو دون العشرين عاما ، وذلك بتخطيط عبقري لا نتصور صدوره منه ، وهو نفس الشاب الذي تلاعب بالسلطة المملوكية فى عصر أبناء برقوق فعزل الناصر فرج بن برقوق وعين أخاه عبد العزيز ،ثم عزل عبد العزيز وأرجع الناصر فرج ، وكاد يتولى السلطة بنفسه ليكون أول مصري يتولى السلطة بعد الفرعون أبسماتيك ، لولا أن مات ذلك الشاب العبقري فجأة يوم 19 رمضان سنة 808 ،ثم مات أستاذه ابن خلدون فجأة أيضا يوم 26 رمضان سنة 808 ، أي بعد أسبوع .
ونعود إلى سؤالنا : هل تآمر ابن خلدون على السلطة المملوكية من خلال علاقته بسعد الدين إبراهيم ( ابن غراب ) .؟ وهل هناك بين السطور ما يؤيد هذا الزعم ؟
أولا :
1 ـ ونبدأ بسؤال : ما الفائدة التي تعود على ابن خلدون من اشتراكه مع سعد الدين إبراهيم ضد الدولة المملوكية التي احتضنته ؟ ..هناك فائدة سياسية متوقعة ، وهى أن يشارك ابن خلدون فى جني ثمار نجاحه ، إذا نجحت خطته مع رفيقه سعد الدين إبراهيم ، وهناك أيضا فائدة خلدونية خاصة بصاحبها ، وهى إثبات نظرية ابن خلدون فى العصبية ، وتطبيقها فى مصر فى عهده عمليا . فقد أقام ابن خلدون نظريته السياسية فى "المقدمة " على العصبية القائمة على النسب، والتي تعنى أن أهل العصبية القبلية القائمة على النسب الواحد والأصل الواحد إذا أتيحت لهم أسباب القوة ، فإنهم يستطيعون إقامة ملك لهم .وذلك ما كان يحدث فى شمال أفريقيا والمغرب والأندلس .. إذ تتجمع عصبية القبيلة خلف شعار ديني تتحرك به فى الصحراء إلى المدن الساحلية حيث تقيم لها ملكا ، إلا أن النظام المملوكي المستحكم والمتحكم فى مصر والشام كان يناقض فكرة العصبية من أساسها .لأن المماليك ليس لهم أصل ولا نسب منذ البداية .وقد تجاهل ابن خلدون فى أثناء مقامه فى مصر الإشارة إلى ذلك التعارض بين النظام المملوكي ونظريته فى العصبية ، كما لم يقم بتعديل نظريته فى المقدمة . برغم أنه ختم حياته بربع قرن عاشه فى مصر .
ولعله ـ وفقا لنظريتنا الخاصة ـ كان يؤجل هذا إلى أن ينجح فى إثبات نظريته على أرض الواقع فى إقامة ملك مصري يقوم على العصبية . وقد كانت عصبيات الأعراب فى مصر موجودة ، وكانت هي القوة المسلحة الوحيدة فى الداخل التي تناوئ السلطة المملوكية .. ولكن كانت تحتاج إلى تنظيم وتقعيد . أي أن أدوات التآمر كانت متاحة أمام ابن خلدون لكي يثبت صدق نظريته فى العمران ، وإمكان تطبيقها فى مصر وهى أم العمران ، وذلك أكبر مكسب علمي ومعنوي يعود على ابن خلدون فى تحالفه مع سعد الدين إبراهيم .
2 ـ ما سبق كله افتراض يحتاج إلى دليل وبرهان ، ومن شأن التأريخ فى الحوليات التاريخية أنها تسجل أحداث العصر باليوم والشهر وذلك على مدار العام أو الحول ، وكل عام ، وهذا ما فعله المقريزى فى تاريخه " السلوك " وما فعله ابن حجر فى تاريخه " إنباء الغمر" والعيني فى تاريخه " عقد الجمان"،فقط كانوا معاصرين لابن خلدون فى مصر ، ويرصدون ظواهر الأحداث من واقع المتابعة اليومية ، ومن هنا فإن حركات التآمر التاريخي كانت بين سطور الأحداث التى يجب فهمها بدقه من خلال فهم شخصيات العصر وثقافته بما يحقق استنطاق الوقائع وربطها ببعضها ربطا يعتمد على منطقية التفسير للأحداث .
3 ـ وفى البداية فإن انشغال ابن خلدون فى التآمر فى تحقيق هدف عظيم هو التفسير المنطقي لسكونه العلمي ـ وهو فى أوج عطائه الفكرى مستقرا فى مصر، وذلك فى الربع الأخير من حياته فى مصر بعد حياة حافلة بالإنجاز العلمي والتفاعل السياسي المتوهج ، ومن هنا نستطيع أن نغفر لابن خلدون كسله فى الإنتاج العلمي فى مصر بعد أن أنجز ـ قبل وصوله لها ووسط صراعاته السياسية ـ مقدمته المشهورة ، وهى أروع ما كتب فى تراث المسلمين بعد القرن الخامس الهجري ، وهنا أيضا نفسر منطقيا اختفاءه من المسرح السياسي .
ثانيا :
ونلجأ إلى ربط الأحداث واستقراء الوقائع .
1 ـ ونبدأ بسنة 767 : فى هذا العام كان قتل السلطان أبى عبد الله الذي ساعده ابن خلدون فى استعادة ملكه فى " بجاية " فى المغرب ، وحيث عمل ابن خلدون حاجبا له يدير له الدولة ، ولكن بقتل السلطان أبى عبد الله وتعيين ابن خلدون وصيا على العرش أدرك ابن خلدون أنه لا طاقة له بمواجهة خصمه أبى العباس الطامع فى " بجاية " ، لذلك ترك " بجاية " ورحل عنها إلى " بسكرة " فى الجزائر .
2 ـ فى نفس العام 767 ، كانت هناك محنة أقسى فى الإسكندرية إذ أغار عليها ملك قبرص مع بعض السفن الإيطالية. وخلال أسبوع من فشل السلطة المملوكية فى الدفاع عنها ـ فى سلطنة الأشرف شعبان ـ استطاع الفرنجة تدمير المدينة وقتل الآلاف من سكانها .وكان نائب السلطان المملوكي فى الإسكندرية ـ والذي فشل فى حمايتها هو الأمير ابن عرام ، وكان الحاكم المدني أو ناظر الإسكندرية هو (غراب) ، الذي كان قطبيا فأسلم ، ووصل إلى نظارة الإسكندرية مسقط رأسه ومعقل أسرته . وكان من معاونيه (جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه ).ولا بد أن نحفظ هذا الاسماء جيدا (جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه) و ابن خلدون والشاب (ابن غراب أو سعد الدين ابراهيم )، فهم الثلاثة أبطال هذه الفترة فى سلطنة برقوق مؤسس الدولة المملوكية البرجية وابنه الناصر فرج .
وقد قلنا أنه فى سلطنة الأشرف شعبان استطاع الفرنجة القبارصة تدمير مدينة الاسكندرية وقتل الآلاف من سكانها ، وقد فشل فى حمايتها الأمير ابن عرام ، وكان الحاكم المدني أو ناظر الإسكندرية هو (غراب) ، الذي كان قطبيا فأسلم ، وحفيده (ابن غراب ) هو البطل الشاب فى موضوعنا مع ابن خلدون ، أما البطل الثالث (جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه ) فقد كان خائنا نذلا إذ انشغل أثناء محنة الغزو بسرقة البيوت وتجميع الأموال منتهزا فرصة تقاتل أهل الإسكندرية فى الفرار من أبواب الإسكندرية، فقد كان هذا الخائن (جمال الدين بن أصفر عينه) هو المتولي لباب رشيد فى الإسكندرية . وبعد رجوع الغزاة الفرنجة إلى البحر وبداية التحقيق كان كبش الفداء هو غراب ، إذ اتهمه ابن عرام وجمال الدين ابن أصفر عينه بأنه الذي خان وباع الإسكندرية للقبرصي الذي أغار عليها ، وعوقب غراب بالتوسيط ، أي بالقطع نصفين ، وتعليقه قطعتين على أبواب الإسكندرية . وترك غراب مع هذا العار ولده عبد الرزاق الذي سعى إلى إنصاف أبيه ، وحقق ذلك جزئيا بأن وصل إلى منصب أبيه ، وهو نظارة الإسكندرية ، ثم مات ميتة غامضة وترك ولدين ، الأكبر فخر الدين ماجد ، والأصغر بطل قصتنا الشاب (سعد الدين إبراهيم)،المولود سنة 778 هـ والمشهور تاريخيا باسم(ابن غراب ).
3 ـ ونصل إلى سنة 784 من شوال حيث وصل ابن خلدون إلى الإسكندرية ليأخذ طريقه منها إلى مكة للحج ، ولكن يتغير مساره ويقرر البقاء فى مصر، إذ يؤجل موضوع الحج ويسرع بالسفر إلى القاهرة ليجد الأحوال ممهدة له هناك ، عن طريق جمال الدين ابن أصفر عينه الذى أصبح صاحب حظوة لدى السلطان برقوق ، الذي وصل الحكم حديثا ، واشتهر بحبه الشديد للمال وبيعه للمناصب . وكان من الطبيعي أن يصل جمال الدين ابن أصفر عينه سريعا بأمواله التي جمعها من محنة الإسكندرية فى سلطنة برقوق. وهكذا تقلب جمال الدين ابن أصفر عينه عن طريق شراء المناصب فى خدمة الأمراء المماليك إلى أن وصل إلى وظيفة شاد الدواوين ، أو الذي يعاقب كبار الموظفين ويستخلص منهم الأموال المنهوبة، يسرق بعضها ويورّد بعضها لخزينة الدولة .
4 ـ وعندما وصل جمال الدين ابن أصفر عينه إلى هذا المنصب سافر إلى الإسكندرية ليؤمن مستقبله السياسي عن طريق استمالة أسرة ابن غراب التى استعادت مكانتها ، ولذلك أخذ الطفل (سعد الدين إبراهيم) ليعلمه ويربيه ويضعه على طريق المناصب عندما يكبر ، وهو لا يعلم أن الطفل قد تربى عارفا بما فعله جمال الدين ابن أصفر عينه بجده غراب المظلوم . وفى الاسكندرية تقابل جمال الدين ابن أصفر عينه مع ابن خلدون الذي حل بهذا البلد يتلفت حوله عمن يسانده فى حياته المقبلة بمصر. وما كان حلول ابن خلدون ليخفى على أولى الأمر بالإسكندرية ، كما أن وصول ابن أصفر عينه الذي أصبح اسمه ( جمال الدين محمود) فقط ـ لم يكن ليمر بهدوء ، فالمنتظر أن يلتقى الرجلان ، حيث يحتاج كل منهما للآخر فى مستقبله السياسي ،
5 ـ وتتابعت الأحداث تربط بين الثلاثة ابن خلدون وجمال الدين محمود والطفل الصغير ( سعد الدين إبراهيم ) الذي يحمل أحزان أسرته وطموحاتهم ويتمنى الانتقام لجده غراب من غريمه الخائن الذى أصبح صاحب سطوة وسلطة تحت اسم ( جمال الدين محمود ). وهذا التحالف السري بين ابن خلدون وجمال الدين محمود (إبن أصفر عينه سابقا ) يفسر الصعود المفاجئ لابن خلدون فى القاهرة ، إذ سرعان ما تعرف على الأمير الطنبغا الجوبانى صديق جمال الدين محمود ، وعن طريقه قام ابن خلدون بالتدريس فى الأزهر سنة 784 ، واجتمع بالسلطان برقوق فأجرى عليه المرتبات، ثم تولى التدريس بالمدرسة القمحية سنة 786. وأرسل السلطان برقوق مبعوثا خاصا إلى سلطان تونس ليستقدم أسرة ابن خلدون. ونجحت الوساطة وجاءت السفينة تحمل أسرة ابن خلدون ومعهما المبعوث المصري ومبعوث من سلطان تونس . ولكن غرقت السفينة فى ميناء الإسكندرية ، وفى نفس العام (786 ) تولى ابن خلدون منصب قاضى القضاة المالكية ، وشرع فى إصلاح النظام القضائي فى مصر باستبعاد المزورين من الشهود والموقعين ورفض الوساطات فى القضاء ومنع التدخلات الفقهية فى الحكم القضائي . ولكنه أثار زوبعة لم يجد من يسانده فيها حتى السلطان برقوق ذاته،فأضطر السلطان لعزله فى 7 جمادى الأولى سنة 787 .
6 ـ وفى الوقت الذي تفرغ فيه ابن خلدون للتدريس فى الأزهر والمدرسة القمحية كان جمال الدين محمود يترقى فى المناصب ، إذ أصبح استادار برقوق يوم الثلاثاء 3 من جمادى الآخرة سنة 790 .وبعدها بيومين أصبح أقوى رجل مصري فى سلطنة برقوق،إذ جمع بين الأشراف على دواوين الدولة المملوكية الثلاثة : الديوان المفرد أي الأستادارية ، وديوان الوزارة أو ديوان الدولة ، وديوان الخاص المتعلق بإيرادات الخواص . وعظم أمره ونفذت كلمته على حد قول المقريزى عنه فى "الخطط المقريزية " .ونتصور ابن خلدون فى هذه الفترة من العزل عن القضاء المالكي وقد اكتفى بالتدريس وتوثيق صلته بالصبي " سعد الدين إبراهيم " الذي بلغ الثامنة عشرة من عمره ويلازم سيده جمال الدين محمود الأستادار كاتما لأسراره، كما يشارك ابن خلدون فى تثقيف ذلك الشاب ويتعرف منه على خبايا الدولة التي يديرها جمال الدين الأستادار .
7 ـ ثم اختفت دولة برقوق ،فيما عرف بفتنة منطاش ويلبغا الناصري،فقد ثارا عليه واضطراه الى الهرب ، واستمرت محنة برقوق من يوم الاثنين 5 من جمادى الآخرة سنة 791 إلى عودته للحكم يوم الثلاثاء 14 من صفر سنة 792. وفى هذه الفتنة انحدر جمال الدين الأستادار من أعلى المناصب إلى أسفل الدرجات،فأصبح سجينا فى جب القلعة ضمن المماليك من أخصاء برقوق ، وبمكيدة ما تم ابلاغ يلبغا الناصرى المتحكم فى السلطنة بجزء كبير من كنوز جمال الدين محمود فتم مصادرتها.إلا أنه من المؤكد أن جمال الدين محمود الأستادار فى محنته أثناء فتنة يلبغا ومنطاش كان قد قطع كل محبة تربطه بابن خلدون ، لأن نجم ابن خلدون قد علا فى هذه الفترة، إذ تولى التدريس فى المدرسة الصرغتمشية كما تولى شياخة الخانقاة الركنية بيرس ( فى محرم ثم فى ربيع الآخر سنة 791 ) .
وفى قضية مشهورة هي قضية الأعرابي ابن سبع حيث أختلف فيها قضاة القضاء الأربعة، أستدعى يلبغا الناصري المتحكم فى الدولة ابن خلدون ليحكم فى القضية ، برغم أنه كان معزولا من القضاء ، وحكم ابن خلدون بتحويل الحكم ليلبغا ، وكانت تلك سابقة فى التاريخ القضائي،وحدثت فى 25 من ذي القعدة سنة 791 .
8 ـ وانتهت محنة جمال الدين الاستدار بعودة السلطان برقوق للحكم، فأعاده برقوق لمنصبه بالاستادارية . عاد جمال الدين الاستادار إلى مناصبه وأكرم برقوق ابنه فجعله نائبا للسلطنة فى الإسكندرية بلده الأصلي . بانتهاء محنته وعودته لسلطاته كان جمال الدين الاستادار يريد معرفة الخائن الذي كشف عن خزائنه أو بعضها أثناء المحنة ، وجعله يخسر 58 قنطارا من الذهب، ولم يكن يتصور إنه الشاب (ابن غراب )أو( سعد الدين ابراهيم )، ولم يكن أيضا يتصور أن المؤامرة أكبر من عقل الشاب سعد الدين ابراهيم(ابن غراب ).
9 ـ ومن الطبيعي أن يستعد الشاب سعد الدين إبراهيم لذلك اليوم الأسود حين يكتشف سيده انتقامه منه ، والأصح أن يقال أن ابن خلدون، الأب الروحي ، هو الذي كان يتحسب بذلك ، فهو الذي كان يحرك الشاب ، ولذلك فإنه فى نفس اللحظة التي اكتشف فيها جمال الدين الاستادار حقيقة الشاب الذي رباه ، كان قد وقع فى المشكلة الكبرى الأساسية ، مشكلة تفسيره للكنوز التي نهبها من الإسكندرية وقت محنتها سنة 767 . والكنوز الأخرى التي نهبها أثناء توليه المناصب فى سلطنة برقوق . وتم التخطيط بدقة شديدة للإيقاع بجمال الدين الأستادار وهو فى أوج عظمته . إذ ظهر منافس قوى له هو علاء الدين على ابن الطبلاوى ، والى القاهرة ، فاتصل به سعد الدين إبراهيم وحكي له عن خفايا وكنوز وسرقات جمال الدين الاستادار ، واشترط أن يجلس مع الظاهر برقوق نفسه في خلوة ليحكى له، وشرهت نفس برقوق لكنوز جمال الدين ، وكان برقوق مشهورا بتقديس المال فاستدعى الشاب سعد الدين ابراهيم واختلى به السلطان برقوق وسمع له ، ومن هنا بدأت نكبة جمال الدين الاستادار الثانية والأخيرة ، وبها تم انتقام سعد الدين إبراهيم لجده المظلوم من جمال الدين ابن أصفر عينه الذى اصبح اسمه الامير جمال الدين محمود الاستادار ، وانتهى نهاية بائسة بتدبير ابن خلدون وابن غراب.
10 ـ وصعد ابن غراب على جثة غريم جده، وارتقى سلم المناصب . وشهد عام 797 تولى سعد الدين إبراهيم نظر الديوان المفرد فى (11 من صفر) وخلال عامين بعدها قاسى محمود جمال الدين الاستادار وابنه من ويلات السجن والعذاب إلى أن مات ليلة الأحد 9 من رجب 799 ، وقد اكتشفوا بمعونة سعد الدين إبراهيم كل دفائنه من الجواهر والأموال .
11 ـ بعد القضاء على الأمير جمال الدين محمود الاستادار بالتحالف مع ابن الطبلاوى أصبح سعد الدين المنافس الوحيد لابن الطبلاوى الذي إحتل مكانة جمال الدين الاستادار، ولكن العجيب أن ينجح ذلك الشاب الصغير في الإيقاع بابن الطبلاوى أيضاً ، إذ رسم له شيخه الروحي ابن خلدون، أن يتحالف مع شاب أمير مملوكي طموح هو يشبك الشعباني وبنفس الطريقة اعتقل ابن الطبلاوى وأخوه وصودرت أمواله وتعرض للتعذيب حتى حاول الانتحار ، وكل ذلك خلال عام 800 هـ.
أخيرا
1 ـ بهذا أصبح الشاب سعد الدين إبراهيم صاحب اكبر المناصب في السنتين الأخيرتين من سلطنة برقوق، وهو في الثانية والعشرين من عمره . ولم ينس سعد الدين إبراهيم شيخه الخفي ابن خلدون ، إذ جعل برقوق في أواخر أيامه يأمر بتنفيذ إصلاحات ابن خلدون القضائية بفرز وعرض الشهود، وأمر القضاة بذلك في أخريات شعبان سنة 801 ، فلما تثاقل القضاة عن تنفيذ الأمر تدخل ابن غراب ( سعد الدين ابراهيم ) فبعث السلطان برقوق بالبريد إلى الفيوم ليستدعى ابن خلدون ليتولى قضاء المالكية في 10 رمضان سنة 801 .
2ـ ولكن ما موقع ابن خلدون من هذا التألق الذي وصل إليه تلميذه ؟ إن ابن خلدون تولى القضاء في فترة التألق هذه، أي في 16 رمضان 808 .
3 ـ وصار ابن غراب هو المتحكم فى السلطنة المملوكية بعد موت برقوق ، وكاد يصبح سلطانا بتخطيط ابن خلدون ، ولكن يبدو أن استيقظ المماليك فجأة على تدبير ابن غراب وشيخه ابن خلدون ، لذا سرعان ما مات فجأة سعد الدين إبراهيم فى 19 رمضان سنة 808 هـ ميتة غامضة ، ثم لحق به ابن خلدون فمات فجأة أيضاً في 26 رمضان 808 هـ نفس الميتة الغامضة. ولا يمكن أن تكون هذه مجرد مصادفات. وتفسير تلك الوقائع الغامضة له فصل بحثى آخر يستدعى الكثير من استقراء ما بين السطور ـ كالعادة .
4 ـ ولكن أين نظرية العصبية الخلدونية في ذلك كله؟
لقد كانت المرة الأولى التي يلجأ فيها مصري صميم للاستعانة بالأعراب وعصبياتهم .. حدث ذلك من سعد الدين إبراهيم حين استعان بأعراب "تروجه" بجوار الإسكندرية، ولكنهم خانوه وأفشوا سرّه ، فكانوا أحد أسباب موته المفاجىء هو وأستاذه ابن خلدون...وصدق الله العظيم "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً " .
ملاحظة :
فى مشروع (تحويل التراث الى دراما ) تم تجميع كل المعلومات عن تلك الفترة التاريخية من مصادرها الأصلية وأهمها تاريخ ابن خلدون والحوليات التاريخية التى كتبها المقريزى وابن حجر و العينى وابو المحاسن و السخاوى وكل من عاصر الفترة وكتب عنها، وهذه هى المرحلة الأولى ، ثم تمت كتابة هذا التحليل بناءا عليها فى المرحلة الثانية ، وأخيرا تمت كتابة سيناريو درامى يحكى القصة الحقيقية لابن خلدون وتنقلاته من شمال أفريقيا والاندلس الى أن استقر فى مصر، واستفاد السيناريو من بحثنا ( مقدمة ابن خلدون : دراسة اصولية تاريخية تحليلية ) وهو كتاب منشور فى مصر عام 1998 .
ومشروع (تحويل التراث الى دراما ) يحوى عشرات الأعمال بنفس الطريقة. وسبق نشر عشرات القصص على موقعنا ، وهى كلها من قصص هذا المشروع . نقول هذا حفظا لحقنا .