من خبرات ثورة اللوتس المصرية أنها فتحت أبواب الساحة السياسية على مِصراعيها لحركات وجماعات وأحزاب وشخصيات جديدة، للتعبير عن أفكار وتقديم برامج لإصلاح البلاد، وتحسين أحوال العباد. وكما كان يقول الزعيم الصينى ماوتسى دونج، إن الثورات تُخصّب التربة، وتجعل ألف زهرة تتفتح.
من ذلك أن كثيرين دخلوا ميدان السياسة، التى كانت قد ظلّت وقفاً على نُخبة مُفضلة من أعضاء الحزب الوطنى الحاكم، وفى السنوات العشر الأخيرة، على دائرة أصغر من المُحيطين بجمال مُبارك، نجل الرئيس السابق، والذين تمترسوا فى لجنة السياسات!
ويمكن القول إن الملايين الذين تظاهروا فى ميدان التحرير بالقاهرة، وغيره من ميادين المُدن المصرية الأخرى، قد دخلوا مُعترك السياسة، بدرجة أو بأخرى. وهذا ما يُسميه عُلماء الاجتماع السياسى، بالتعبئة الاجتماعية (Social Mobilization)، ومعناها دخول رجل الشارع والمواطن البسيط مُعترك الحياة العامة، كمُشارك، أو على الأقل كمُراقب أو مُتابع.
وهناك قلة من هؤلاء الذين دخلوا مُعترك السياسة، تجاوز طموحهم مُجرد المُشاركة فى العمل العام، إلى الرغبة فى قيادة المُجتمع والدولة فى مصر الثورة. وكان فى مُقدمة هؤلاء د. محمد البرادعى المُدير السابق لوكالة الطاقة النووية بفيينا، والذى كتبنا عنه فى هذه الصحيفة من قبل، ود. عبد المنعم أبوالفتوح، الطبيب والنقابى الفذ والناشط الإسلامى، ود. محمد سليم العوا، القانونى الإسلامى وأحد مستشارى الرئيس السودانى عُمر البشير، فى كيفية تطبيق الحدود. وقبل هؤلاء جميعاً د. أيمن نور، مؤسس حزب الغد.
ولكن أيضاً من الوجوه الجديدة، التى ظهرت على الساحة السياسية، كل من المستشار هشام البسطويسى، نائب رئيس محكمة النقض، والدكتور مدحت خفاجى، أستاذ الأورام بكلية طب قصر العينى.
ويقوم مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية بالمقطم، منذ إنشائه قبل ثلاثين عاماً بتنظيم لقاءات أسبوعية مفتوحة، لمُناقشة القضايا العامة التى تشغل المصريين والعرب والعالم. وليس هناك ما يشغل هؤلاء جميعاً فى الآونة الأخيرة، أكثر من الانتخابات المصرية النيابية والرئاسية القادمة، وبينهما الدستور الجديد. لذلك خصّص مركز ابن خلدون لقاءاته الأسبوعية كل ثلاثاء، فى شهرى أغسطس وسبتمبر، لاستضافة المُرشحين المُحتملين لرئاسة الجمهورية، للتعرف عليهم وعلى رؤاهم وبرامجهم لمصر، والعوالم التى تدور فى فلَكِها.
وخلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر رمضان، استضاف مركز ابن خلدون اثنين من المُرشحين المُحتملين للرئاسة، هم المستشار هشام البسطويسى، ود. مدحت خفاجى. وبين وجبتى الإفطار والسحور، استمع المدعون إلى هذه الشخصيات. وفيما يلى أهم ما يُميز رؤية هشام البسطويسى ومدحت خفاجى.
ولأن البسطويسى، رجل قضاء فى المقام الأول، فهو أحد أشرس المُدافعين عن حُكم القانون، واستقلال القضاء. وهو الذى رفض أن يوقّع على محاضر نتيجة الانتخابات المُزورة عام ٢٠٠٥، لذلك نكّل به نظام الرئيس مُبارك، مما اضطر الرجل إلى مُغادرة البلاد، حينما لاحت له فُرصة عمل قضائى فى دولة الكويت الشقيقة. ولكن لأن له مُريدين كثيرين، ألح عليه بعضهم بالترشح للمنصب الرئاسى.
ولكن الرجل تشغله هموم أكثر وأوسع من الشأن القضائى والقانونى. ولو أردنا الدقة، فإن ذلك الهمّ (استقلال القضاء) كان هو المدخل الذى أخذه إلى السياسة. فهو يذكر كيف كانت تداعيات رفضه خيانة ضميره كقاض، كانت كلها بسبب الاستبداد السياسى والفساد الإدارى، وكيف أن استعادة استقلال القضاء، لا سبيل إليه إلا من خلال نظام سياسى يتمتع بشرعية، لا يعتريها شك أو بُهتان، وأن ذلك بدوره لن يتحقق إلا من خلال نظام ديمقراطى حُر، تكون السيادة فيه للشعب، ولمن ينتخبه الشعب بحُرية ونزاهة.
أما د. مدحت خفاجى، طبيب الأورام الشهير، فقد قدّم لجمهور المُستمعين فى رمضانية ابن خلدون، تشخيصاً لأمراض المجتمع المصرى. وأكد أن أهم هذه الأمراض على الإطلاق هو «الفساد»، الذى يضرب بسمومه فى كل المؤسسات. وضمن مظاهر الفساد هذه: الرشوة، والمحسوبية، ونهب المال العام. وبحسبة لا تخلو من البساطة، أثبت د. مدحت خفاجى أن حجم الفساد المستشرى، يساوى أو يفوق جُملة الدين الخارجى لمصر، وأن اجتثاث هذا الفساد، كما فعلت بُلدان مثل سنغافورة، وماليزيا، سيُمكّن مصر، ليس فقط من تقليص ديونها أو تسديدها تماماً، ولكنه جدير أيضاً، بأن يُصلح المجتمع ككل.
فتسديد الديون يتطلب شحذ الهمّة، ومُراعاة الضمير فى العمل، وبالتالى زيادة الإنتاجية، وسد الهدر والاستنزاف للثروة القومية. واقترح الرجل اقتراحاً طريفاً، وهو حملة تطلب من نساء مصر (أى أمهاتنا وشقيقاتنا وزوجاتنا وبناتنا) الاستغناء عن مصاغهن من الذهب لمدة ثلاث سنوات، يتم فيها رهن عدة أطنان من هذا الذهب، وتسديد الديون الخارجية دُفعة واحدة. وبالتالى سيُمكن توفير ما لا يقل عن عشرة مليارات دولار سنوياً هى قيمة خدمة الديون (أى الفوائد المُركبة) المصرية للخارج، والتى تبلغ مليار دولار.
وعلى هامش تلك الأمسية الرمضانية، سألنى أحد الحاضرين، عما إذا كنت فعلاً قد غيّرت رأيى، حول من أفضله للمنصب الرئاسى؟ وكانت إجابتى هى «نعم». وحيثياتى فى تغيير رأيى أكثر من مرة هى أننى، مثل غيرى من مواطنى مصر المحروسة، عشنا خلال ستين سنة بلا اختيارات تُذكر، مثلنا مثل من لا يتناول إلا نوعاً واحداً من الطعام، إلى درجة الملل. وفجأة وجد أمامه «بوفيه» مفتوحاً، مُتعدد الأطباق، مما لذّ وطاب، من أجود أنواع الطعام والشراب.
وهذا هو شأن من أعلنوا نيتهم للترشح. فهناك سبعة على الأقل، احترت بينهم، لأنهم جميعاً يصلحون، ولأنهم جميعاً، فى رأيى، أصلح من رئيسنا السابق - وهم عمرو موسى، ومحمد البرادعى، وأيمن نور، وهشام البسطويسى، ومدحت خفاجى، وعبدالمنعم أبوالفتوح، ومحمد سليم العوا... وربما سيظهر آخرون يصلحون أيضاً.
وسيكون الفيصل فى النهاية هو برنامج كل منهم، وقدرته على التواصل مع شباب مصر، الذين يرجع إليهم الفضل الأول فى تفجير، ما أعتبره، أعظم ثورة فى تاريخ البشرية.
فتحية لكل نجوم السياسة الجُدد
وعلى الله قصد السبيل