المحكمةُ كالمعبد والمسجد والكنيسة، يدخل المرءُ إليها خاشع القلب، خفيض الصوت، ينتظر الكلمةَ الفصلَ من ممثل العدالة السماوية و .. الأرضية!
بعضُ القُضاة يتلهف التاريخُ لكتابة أسمائـِهم فور صدور أحكامِهم، وبعضُ القضاة يمسح التاريخُ أسماءَهم قبل صدور أحكامهم!
القاضي كالفارس قد يكون نبيلاً فلا يترجل عندما يتحدىَ، وقد يكون نصفَ فارسٍ فلا يكترث لمطرقتـِه نصفُ الحاضرين، وقد يكون تابعاً للسلطة التنفيذية فتأتي توجيهاتُ القصر لتلغي الدستورَ والقانونَ والأحكامَ والنيابةَ والدفاعَ، ويتدثر سيّدُ القصر، متخفياً أو ظاهراً، بالرداء الاسود حتى لو كان نائماً في قفص للمتهمين أو للقرود أو لأكثر المسجلين خطراً.
أعترفُ لكَ، سيدي المستشار، بأنني لم أسمع عنكَ قبل أنْ يتناقل العالم كلـُّه صورتـَكَ وأنت تتعهد بمحاكمةٍ عادلةٍ، وحازمةٍ، وقاعةٍ لا تحتاج فيها لأنْ تكرر أمراً، أو سؤالاً، أو طلباً سواء كان إلى المتهمين أو المحامين أو الحاضرين!
أمامك التاريخ فاتحاً ذراعيه ليحتضنك فيتوارث حُكْمـَك العادلَ جيلٌّ إثرَ جيلٍ، وتعيد للقضاءِ هيبتـَه بعدما كانت السلطةُ القضائية تستأذن المتهمَ الماثلَ أمامـَك في كل شاردةٍ وواردة، حتى نتيجة انتخابات الرئاسة عام 2005 قام المتهمُ، الرئيسُ المخلوع، بتحديد النسبة التي يراها مناسبةً للايحاء بديمقراطية ولو كانت استبداداً مقـَنَّعاً، وبنزاهةٍ تطفو فوق سطح تزويرٍ قذرٍ ومقزِزٍ و .. عفن!
هل أنت قاض للنظر في قضية بدأتْ نسجَ خيوطـِها مع فجر الخامس والعشرين من يناير أم قاض أمامه متهم أسّوَد التاريخ، ذئبي الأنياب، ضبعي القلب، صخري المشاعر، لو تجسد الفسادُ رجلاً لكانه، ولو استدعيتَ للشهادة ضده ثمانين مليوناً لرقصوا طرباً، فالشهادة ضد مبارك بسبعمئة حسنة كما أن شهادة عمر سليمان بسبعمئة سيئة وهو الذي كان وسيطاً بين القاتل والقتيل .. بين آلة القمع الإسرائيلية والفلسطينيين الواقعين بين فكـّيها!
سريةُ المحاكمة بذرتْ شكوكاً لانهائيةً في صدور المصريين الذين انتظروا هذا اليومَ لسنواتٍ طويلةٍ، ولو سألتَ أكثرَهم فاقة، وأشدَّهم فقراً لرأيتـَه علىَ استعدادٍ أنْ يستبدل بطعامِ العشاء لأولادِه بدلةً حمراءَ يشتريها للمتهم الراقدِ أمامك، بل والتبرع بثمن حبلٍ غليظ يلتف حول عنق المحكوم عليه بالإعدام .. طاغية مصر البائد.
سيدي المستشار أحمد رفعت،
إذا كانت القضيةُ أكبرَ منكَ فـَدْعـَها لمن هو في حجمِها لئلا يأتي اليوم الذي يـُخْرِج لنا مبارك لسانـَه، بعدما تحترق أوراقُ الثبوت وتصبح عدماً كعشراتٍ من المؤسسات والمخازن والمكاتب وأقسام الشرطة التي تولـَّت النارُ تبرئةَ مـُتـَّهَمين في جعل ملفاتـِهم رماداً تذره الرياح.
تخيلّتـُكَ قبل المحاكمةِ بثمانيةِ أعوام عندما نشرت مقالي ( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك)، وظننتُ أنَّ وصولـَك إلىَ المنصة يعني أنَّ الحاضرين كأنَّ علىَ رؤوسهِم الطير، وأنَّ أنفاسـَهم هي الصوت الوحيد المسموع في المعبد .. أعني القاعة.
لكنك، سيدي القاضي، لم تكن حاسماً أو حازماً مع فوضىَ ضربت أطنابـَها بين ألسُنِ المدّعين بالحق المدني، وأيدي فتواتٍ يزعمون أنهم دارسو حقوق، وحافظو هيبة الرداء الأسود.
عندما تغضب، تنسحب بدلا من أن تطرد المشاغبين والفوضويين الذين لم يحترموا توجيهاتك، وأوامرَك، وطلباتك المتكررة والصبورة بالعودة إلى مقاعدِهم.
كمْ من الوقت تحتاج للنظر في جرائم مبارك ورجالـِه وزبانية الاستبداد الذين جثموا فوق صدور أبناءِ شعبـِنا لثلاثة عقود؟
قالوا لكَ بأن مهمتك محصورة في فترة محدودة لعل الشهود يجتمعون خلالها على كلمةِ باطل، وادعاءاتِ زور فيخرج مبارك رافعاً رأسه، ومنـكسّاً رؤوسنا، ويوجه وريثـُه سبـّابةً مستقيمة إلىَ عيونـِنا، لكن أولىَ قرائن عدالة المحكمة هي تجميع جرائم المتهم منذ ثلاثين عاماً، لا تستثني منها واحدة، وتختصر الوقت، وتستغني عن محامين وشهود يؤجلون العدلَ العاجلَ ليصبح ظـُلماً بطيئا.
سيدي المستشار،
استحلفك بالله أنْ تخاطب ضميرَك مرة أخرى، وتعيد تأمل المشهد الكارثي لعهد أغبر داس خلاله الطاغيةُ على كل القيم والمباديء والحقوق، فالراقد أمامك ليس مجرماً لثمانية عشر يوماً فقط، لكنه دراكيولا العقود الثلاثة، وبامكانك لو أردت قراءة عناوين جرائمِه فقط، في انتهاك كرامة أبناء بلدك، والسجون والمعتقلات، والاغتصاب والحرق، والكوارث المتعمدة أو نتيجة الاهمال، وبيع أعضاء أجساد المصريين في مستشفيات استثمارية، وتهريب مليارات من أموال الشعب الغلبان، وتراجع دور مصر في كل المجالات، وتمكين حيتان الفساد من قوت أولادنا، وتخريب الأرض الزراعية، وتسميم طعام المصريين، واشعال الفتنة الطائفية، والفشل في التعليم والتنظيم والادارة والتخطيط والسياحة والإعلام ، وغض الطرف عن تهريب الآثار، وصناعة ضباط أمن ساديين لتعليم المصريين آداب العبودية، وتخريب كل مناحي الحياة كأنه أقسم أن يعيد مصر إلى العصر الحجري.
القضية، سيدي المستشار، هي عهدُ مبارك برُمته، وبكل ساعة ودقيقة وثانية مرَّت علىَ شعبـِنا وهذا الطاغية يمارس القمعَ والقهر والاذلال، ومن أراد لكَ أن لا تنظر قبل الخامس والعشرين من يناير، فقد أعَدَّ العدة للاحتفال بتبرئة عميد الطغاة.
يمكنك أنْ تكون قاضياً مُحايداً أمام متهمٍ لا تعرفه، وجريمة لا تتضح معالمـُها إلا بشهود النفي والاثبات والأدلة والقرائن، أما قضية شعب مصر التي وضعتها ثورة يناير المجيدة أمانةً في عنقـِك فهي غيرُ قابلة للحياد التام، ولو بعث اللهُ كلَّ الأنبياء والمرسلين ليحلوا محلك لجلسة أو أكثر لما استطاع أيٌّ منهم أن يكون محايداً حتّى لو كان الوحيُ معه أو المـَلـَكان عن اليمين وعن الشمال قعيد.
لا أدعوك لظـُلمٍ، معاذ الله، ولكن أدعوك للانحياز لشعبِك كلـِّه كما انحازت المحاكمات الكبرى ضد الطغاة والقتلة والسفاحين، وستجد بين يديك عشرات الآلاف من الوثائق التي تـُدين المتهمَ الراقدَ أمامك، فإذا حكَمْتَ عليه بالاعدامٍ شـَنـْقاً سبعين مرة فهو حُكـْمٌ مُخـَفَفٌ أقرب إلى البراءة منه إلى سَكـْينة وهدوءٍ وسلامٍ تنعم بها صدورُ أمهات الشهداء والمعذَّبين والمغتصـَبين في عهده الآثم.
سيدي المستشار،
ثورة 25 يناير قامتْ من أجـْلـِك أنتَّ أيضاً، فالقضاةُ كانوا أصفاراً في عهد المتهم الراقدِ أمامك، وزميلـُك الذي تلقى ضربة بالحذاء علىَ وجهـِه كان نموذجاً مُجَسّداً لقيمةِ السـُلطة القضائيةِ في عهد المخلوع اللعين.
العدالةُ أنْ تـُعيد الموافقةَ علىَ بـَثِّ الجلسات علانية ليعرف العالمُ كلـُّه مصرَ الجديدة .. مصر الثورة الشبابية، وأنْ تأمر بحبس أيّ محامٍ صانعٍ للهرج والمرج والفوضى، وأنْ تجعل قاعةَ المحكمة كأنها مكانٌ للعبادة، وليست مسابقةً لاعوجاج اللغة العربية، وتسليك الحنجرة بالصياح.
أنت أكبر من الصورة التي ظهرتَ بها باحثاً عن قدّاحة أو علبة كبريت لفكِّ الأحراز، وطالباً مثى وثلاث ورباع من المحامين أنْ يتفضلوا بالعودة إلى أماكنـِهم، فإذا بهم لا يكترثون لكلمةٍ من رئيس محكمة القرن.
مرة أخرى أكرر على مسامعِك، سيدي المستشار، أنْ تنسحب من القضية إذا شعرتَ أنك أصغر منها، فالتاريخ لن يرحم ترددَك وصمتـَنا، وسيضعها في هوامشه اللامقروءة إذا تقزّمت بين يديك، وسيحتفل كلُّ الطغاة بعودة الروح إلىَ مستبدٍ مـَنـَحَتْكَ إياها أمجد وأطهر وأجمل الثورات لتعيدها إلىَ بارئها، فأعدتـَها أنتَ إلىَ جسدِها نصف الميـّت.
أتمنى أنْ أكون مُخطئاً في انحسار تفاؤلي بتوليـّك أهم قضايا العصر وكل العصور، فالشواهدُ غيرُ مريحة، وثقة المتهمين التي بانت على وجوهـِهم تفزعني من حُكمٍ لم يصدُر بـَعْدُ، وكابوسٍ بالبراءةِ كان إلىَ وقتٍ قريبٍ حُلماً بامتثال ميزانـِك لعدالةِ السماء التي أمَرَ اللهُ بها أهلَ الأرض.
لو برّأ بقيةُ الكـِبارِ كبيرَهم السابقَ فلن تعرف الثقةُ في السلطة القضائيةِ طريقـَها إلىّ قلبي مادمت حيـّاً، لأنني بكل بساطة كنت أضع مئةَ علامةِ استفهامٍ علىَ القول المأثور عن نزاهة قضائـِنا، والفرصة التاريخية أمامك لتأكيد أو تكذيب هذه الكلمة.
سيدي المستشار،
أرجوك، قـُل لظنوني أنها غيرُ حقيقية، واكتب الجزءَ الثاني من تاريخ مصر بعدما كتب الجزءَ الأولَ شبابُ ثورةِ 25 يناير المجيدة!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 15 سبتمبر 2011