1 ـ كانت كل الشواهد تؤكد السعادة التي ترفل فيها زوجة عبد الرحمن بن هشام المخزومي ، ونحن نتحدث عنها في الشهور الأولى من زواجها بسيد مخزوم في نهاية العصر الأموي ، ولكن بمرور الزمن بدأت سحب الضيق تتجمع وبدأت ألسنة النسوة تتحدث عنها تصفها بأنه لا تنجب ، وخافت الزوجة الشابة أن تفقد سعادتها أو يضيع منها حب زوجها لها. وبدأت تبحث عن كل طريق يمكنها من الإنجاب ، وجربت وصفات كثيرة ، وأثمرت إحدى تلك الوصفات البدائية وشعرت بالحمل ... ولم يتحمل الزوج الفرحة فمات قبل أن تكتحل عيناه بمرأى المولود الذي تمناه طويلاً ، ودفنت الأرملة الشابة أحزانها على حبيبها في آمال عظيمة في أن يكون المولود ذكراً يعوضها عن أبيه ويرث جاهه ويحمل اسمه .وتحققت آمالها فرزقها الله تعالى بولد ذكر، ولكن كانت المفاجأة القاسية ، فابنها الوليد نزل مشوهاً تشويهاً بشعاً بسبب الوصفة البدائية التي تناولتها ، فزعت النساء من رؤيته ، كانت جبهته مرتفعة وعيناه غائرتين ، ورأسه كبيراً مفلطحاً ومنكباه خارجين بحيث إن رقبته لم تكن واضحة ، بل كان من الصعب رؤية رقبته ، وذلك مع قصر حجمه بطريقة تجعله أقرب للقزم من الشخص العادي القصير..
2 ـ وابتلعت الأم المسكينة صدمتها في وليدها ، وانكبت على رعايته ، وكلما أحس الصغير بالاغتراب عن رفاقه ازدادت به عناية ، واستطاعت الأم بحنانه الفائق أن تجعل من حياة وحيدها محمد بن عبد الرحمن بن هشام حياة معقولة مقبولة ، وتعلم الصبي الرضا بالمقسوم وأن يبتسم حين يناديه الناس باللقب الذي غلب عليه وهو لقب "الأوقص" وقالت له أمه: يا بني إنك خلقت خلقة لا تصلح معها لمعاشرة الفتيان فعليك بالدين والعلم فإنهما يتممان النقائص ويرفعان الخسائس ، وهكذا حددت له أمه الطريق مقدماً ، وأتاحت له الفرصة لكي يثبت كفاءته بعيداً عن سخرية الهازئين ودهشة الناظرين حين يرونه لأول مرة..
3 ـ تعلم "الأوقص" على أيدي كبار العلماء ، في مكة مثل عمه خالد بن سلمة المخزومي وغيره ، وأثبت نبوغاً في الفقه ، وأتاح له ذلك أن يحتل المكانة الرفيعة التي كانت لأبيه من قبل برغم التشويه الخلقي الذي لا ذنب له فيه. وسقطت الدولة الأموية وحلت محلها الدولة العباسية وما لبث أن جعلوه قاضياً لمكة والحرم ولم يكن قد بلغ الثلاثين بعد ، وقرت أمه عيناً بعد أن تبوأ ابنها المكانة التي كانت تحلم له بها ، وبقي شيء آخر ينغص عليها سعادتها وهو أن تعثر له على زوجة ترعاه ، حتى تموت الأم وهي مطمئنة على ابنها..
4 ـ وبمشاعر الأمر راحت تخطب لابنها من كرائم البيوت في مكة ، وهي تظن أنهم ينظرون لابنها نفس نظرتها له ، ولكن الرفض المستمر لتزويجه أقنعها أنهم لا يرون في ابنها إلا مجرد قزم شائه المنظر مهما علا شأنه ، وأنه ما من حرة من حرائر مكة ترضاه زوجاً لها . وتحاملت الأم الصبور على نفسها ، ورضيت بأن تخطب له بنتاً لرجل من الموالي أقل شأناً من أعيان مكة ورضي الرجل بمصاهرة بني مخزوم وأن يكون صهراً لقاضي مكة الأوقص ، ولكن الفتاة عندما رأته انهارت وصمتت على رفضه وهددت بأن تقتل نفسها إن أرغموها على الزواج منه ، وما كان للقاضي أن يستحل زواجها رغم أنفها ، فترك المجلس متنازلاً عن الصداق ، وعدا لبيته يكتم أحزانه ويصبر ويصابر ، ولم تحتمل الأم الرءوم ما يجري لوحيدها فوقعت في مرض أسلمها للموت متحسرة ..
5 ـ وبموتها ازدادت حاجة الأوقص إلى رفيقة تؤنس وحشته وتلبي حاجته ، ولم يفقد الأمل في النساء ، وعوّل على أن يشتري جارية تفي بالغرض ، وفي مجلسه للحكم كان موضوع شراء جارية يلح عليه، ولكن مشكلة بسيطة كانت تؤرقه ، هي حياؤه من ذهابه لسوق الجواري ، وحياؤه من إرسال من يشتري له الجارية المطلوبة ، ولكن جاءه الحل إلى حيث يجلس . إذ سرعان ما دخل عليه رجل غريب طالباً الإنصاف. والعادة أن الغريب الوافد إلى مكة أو الحرم سرعان ما ينكشف حاله بمجرد أن يرى الأوقص ، فأهل مكة كانوا قد تعودوا على منظر الأوقص العجيب، ولم يعد يثير فيهم أي استغراب ، أما الغرباء فكانوا يصابون بالرعب والذهول حين يرونه ، فإذا كان أحدهم أمام الأوقص في مجلس الحكم فإنه يظل يرتعد وينتفض من الرعب خوفاً من منظره إلى أن يأذن له الأوقص بالقيام فيفر هارباً كأنه يهرب من الشيطان..
وذلك ما حدث من الرجل الغريب الذي جاء "الأوقص" في مجلس القضاء فارتعب حين شاهد القاضى بمنظره المرعب ، ولكن تشجيع القاضى الأوقص جعل الرجل يهدأ ويحكى قضيته ، إذ أخذ يشكو له خداع أحد التجار "النخاسين" باع له جارية على أنها دون العشرين وحين جاء أوان التسليم أعطاه أخرى أكبر سناً وأقل جمالاً ، فلما ذهب إليه وجده قد رحل . وحين كان الرجل يحكى قصته أمام الأوقص كان الأوقص يبتسم له ولقضيته التي وجد فيها حلاً لمشكلته هو، وعرض على الرجل أن يشتري منه الجارية بنفس المبلغ الذي دفعه للتاجر النصاب ، ووافق الرجل المذهول ، وتناول كيس المال من الأوقص وخرج لا يلوي على شيء تاركاً الجارية فى مجلس القاضي..
6 ـ نظر الأوقص إلى الجارية التي أصبحت ملكه فوجدها أقرب للدمامة منها للجمال ، وحين فهمت هي أنها أصبحت ملكاً لذلك المخلوق المرعب أطلقت ساقيها للريح ، ولم تبتعد طويلاً ، إذ سرعان ما أعادها أعوان القاضي إلى بيته ، وأقاموا عليها حرّاساً إلى أن جاء إليها في الليل.دخل عليها الأوقص فوجدها منكمشة على نفسها في ركن الحجرة ترتجف وترتعد .. حاول تهدئتها باللين والرفق ولكنها ظلت مرتعبة رافضة . ولم ييأس الأوقص . ظل يحسن معاملتها شهراً بأكمله ، ولا يقترب منها إلا بالكلمة الطيبة واللفتة الحانية ، وأفلح أخيراً في أن جعلها تهدأ وتتقبل وجودها معه ، وبدأت تتحدث معه ولكن مع التحفظ الشديد ، ثم أخذت تنبسط معه فانشرح وانتعشت في داخله الآمال ، ولكنه ما إن عزم على أن يفاتحها في أن يعقد عليها زوجا لها فإذا بها تسبقه وتتضرع إليه أن يقبل أن يكاتبها على مبلغ ، أي يجعلها تعمل لتجمع له مبلغاً تشتري به حريتها منه . وكانت صدمته فيها شديدة ، وعرف أن تبسطها معه كان لهذا الهدف لا غير ، وكالعادة التي ورثها عن أمه دفن أحزانه خلف رداء الصبر ووعدها خيراً في الصباح وأمرها أن تأتيه في مجلس القضاء ليعلن أمام الشهود أنه سيكاتبها في نظير المبلغ الذي دفعه في شراءها . وباتت في حجرتها مبتهجة . وفي الصباح كانت أمامه في المجلس وقد حضره أعيان مكة ، فأعلن أمامهم رغبتها في أن يكاتبها على نفس المبلغ الذي اشتراها به ، ولكنه لن يفعل ذلك ، بل سيعطيها المبلغ هدية ، وسيمن عليها بالعتق ، وهي الآن حرة ، وهم شهود على ذلك ، وليس عليها تجاهه أية تبعة أو مسئولية ، إذا شاءت أن تعيش معه لتخدمه فلها أجرها بالمعروف ، وإن أرادت الرحيل فهي وذاك. لم تصدق ما تسمعه ، ودمعت عيناها . وتركت المجلس وهي تشعر أنها تحلق في الفضاء كالطير الطليق ، وأطلقت ساقيها للريح تسير في طرقات مكة وشعابها بدون هدف لمجرد أن تثبت لنفسها أنها حرة تسير كيف شاءت. وفي آخر النهار شعرت بالتعب والجوع ، وقادتها قدماها إلى بيته ، بيت الأوقص . دخلت عليه فوجدته يـُعدّ لنفسه العشاء فقدم لها الطعام وهو يبتسم لها ، أكلت معه وهي تبتسم له من قلبها ، حكى لها نوادر من السخريات والمفاجآت التي تحدث حين يراه من لا يعرفه ويرتعب من منظره ، كان يحكي لها بتلقائية ويضحك .. وكانت تتحرج من أن تشاركه في الضحك ، ولكنه حين حكى لها نادرة المرأة المكّية ، لم تتمالك نفسها من الضحك ، قال لها إنه كان في الحرم يرفع يديه داعياً الله تعالى يقول: اللهم أعتق رقبتي من النار ، فسمع امرأة تقول : وأي رقبة لك ؟. وكانت ليلة سعيدة انتهت باتفاقهما على الزواج .. وفي منتصف الليل اجتمع الشهود وتم عقد القران .. ودخل الأوقص أخيراً بالزوجة التي أرداها وكانت سعادتها تفوق سعادته لأنها وجدت فيه كل ما تتمناه الزوجة في زوجها..
ومات الأوقص ( محمد بن عبد الرحمن بن هشام ) عام 169 هجرية.
ملاحظة : فى مشروع (تحويل التراث الى دراما ) تم تجميع كل المعلومات عن الأوقص من بين سطور التاريخ ، وهذه هى المرحلة الأولى ، ثم تمت كتابة هذه القصة بناءا عليها فى المرحلة الثانية ، وأخيرا تمت كتابة سيناريو درامى عليها ، بنفس العنوان ( الأوقص والنساء ). ومشروع (تحويل التراث الى دراما ) يحوى عشرات الأعمال بنفس الطريقة. وسبق نشر عشرات القصص على موقعنا ، وهى كلها من قصص هذا المشروع . نقول هذا حفظا لحقنا .