البناية الشاهقة المطلة على بيت الله الحرام وكتاب تاريخ آل سعود.

Brahim إبراهيم Daddi دادي في الإثنين ٢٩ - أغسطس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

عزمت بسم الله،

البناية الشاهقة المطلة على بيت الله الحرام وكتاب تاريخ آل سعود.

بعد عدة أعوام من زيارتي لأرض الله المقدسة التي حرمها و كان فيها أول بيت وضع للناس مباركا وهدى للعالمين. (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)(96).آل عمران .

فجعل الله تعالى الكعبة البيت الحرام قياما للناس، ولم يجعل الله بيتا حراما آخر في مكان آخر، كما يطلقون على مسجد المدينة ومسجد القدس ( بالمسجد الحرام).يقول المولى تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ."97" المائدة.

والله وحده أعلم من الذي وضع قواعدها ومن بناها أول مرة، إلى أن شاءت إرادة الله تعالى أن يرفع قواعدها نبي الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، (وَإِذْ يَرْفَعُإِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(127). البقرة. فقد كان الناس من ذلك العهد يحجون إليها ويطوفون حول البيت الحرام، ثم بعث الله آخر الأنبياء محمدا عليه السلام ومعه الكتاب المبين الذي جاء مهيمنا على ما سبقه من الكتب المنزلة، فهو كتاب تفرد الخالق سبحانه بحفظه بقدرته، فلا يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(42). فصلت. قال رسول الله عن جبريل عن ربه: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِالَّذِي نَزَّلَعَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَمِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا(136). النساء.

لقد جاء في الكتاب العزيز أمر من الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِفَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَاوَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ(158)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ(159). البقرة.

البيت الحرام لا إشكال فيه فالناس تطوف حوله كل يوم ليل نهار، أما الصفا والمروة فقد كان آل سعود غيروا شعيرة من شعائر اللهلما أدخلو نصف الصفا ونصف المروة إلى الحرم فكان الناس يسعون بينهما مخالفين في ذلك أمر الله الذي أوجب الطواف بهماكما يطاف حول الكعبة المشرفة، والحق أقول إن آل سعود أخيرا قد تداركوا الأمر فأدخلوا الصفا والمروة كلية إلى الحرم، فأصبح اليوم الناس يطوفون حولهما، لا كما كان الناس من قبل يسعون بينهما. فشكرا لمن تنبه لهذا الأمر واستدرك الخطأ الذي كان من قبل.

 

أود أن أعترف بأن الإدارة العامة للحرم مشكورة تقوم بأعمال جليلة، من نظافة للحرم وما حوله، وتفريش أرضه بزرابي مبثوثة، وسقاية الحجاج وتوسعة الحرم من الجهة الغربية والشمالية وتوفير الأمن للناس، كل هذه الجهود تعتبر جهودا كبيرة، نرجو الله تعالى أن يثيب المخلصين منهم أعمالهم لله تعالى.

 

أما بالنسبة لملاحظتي: فتتمثل في البناء الشاهق الذي يطل على البيت الحرام، بهندسة معمارية أجنبية، ناطحات للسحاب تعلوه ساعة شبيهة بساعة بڤبن في لندن، وفي الليل تنبعث منها أضواء مختلفة تشرئب أعناق الطوافين إليها، فتنسيهم أنهم في بيت الله الحرام يطوفون، ويقرأ المشرئب عنقه إلى تلك الساعة المكتوب تحتها ( وقف الملك عبد العزيز للحرمين). وهنا أتساءل أولا :

لماذا بني ذلك البناء الشاهق مطلّا على بيت الله الحرام، حتى صارت الكعبة تبدوا صغيرة جدا أمام ذلك البناء العالي الضخم ومحولا أنظار المسلمين؟

ثانيا: إذا كان الملك عبد العزيز أوقف وقفا لخدمة الحرم فلماذا يكون أضخم وأعلى من بيت الله الحرام التي تبدوا صغيرة أمامه؟

ثالثا: هل يريد ورثة الملك عبد العزيز بذلك البناء الشاهق التكفير عن الدماء التي سفك من أجل الصعود على أكتاف القبائل في الجزيرة العربية ليملكهم وأرضهم؟

رابعا: هل أبناء الملك عبد العزيز بما فيهم الملك الحالي عبد الله يقدمون للشعبهم أبسط الخدمات فلا نجد من يتسول ويسكن البيوت القزديرية، ولا يجدون العيش الكريم في أرض أفاء الله تعالى عليها من الخيرات ليبنوا بالفائض مثل تلك البناية المشوهة لبيت الله الحرام؟؟؟!!!

 

سوف تجدون الملحق قريبا بعون الله ولمن يريد قراءة الكتاب الذي ألفه الأستاذ ناصر السعيد فعليه بالرابط: http://www.4shared.com/document/T4grvXWu/___online.html

http://almekdad.wordpress.com/2009/01/16/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A2%D9%84-%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF-%D8%AD%D9%85%D9%91%D9%84-%D9%86%D8%B3%D8%AE%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D9%86/

 

والسلام عليكم وتقبل الله منكم الصيام وكل الأعمال الصالحة وعيدكم سعيد .

 

لمن لا يعرف الملك عبد العزيز وأبنائه فإليه ما يلي:

 

 

 

 

ناصرالسعيد ... خطفه ابو الزعيم في بيروت وباعه للسعودية ... الملك فهد عذبه ورماه وهوحي من طائرة هليوكوبتر

 

بعد يومين تمر ذكرى جديدة لاختطافالمعارض السعودي ناصر السعيد مؤلف كتاب ال سعود ... وكان ناصر السعيد قد اختطف فييوم 17 كانون الاول/ديسمبر عام 1979 في بيروت على يدي جماعة ابو الزعيم بطلب من عليالشاعر سفير السعودية في لبنان انذاك - وكوفيء الشاعر لاحقا بمنصب وزير اعلام- ووفقا لما تذكره المعارضة السعودية فان ناصر السعيد نقل الى الرياض وقام الملك فهدشخصيا بتعذيبه ثم رماه من طائرة هليوكوبتر وهو حي

يعتبر ناصر السعيد أول معارض لنظامالحكم في السعودية منذ نشوءها عام 1932.ولد ناصر السعيد في مدينة حائل شمال وسطالجزيرة العربية عام 1923 (أي بعد سقوط حائل بيد عبد العزيز آل سعود بعامواحد).انتقل إلى الظهران عام 1947 للعمل في استخراج النفط وتكريره مع شركة ارامكووعاش مع بقية العمال السعوديين ظروفاً معيشية صعبة فقاد مع زملاءه هناك سلسلة منالإضرابات للمطالبة بتحسين ظروفهم المعيشية والسكنية ورضخت الشركة لممطالبهم. وفيعام 1953 قاد ناصر إنتفاضة العمال للمطالبة بدعم فلسطين وتم اعتقاله وارسل إلى سجنالعبيد في الإحساء وافرج عنه لاحقاً وحكم عليه بالإقامة الجبرية في مدينة حائل،وبعد وفاة الملك عبد العزيز اقيم حفل استقبال للمك الجديد (سعود) في مدينة حائلالقى فيه ناصر السعيد خطاباً طالب فيه بإعلان دستور للبلاد وبإصلاح وتنظيم المواردالمالية للدولة وحماية الحقوق السياسية وحقوق حرية التعبير للمواطنين وحقوق الشيعة،وفي عام 1956 غادر من حائل إلى مصر بعدما وصلته معلومة عن صدور أمر بالقبض عليهوإعدامه

اشرف ناصر السعيد على برامج إذاعيةمعارضة للحكم السعودي في إذاعة صوت العرب في مصر ثم انتقل إلى اليمن الجنوبي عام1963 وانشأ مكتب للمعارضة هناك. انتقل بعدها إلى دمشق ثم إلى بيروت التي اختطف فيهافي 17 ديسمبر 1979 لصالح الدولة السعودية.لقد ولد ناصر السعيد بعد سقوط حائل في يدعبد العزيز بعام واحد أي سنة 1923 حيث كانت كراهية اهل حائل لابن سعود على اشدهاالي درجة انهم كانوا يطلقون على المواليد الذين يولدون بعد سقوط حائل اولاد السقوط،يقول ناصر انهم نظروا اليه حين مولده نظرة عدم استحسان وكأنهم لا يريدون ان  يولد أحد بعد سقوط حائل بيد الاعداء.

وفي هذا المناخ تربي ناصر السعيد عليكراهية آل سعود ،حيث كانت جدته حسنا السعيد تجمع النساء كل يوم خميس ،وتلقي فيهنمحاضرات أشبه ما تكون بالسياسية ، وقد ذكر ناصر السعيد أسماء بعض ضحايا اسرته فيالدفاع عن حائل ومنهم عبد الله العيسي السعيد وعيسي السعيد وسليمان السعيد وفهدالسعيد .ويذكر ناصر انه دخل السجن مع جدته حين كان صبيا ، اذ رفضت جدته صدقة ارسلهااليهم والي حائل عبد العزيز بن مساعد بن جلوي مع أحد الخدم ،فما كان من الجدةالعجوز الا ان ضربت الخادم ،فقبض عليها ،وقبل الافراج عنها بواسطة اهل حائل حرصالوالي عبد العزيز بن مساعد بن جلوي علي شتمها ،وكان ذلك سنة 1930.بعد فرض الإقامةالجبرية على ناصر السعيد، في مدينة حائل، توفي الملك عبد العزيز وتولى الحكم منبعده ابنه الملك سعود. وبعد أن تولى سعود الحكم قام بزيارة لمنطقة حائل، فألقى ناصرالسعيد خطاباُ هناك، في 11 ديسمبر 1953 جاء وكأنه إعلان معارضة، أو هو البيان الأوللـ " اتحاد شعب الجزيرة العربية " وهذه مقتطفات منه

" باسم الله وباسمالحق، باسم العمال المعذبين، باسم الفلاحين الذين اصبحوا فريسة للمرابين، باسمالبدو المشردين، باسم الشعب العظيم الذي حرم من نور العلم طويلا طويلا يا :طويلالعمر!"
"
هل تجشمتم مصاعب الطرقات الوعرة، بقصد الدعاية لنفسك أم بقصد الترفيه؟! إذ ليس في مئات المدن والقرى والصحاري التي مررتم بها إلا الفقراء الذين رأيتهميمدون :ايديهم، ضارعين من الفقر والمرض والجهل اللعين ..وكان بإمكانك أن تقطع هذهالمسافة بالطائرات ولكنك قطعتها بالسيارات ..ولهذا نحاول أن نقنع انفسنا أنك جئتحسب الظن :بقصد الإطلاع علي ما يلاقيه شعبنا، وعرفت أنت بنفسك بعد أن انكسرت العديدمن سياراتك أنه لا يوجد طريق واحد معبد ..كما لا يوجد علاج ولا معالج ولا ماء نظيفصحي :ولا دواء ولا عمل ولا مساكن تليق بالانسان .وهذا ما جعلك تسكن في الخيام في كلمدينة تنزل بها، بما فيها حائل، لعدم وجود ما يصلح لسكناك كملك من مساكن شعبنا

وعن أرامكو يقول
" ولهذا فقدشردنا وعذبنا وسرحنا من العمل، حتي ان العمال قد سجنوا سجنا جماعيا خلف الاسوارالشائكة في وهج الشمس المحرقة وقطع عنهم الماء ومنع الطعام ،ثم سمح لهم :اخيرابالطعام ،ولكنه طعام سم يا سعود .هل تصدق ؟ لقد وضع لهم السم في طعام هذا المطعمالمسمي بمطعم أبو ربع ريال ومات سبعة عشر من العمال ،وقد اسعف الباقون :بغسيلبطونهم ،وادعت الشركة الاستعمارية ارامكو انه حدث لهم تسمم غير مقصود لأن قدورالطعام غير نظيفة ،ولكنه تأكد من اقوال أحد الاطباء الفلسطينيين الذين يعملون :فيالشركة نفسها وكشفوا ضمن الاطباء علي حالة العمال المصابين ان التسمم حادث عن طريقسم حقيقي عثروا علي بقيته ،و قد ثبت هذا ، وأنا على اتم الاستعداد ان اثبت لكم :مااقول

 

المقدمة:

توصلت جماهير الأمة الاسلامية ـ اليوم ـ إلى قناعة مفادها أن النظام السعودي لا يختلف عن غيره من الانظمة العربية من حيث الجوهر والمحتوى، وإن كان المظهر الخارجي والديكور مختلفاً..

فكما أن بعض الدول تطلي نفسها بمكياج الثورية والجماهيرية... والأخرى تبرز نفسها بالديمقراطية والإنفتاح... والثالثة بالتحرر والإستقلال، كذلك النظام السعودي يطرح نفسه بصبغة الاسلام... ويرفع شعارات الالتزام والمبدئية، وإن كانت في الحقيقة لا تزيد عن الهراء، كالذي تردده الأنظمة الأخرى.

إن التمايز بين النظام السعودي والأنظمة العربية الأخرى، لايزيد عن تمايز أحدهما عن الأخر، فالجميع يسير ببلاد المسلمين وشعوبها في نهج تغريبي علماني بعيد عن الأصالة الاسلامية، ومواقفهم السياسية تكاد تكون متشابهة تجاه القضايا التي تشغل بال المسلمين... وخصوصاً تجاه قضية فلسطين، لهذا لم تعد الشعوب الاسلامية تفرق بين مدعي الثورية والنضال... ومدعي الاعتدال والواقعية، أو بين من يحمل لواء البيت الأبيض... أو قصر الكرملين... ومن الناحية الواقعية... ليس هناك فرق بين النظام السعودي والأنظمة الأخرى، سوى في الدهون والطلاءات لا أكثر... وادعاءات أقطاب النظام بطرح سياستهم وبلدهم بتميز عن الآخرين... والتأكيد على ذلك من خلال الأجهزة الإعلامية المحلية، يفتقد الواقعية والصدق... وحتى النشور الدينية التي كان النظام يطبقها ويخدع بها الكثيرين من ابناء الامة على أنه النظام الوحيد المتمسك بالاسلام كعقيدة وشريعة، لم نجد لها مَن يصدقها إلاّ القليل...

في هذه الدراسة المتواضعة.. تبيان للمسيرة الاسلامية «المزعومة» للدولة السعودية.. منذ تأسيسها، وكيف أنها قامت على أساس من النفاق الديني، من خلال استعراض دوافع الحروب التي شنها السعوديون في احتلال المناطق الأخرى من أجل تكوين دولتهم... ومن خلال المواقف السياسية التي رافقت التأسيس، كالموقف من دولة الخلافة العثمانية... ومن الانجليز...

نرجو من الله سبحانه وتعالى... أن تحقق هذه الدراسة، الهدف المتوخى منها. في فضح النظام السعودي المنافق، والمعادي للاسلام.

منظمة الثورة الاسلامية

في الجزيرة العربية

25/رمضان 1405 هـ /1985م

طلاب الملك:

يمكننا تقسيم المراحل التي مرت بها صياغة الأطروحة الاسلامية السعودية في الدولة السعودية الثالثة إلى ثلاث مراحل... فنحن نعتقد بأن الظروف السياسية والدينية التي عاصرها عبد العزيز، أملتْ عليه في حقبة من الزمن أن يرفع شعار الاسلام، ويتبناه في معاركه وفتوحاته، ولم يكن تبنيه هذا نابعاً من ايمان صادق كما يدعي ويدعي مؤرخوه...

وهذه المراحل هي:

المرحلة الأولى:وتمتد منذ ولادة عبد العزيز عام 1886 /1293 هـ، وتنتهي عام 1915م، وهي المرحلة التي لم يرفع فيها أي شعار ديني، ولم يكن عبد العزيز ملتزماً حتى في مسلكه الشخصي ضمن الأطر الشرعية...

المرحلة الثانية:وتمتد منذ عام 1915 م، وهو تأريخ احتوائه الحركة الإخوانية الدينية وتقمصه لشعاراتها، للاستفادة منها في حروبه العسكرية، وحتى عام 1930 م، وهو تأريخ القضاء على الحركة...

المرحلة الثالثة:وتبدأ من 1930 م حتى الآن، وهي المرحلة التي ابتعد فيها الحكم السعودي عن الدين شيئاً فشيئاً، حتى أضحى الوضع فاسداً كما نعهده الآن.

وما يهمنا هنا هو المرحلة الأولى والثانية التي تبرز فيها ـ وبوضوح ـ مطامع عبد العزيز للحكم، دون الإكتراث بالدين...

إن الصفة الرئيسية التي تجمع الحكام السعوديين، على اختلاف أزمانهم وعهودهم، هي أنهم طلاب ملك وليسوا حملة رسالة، فهم يدعون حمل رسالة الإسلام كلما وجدوا فيها مصلحة تهمهم وتقوي عروشهم...

ولم يعهد عن أحد فهم أنه كان حامل رسالة وداعية إلى الله في يوم ما... ولم يكن يفرق بينهم وبين الحكام الآخرين من حيث الالتزام الديني والمسلك الشخصي،منذ استلامهمالحكم،وحتى يومنا هذا.. ولنا في سيرة ملكهم الحالي «فهد» وأمرائهم الحاليين، أصدق الشواهد وأقطع البراهين.

بيد أنهم لا يكفون عن التبجح من خلال أجهزة إعلامهم الدعائية،بأن البيت السعودي حامل رسالة قبل الملك،كما قال عبد العزيز وابنه فيصل من بعده.. وما نود إيضاحه هنا ـ ومن خلال نموذج واحد ـ هو عبد العزيز الذي أسس ملك آل سعود الحالي.. أن هَمَّ آل سعود، المُلك قبل كل شيء.. وأنهم طلاب مُلْكٍ يرفعون شعار الإسلام لخدمة أغراضهم السياسية،وهم بعيدون كل البعد عنه..

المرحلة الأولى:

عهد الصبا:

ولد عبد العزيز في الرياض عام 1876هـ، وعايش المرحلة الأخيرة من دولة أسرته قبل أن تزول، في هذه الفترة لم يكن في نشأة ابن سعود أي فوارق بينه وبين أقرانه،حتى في مجال الفروسية التي من المفترض أن يتيح له وضعه كأمير النبوغ فيها.. فلم يعهد منه أنه أتى بشيء أفضل من أقرانه،والكتب التاريخية لا تتحدث عن هذا الجانب،وأكثر ما تردده هو أنه من بيت عهد فيه الشجاعة والتضحية،و.. و.. الخ..

أما من الجانب الديني،فقد عهد إلى أحد الشيوخ أن يعلمه أصول الدين كما تفعل بقية الأسر بأبنائها،لكنه لم يكن مغرماً بالدراسة والمداومة في الحضور.. كما أن الوضع الخاص لأسرته لا يميل إلى التقيّد بالدين،وقد وصف «الزركلي» أحد أعمام عبد العزيز «سعود الفيصل» بأنه كان متسامحاً في أمور الدين(1). كما أن صراع الأعمام على الحكم ـ بين عبد الله وسعود ـ لاينم عن التزام، فكيف يقتل الأخ أخاه أو عمه ؟.. فمن يتهاون في القتل هان عليه التساهل في بقية الجوانب.. وهذا الأمر أثر على ابن سعود ـ الملك عبدالعزيز ـ في الجانب السياسي، فقد خلف الصراع بصماته الواضحة على تفكيره، وكان كثيراً ما يكرر،بعد أن استتب له الحكم، أن الخلاف بين آل سعود هو سبب زوال ملكهم..

ولو نظرنا إلى الجو العام السائد في نجد،فإنه يتسم بالمحافظة التي شملت جميع السكان،رغم القلاقل السياسية المستمرة،ولم يعطه صفة متميزة على الآخرين في الجانب الديني، فالفارق يكمن فقط في انتمائه لأسرة كانت تحكم نجد..

حالهُ في الكويت:

بطبيعة الحال، لم تكن الكويت كنجد، فالأخيرة كانت معقلا للتزمت الوهابي، لا زالت آثاره المحافظة آنذاك، ترخي بسدولها على الوضع الإجتماعي والديني والثقافي، كما أن نجد ـ وبحكم موقعها الجغرافي ـ منطقة بعيدة عن التيارات والتأثرات الخارجية... بينما كانت الكويت مفتوحة على العراق وإيران والهند وغيرها... لذا لم يكن لتقاس محافظة أهالي الكويت يومها مع أهالي نجد.

وقد أكد المؤرخون السعوديون، أن الاستفادة الحقيقية لابن سعود خلال العشر سنوات التي قضاها في الكويت «1309 ـ 1319هـ» تكمن في تفهمهِ لبعض الألاعيب والحيل السياسية، والتي اكتسبها من خلال مجالسته هو وأبيه، لحاكم الكويت مبارك الصباح، المشهور بارتباطه الصارخ مع الانجليز، وبتحلله وفساد أخلاقه...

ولم يتطرق المؤرخون لأي تأثير ديني عليه خلال وجوده في الكويت، خصوصاً وهو حينها كان يمر بمرحلة المراهقة.. ومن المؤكد أنه لم يكن يفكر في غير الملك واستلام الحكم،ولم يدر بخلده،مسألة الاسلام،والرسالة وحملها.

بل إن أجواء الكويت،وقربه من أميرها الفاسد، ساعده على التحلل من الدين، ولم يشتهر عنه أن كان متمسكاً حتى بأساسيات الدين.. وهناك شواهد كثيرة سطرتها كتب المعارضة عن هذه الحالة الشاذة التي كان يعيشها،إلا أننا نكتفى بشاهد واحد نقله «كشك» عن«جون فيلبي» العميل البريطاني المعروف ورفيق ابن سعود لمدة ثلاثة عقود تقريباً.. و«كشك» الذي حاول في كتابه أن يطرح ابن سعود كصاحب رسالة في كل ما ذكر،يصف حاله في الكويت بالقول:

(كان يتمتع بفحولة لم تعرف لرجل من قبله ولا بعده،ولكنها لم تشغله عن الملك،بل لعلها كانت إحدى الوسائل الفعالة لتثبيت هذا الملك (2)، ولا استطاعت أن تفرض نفسها على سلوكه ومواقفه، ووعيه الشديد بمسؤليته كطالب ملك، ثم صاحب رسالة، ومؤسس دولة(3). قيل أنه عندما راهق في الكويت سمع أن بعض أصدقائه يستفيدون من الجو الخاص في الكويت، بتصريف الكبت الجنسي مع بعض الفتيات، فأراد مشاركتهم ولكن صديقاً واعياً بمسؤليات الملك منعه بشدة، فاستغرب عبد العزيز ذلك، وقال له :«ولماذا تفعل أنت ذلك إذا كنت تراه معيباً؟!».

فرد ذلك الصديق النادر :«هو لا يعيبني.. ولكن أنت عبد العزيز آل سعود.. أنت طالب ملك.. لا يجوز لك ياعبد العزيز ما يجوز لنا.. »..

من خلال المقطع السابق، يتوضح لنا هم عبد العزيز الأول وهو طلب الملك، وأن أصدقاءَهُ هم من المدمنين على ممارسة المحرم والعياذ بالله، وأن التزامه بالدين ضعيف جداً ومختل، ثم أن ما يمنعه هو كونه طالب ملك، وليس حامل رسالة، عليه أن يلتزم بها.. وهو الأمر الذي لم يحدث بالفعل..

ويدرّس السعوديون تأريخهم لطلابنا على أن عبد العزيز تعلم السياسة من مبارك الصباح، الذي يصفونه بالدهاء السياسي حتى يشمل عبد العزيز جزء منه، بينما لم يتحدثوا عن تأثير صلاته معه من الناحية الأخلاقية.. فالأستاذ لابد وأن ينقل لتلميذه بعضاً من فنونه وجنونه..

يقول مؤرخ الكويت عن مبارك:

(جاهر في آخر أيامه بترك الشعائر الدينية والتساهل بالصلاة والصيام، ومال إلى اللهو والقصف والتهتك والخلاعة، فاستقدم الراقصات من مصر وسوريا، وأقام لهن المسارح في قصوره الشاهقة وانغمس في هذا الأمر انغماساً عظيماً)...

وهنا ينفي (جلال كشك) تأثر ابن سعود السلبي بأجواء الكويت وقصور مبارك، ويرد على الزاعمين بذلك في قوله:(هذا هو المناخ الذي أمضى ابن سعود فيه صدر شبابه، وسنوات تكوينه النفسي والخلقي، والتي يزعم بعض المؤرخين أن هذا الجو كان مدرسة له، إن صح ذلك.. فبمفهوم المخالفة)، بينما يرى المؤرخون الآخرون عكس ذلك تماماً...

ومهما يكن من أمر، فإن حالة عبد العزيز في الكويت أثبتت أنه ذو نزعة سلطوية، ويسعى لإيجاد حكم له من منطلق قبلي، ولم يكن يفكر في يوم ما أنه أكثر من أي فرد طامع للسلطان، لا يمت إلى الدين بصلة من قريب أو بعيد.

احتلال الرياض «المحاولة الأولى»:

حين خرج عبد الرحمن والد عبد العزيز فاراً من الرياض، حاول وهو في طريقه أن يستنجد بالقبائل القاطنة في شرق الجزيرة العربية، لكنه لم يلق أذناً صاغية لحرب آل الرشيد... فالقبائل هذه، لها تأريخ مأساوي حين دخلت في حروب أولاد فيصل بن تركي، وخصوصاً قبيلة العجمان التي دعمت سعود بن فيصل «أخو عبد الرحمن»ضد أخيه عبد الله، فكانت النتيجة أن قدمت الضحايا قرباناً لشهوات الأمراء السعوديين في الحكم، ووجدوا أنفسهم ـ في وقت متأخر ـ يدخلون حروباً تأكل الأخضر واليابس، تكون نتيجتها أن يصعد أحدهم على أكتافهم ويفعل بهم الأفاعيل كما فعل أسلافه.

استقر عبد الرحمن في الكويت، وفقد الأمل والعزيمة في السيطرة على الرياض ومكث هناك سنين طويلة يستجدي فيها عامل الدولة العثمانية في العراق بعض الروبيات، كي يقتات منها هو وعياله، حيث لم يعمل هو وأبناؤه في حرفة تدر عليهم رزقهم، لأنهم يعتبرون أنفسهم أكبر من ذلك.. ومع أن المساعدة التركية لم تكن لتفي بإحتياجاتهم، فقد كان لسيطرة مبارك الصباح على الحكم في الكويت بعد قتل أخويه محمد وجراح عام 1313 هـ، أثر كبير في تحسين وضعهم المعيشي، فابن الصباح الحاكم الجديد قلب ظهر المجن للأتراك، وإرتمى علانية في أحضان الانجليز، بل إن الانجليز هم الذين دفعوه للسيطرة على الكويت، لأن إخويه يميلان إلى الأتراك.. ومن هنا كان لعداء مبارك للأتراك دور في تقريب آل سعود إليه، وهم الذين انتهى حكمهم على يد حليفهم ابن الرشيد..

إضافة إلى ذلك، كانت طموحات مبارك في أواسط الجزيرة العربية تدعوه للاهتمام بالأسرة السعودية ليستفيد منها، كغطاء لاحتلاله ومركباً لطموحاته.

لم يمض الوقت طويلاً حتى استعد مبارك لمحاربة ابن الرشيد، وجيَّشَ جيشاً كبيراً من القبائل والعربان للحرب، وأخذ معه كلا من عبد الرحمن وابنه عبد العزيز كوجوه وشخصيات في جيشه، وقد انفصل عبد العزيز عن الجيش بألف مقاتل ليحتل الرياض التي كانت أمنيته الوحيدة آنذاك، وإلتقى الجيشان في موقعة الصريف في ذي القعدة 1318 /مارس 1901 م، هزم فيها الكويتيون هزيمة منكرة وارتدوا على أعقابهم لا يلوون على شيء، وأخذت قوات ابن الرشيد تتبعهم ولم يوقفها إلا المدافع البريطانية التي أنزلت في الكويت بطلب من مبارك..

أما ابن سعود الذي انفصل عن الجيش الرئيسي، فاتجه جنوباً وهاجم فريقاً من قبيلة قحطان كان في روضة سدير،وقتل زعيمها«نزهان بن مريحة» ثم هاجم فريقاً آخر من قحطان كان بزعامة «فيصل بن حشر آل عاصم (7)».. ليس هناك أي مبرر ومسوغ ديني لهذا الهجوم، فهولا يتعدى في أهدافه هجوم أي قبيلة على أخرى من أجل سلبها والاستحواذ على مالها.

بعدها وصل إلى الرياض، فقاومته مقاومة شديدة، وكان في طليعة المدافعين رجال الدين وآل الشيخ، لأنهم وجدوه آلة في يد الكفار الانجليز وعميلهم مبارك، ولم تكن حملته مقبولة دينياً، وليس صحيحاً أنه لم يلقَ مقاومة، وأنه دخلها برجاله وأهل الرياض تواقون لرؤيته لتبرمهم من الحكم الرشيدي.

فمن الواضح من خلال حملة ابن سعود المجردة من الدوافع الدينية والوطنية، أنها قوبلت بدفاع الأهالي وشخصيات الرياض، وكان الناس ملتفين حول الأمير ابن عجلان، الذي ـ باعتراف مؤرخي آل سعود ـ لم يشتهر عنه العسف، وكان ابن الرشيد ذاته محبوباً لدى علماء نجد وأهلها لحسن سيرته، رغم أن هناك بعض الموالين لآل سعود الذي يتمنون أن يرجعوا للحكم ويكونوا من خواصهم.

(وكان ابن سعود في أيام ملكه، وعندما يسرف أهل الرياض في مطالبتهم، يصرخ فيهم «كسرتم إصبعي يا أهل الرياض في قتالكم، فلا منة لكم علي»(8) مشيراً إلى مقاومتهم العنيفة في تلك الغزوة، ويقول فيلبي «إن عبد العزيز اقتحم فعلاً أسوار الرياض، ولكن أهلها التفوا حول أميرهم، وقاتلوا قتال المستميت، حتى كسر أصبع عبد العزيز».. وكان وجوه المدينة في مقدمة المقاتلين ضد عبد العزيز، فقد قاتل الشيخ محمد بن عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ ببطولة وبسالة جعلت «عجلان»يهديه فرساً بعد انتهاء المعركة، وجرح الشيخ محمد في يده، كما أصيب أيضاً عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ بجرح في رقبته من قبل جنود عبد العزيز آل سعود، وهو يقاتل ضدهم ليصدهم عن غزو المدينة،كذلك كان الشيخ عبد الملك بن عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ على رأس أهل الرياض في جيش ابن رشيد ضد ابن صباح.

وهذه المقاومة الشديدة من أهل الرياض جعلت عبد العزيز عاجزاً عن الاستيلاء عليها أربعين يوماً..

وتفسير مقاومة أهل الرياض بسيط جداً، فما كانت الرياض، وشيوخ الوهابية، ليستسلموا لذلك القادم من قبل ابن صباح، لا وطنياً ولا قبلياً ولا دينياً، كان من الممكن أن تفتح الرياض بإسم ابن صباح أو بتجريده من حملة ابن صباح.. فلن يكن ابن سعود أمام الرياض عام 1901/1319هـ أكثر من طليعة من طلائع جيش الكويت الذي يقوده إبن صباح)(9)... ويعلق كشك في الحاشية بأن سمعة ابن صباح الوطنية والدينية كانت تجعل مقاومة حملته وكل من ينتسب لها فرضاً واجباً..

لقد كانت مواجهة آل الشيخ لحملة ابن سعود على الرياض عام 1901 بالسلاح فريدة من نوعها، هذا الاصطدام يؤكد أن عبد العزيز حتى هذه الفترة لم يكن يحمل هدفاً دينياً في غزواته، وكان أداة في يد ابن الصباح الفاسد وأسياده الانجليز..

وهكذا بعد هزيمة والده وابن الصباح في (الصريف)، ترك الرياض بمجرد أن وصلهُ الخبر، وعاد إلى الكويت قبل أن تسقط حامية أمير ابن الرشيد في الرياض.

احتلال الرياض للمرة الثانية 1902م:

كان سقوط الرياض واحتلال ابن سعود لها وقتل ابن عجلان عام 1902/1319 هـ، بداية جديدة في التاريخ السعودي، من حيث استعادة الحكم.. وليس بعث الرسالة التي يدعون حملها للناس..

وهناك العديد من الملاحظات حول هذا الاحتلال :

الأولى: أن الطريقة التي تم بها الاحتلال والسيطرة لا تنبيء عن التزام وتدين.

الثانية:أن الاحتلال لم يكن لأجل إعادة ما طمس من معالم الدين، وإنما بدافع التسلط فحسب.

الثالثة:أن هذا الاحتلال لايختلف عن السطو، فهو مجرد انقلاب عسكري تم في ليلة ظلماء من ليالي يناير 1902، ولم تكن هناك ميزة دينية تفرق بين ابن عجلان وبين ابن سعود.. وطريقة الحكم للرجلين لا تختلف إلا في زيادة بطش الأخير وإرهابه.

لقد تسلق عبد العزيز وأتباعه الأربعون أو الستون،الرياض ليلا في الخامس عشر من يناير 1902، وطرق ابن سعود باب بيت مجاور لقصر ابن عجلان،وكان ساكنه شخص يدعى جويسر،وهو بائع بقر،فأجابته إحدى النساء من خلف الباب عن طلبته، فأجاب أنه يريد من زوجها شراء بقر للأمير في صباح الغد.. فرفضت المرأة فتح الباب وقالت له بأنه لا يطرق باب النساء في الليل إلا فاسد، فهددها ابن سعود بأن انتقام ابن عجلان من زوجها سيكون شديداً..

فخرج جويسر ـ الذي هو أحد خدام آل سعود أيام عزهم ـ وفتح الباب،فأمسكه ابن سعود بيده وهدده بالموت إن لم يصمت،ثم أمر أتباعه بالدخول،فتعالت صيحات النساء حين عرفن الطارق:«عمنا عبد العزيز»..

ثم جمعهن عبد العزيز في غرفة خوفاً منهن وأغلق عليهن بابها..

بعدها تسلق هو وأتباعه البيت المجاور للوصول إلى القصر،فوجد شخصين فلفهما هو وأتباعه بالفراش،وحملوهما إلى غرفة صغيرة وأقفلوا عليهما الباب..

ومن البيت الثاني تسلق إلى القصر كي يقتلوا ابن عجلان.. فما وجدوا إلا زوجته «لؤلؤة بنت ابن حماد» وأختها نائمتين.. وفي حالة كهذه،وكز عبد العزيز المرأة فنهضت مذعورة.. ويتحدث ابن سعود لمستشاره فؤاد حمزة عن هذه الحالة بالقول :

(وكزت الحرمة فنهضت، فلما رأتني صرخت.. من أنت ؟ فقلت أنا بس،أنا عبد العزيز،اما هي فكانت تعرفني وأبوها وعمها خدام لنا،وهي من أهل الرياض،قالت.. ماذا تريد ؟.. قلت،أدور راجلك يا فاجرة يالي تاخذين شمر(10)، قالت.. أنا غير فاجرة،أنت ويش جايبك ؟.. فقلت :أنا جيت أدور راجلك لأقتله،قالت.. أما زوجي فلا ودي تقتله،وأما ابن رشيد وشمر فودي تقتلهم جميع،ولكن كيف تقدر على زوجي؟.. زوجي محصن في القصر ومعه 80رجل ويمكن لو طلع عليك أخاف ما تقدرون تنجوا بأرواحكم وتخرجوا من البلاد،تكلمت عليها وسألتها عن وقت خروج زوجها من الحصن،قالت.. أنه ما يخرج إلا بعد ارتفاع الشمس بثلاثة أرماح.. أخذناها وصكينا عليها مع الخدم،ثم أحدثنا فتحة بيننا وبين الدار التي فيها أخي محمد،ودخلوا علينا.. )(11).

وتكملة قصة قتل ابن عجلان معروفة لاتحتاج إلى تكرار..

والمهم فيها هو هذا التعدي على النساء والسيطرةعلى بيوت الآخرين،الذي لا يقره شرع ولادين..

إن الاسلام لا يقر ذلك،حتى ولو كان الهدف نظيفاً، فكيف إذا كان الهدف غير شريف؟

فلا شرعية للأساليب الباطلة التي توصل إلى غاية صحيحة أو باطلة،فالاسلام يتعارض مع مقولة الغاية تبرر الوسيلة.. مع هذا فان أسلوب عبد العزيز هذا يهدينا إلى أن هدفه وأسلوبه يتنافى مع الاسلام وتعاليمه..

وإدا كان «كشك» يدعي بأن (الصراع على السلطة أمر مسلم به ومقبول في شريعة الصحراء وسعي صاحب الحق الشرعي لا سترداد حقه من السلطان المغتصب سلوك مشروع، بل واجب محتوم،يلام من يقصر فيه أو يتنازل عنه)(12) فان هذا المنطق غير مقبول من الناحية الشرعية الدينية،فليس كل طالب سلطة وملك يحق له أن يفعل ما يريد خضوعاً للقيم الجاهلية وسبيلا للوصول للحكم..

إن الاسلام لا يعترف بحكومة الأمر الواقع المفروضة بالقوة،كما لا يعترف بأي حاكم ينزو على السلطة بالقوة،ويطالب المسلمين بالنهوض في وجهه،حتى لا يتجرأ ذوو النزعات الآثمة على إزالة الحكم الشرعي وفرض تسلطهم بالسيف..

لقد كان مبرر انقلاب عبد العزيز على حاكم الرياض «كما يقول هو»استعادة ملك الآباء والأجداد.. فلم يكن مبرر قيامه بالانقلاب، المصلحة العامة.. أو إعادة تحكيم الشريعة الغراء، وإنما كان طلب السلطة وحب الرئاسة ليس إلا..

إن الإسلام لا يعترف بمقولة «ملك الآباء والأجداد»كمبرر للوصول للحكم، وهو تبرير غير مقبول، لأن الاسلام وضع شروطاً للحكم والحاكم، ولأن العقل يرفض مثل هذا التبرير.. لأن كل شخص تنهب إمارته يمكنه طرح ذات الادعاء..

إن النظام السعودي بُنَي من أساسه على باطل، وهو حب الرئاسة والسلطان، ولا خير في نظام يُشَّيد على الباطل، ولا خير في حاكم همًّهُ السلطة والرئاسة، لأنه سيعلو في الأرض ويصبح من المفسدين، وسيقف بوجه كل من يريد الصلاح والخير للأمة..

يقول الشيخ ابن تيمية:

(الواجب اتخاذ الامارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فان التقرب إليه فيها طاعته، وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها.. وقد روى كعب ابن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:«ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها، من حرص المرء على المال أو الشرف، لدينه»(13)، قال الترمذي :حديث حسن صحيح. فأخبر أن حرص المرء على المال والرئاسة يفسد دينه.. )

ويضيف:

(وغاية مريد الرئاسة أن يكون كفرعون)، ثم يُقَسِّم الشيخ الناس إلى أربعة أقسام، خص القسم الأول منهم بالقول :(القسم الأول: يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض، هو معصية الله، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون كفرعون وحزبه، وهؤلاء هم شرار الخلق )..

قال الله تعالى:«إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبِّح أبناءَهم ويستحي نساءَهم إنه كان من المفسدين»(14)

وذات مرة دخل أبو موسى الأشعري مع اثنين من أبناء عمومته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما.. يارسول الله، أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فأجابهما الرسول:

«إنّا والله لا نوَلِّي هذا العمل أحداً يسأله، أو أحداً حرص عليه»ـ أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري ـ.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إنكم ستحرصون على الامارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة» أخرجه البخاري والنسائي.

وهناك أحاديث كثيرة تذم طلاب الولاية والسلطان بالسؤال، فكيف يكون حال أولئك الذين أهدروا دماء المسلمين ليتسلطوا عليهم، كما فعل عبد العزيز آل سعود وآباؤه وأجداده؟

لقد أكد عدد من المؤرخين على أن الحملة السعودية لإحتلال الرياض، التي قادها ابن سعود، كانت مجردة من أهدافها الدينية.. إلا أن «جلال كشك» يعتقد بأن الوحي نزل على عبد العزيز فتبنى الاسلام والرسالة..

(تقول بعض الدراسات الحديثة أن حملة ابن سعود هذه كانت بلا هدف ديني، بل مجرد طلب ملك. وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن عبد العزيز سرعان ما اكتشف دوره الحقيقي)(15)

ويقول الأستاذ «عبد الله بن خميس» الفائز بجائزة الدولة للأدب عام 1404 هـ في مجلة «الدارة ـ عدد يوليو 1979م» بأن الفيلق الأول الذي فتح الرياض بقيادة عبد العزيز، لم يقم على دعوة روحية، ولم يكن الدافع الأول دافعاً دينياً. ولكنه كان إرهاصاً بين يدي انتفاضة دينية ويقظة روحية قادت طلائعها كتائب الأخوان..

والحقيقة أنها لم تكن إرهاصاً، لأن حركة الأخوان لم تقم بعد، وإنما قامت بين عامي 1912ـ 1913م، وأن أمر قيامها لم يرتبط بابن سعود من قريب أو بعيد.

في موقع آخر يحاول «كشك»(16) أن يعطي الاحتلال الشاذ، صبغة دينية، ويسبغ عليه أهدافاً سماوية، رغم اعترافه السابق بأن الحملة كانت في الأساس ليست دينية.. (كانت الرياض فعلاً على موعد مع التاريخ، فالأمير القادم ليس مجرد أمير سعودي من أمراء فترة التناحر، عندما تخلي البيت عن الرسالة، وتصارع أفراده على الملك، فضاع الملك كما ضاعت الرسالة، لأن هذا البيت بالذات، لايستقيم له ملك بلا رسالة، لأن التاريخ لا يحب الخديعة، وهذا البيت نال الملك باسم الرسالة، فلا يجوز له أن يتخلى عن الرسالة ويستبقي الملك، وقد تساقط كل الأمراء الذين تخلّوا عن الرسالة، واكتفوا بالامارة، وانتهى بهم الحال إلى قبول الحماية والحكم بينهم من ابن رشيد، عاملهم القديم ووارث ملكهم، بل وصل بهم الأمر إلى قبول الدعم البريطاني، أو الحماية التركية.. فضاعوا في التيه 37 سنة، تساقط فيها كل طلاب السلطة حتى خرجوا من الرياض.. )ثم يكمل قوله، بأن عبد العزيز أتته الرسالة منقادة، تجر إليه بأذيالها، بعد أن سيطر على الرياض، وكأن الرسالة تهب نفسها، وليست التزاماً يجب تقمصه في المسلك الشخصي :

«كانت تتجمع في عبد العزيز كل الصفات المطلوبة لقائد ورجل تأريخ، ولكنه بلا رسالة، لم يكن أكثر من فتى في الثالثة والعشرين من عمره، في قرية لا قيمة لها اقتصادياً وعسكرياً.. وعندما أصبح في الرياض عميداً للبيت السعودي، تقمصته على الفور مسئوليات والتزامات الرسالة».

وقد استنتج محمد أسد منذ وقت مبكر أن (ابن سعود لم يكن أكثر من ملك،يهدف إلى ما هو ليس أسمى وأرفع من أهداف الكثيرين من الحكام المطلقي السلطة من قبله في الشرق)..

الاحتلال بدون الشعار الديني

في الفترة الواقعة بين احتلال الرياض واحتلال الأحساء «1902ـ 1913م» لم يطرح ابن سعود أي غلاف ديني لتحركه، وكانت احتلالاته مدفوعة «بعودة ملك الآباء والأجداد» وهذا الدافع سخيف حقاً،ذلك أن كل رؤساء المناطق والمدن التي تحتل بإمكانهم المطالبة بالتحرر من الاحتلال السعودي، بحجة أن هذه الأرض ملك لآبائهم وأجدادهم أيضاً،والسعوديون لم يكونوا ليسبقوهم لها،فهم أصحاب البلاد من قبل أن يحتلوها منذ عقود من السنين..

يتحدث «فيلبي» عن عبد العزيز وفتوحاته السابقة بأنها لم تكن مدفوعة بالدين ونشر العقيدة الاسلامية:

(فتاريخ أسرته جعل من الدين العنصر الأساسي لهذه الدولة،ولا شك أنه وأباه كانا وهابيين صادقين مخلصين (17)، إلا أنه في أوار القتال الضاري الذي دار في تلك السنين الخوالي، يعوزنا أي تاريخ مسطور يدل على الناحية الدينية في عملياتهما الحربية).

وفي الجانب السياسي،لم يكن هناك أوجه اختلاف بينه وبين حكام الخليج الآخرين (خزعل،وابن الصباح،وأمير البحرين الشيخ عيسى آنذاك،وكذلك امير قطر،وحاكم عمان) الذين كانوا يخضعون لسلطات الاحتلال البريطانية، ويكنون العداء لدولة الخلافة العثمانية وعلى رأسها السلطان عبد الحميد..

فعبد العزيز ووالده عبد الرحمن كانا تواقين للتحالف مع الانجليز، وسنجد أنهما خلال هذه الفترة كانا صريحين في التعامل معهم،رغم أن الانجليز لم يبدوا أي تجاوب،لظروفهم السياسية المتعلقة بدولة الخلافة،والتي كانوا حريصين قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى في عدم التصادم معها لئلا يؤثر ذلك على وضعهم في الخليج.

قبل أن يغادر عبد الرحمن الكويت بناء على طلب ولده المحتل للرياض حديثاً،أرسل رسالة للمقيم البريطاني في بوشهر،يخبره بأن الروس اتصلوا به،وعرضوا عونهم وخدماتهم عليه،لكنه وحباً في بريطانيا العظمى،رأى أن يخبر أصدقاءه ويطلب منهم الدعم:

(وبعد نجاح الأمير السعودي في استرداد الرياض، غادر أبوه الكويت ليلتحق به،وقبيل مغادرته الكويت أرسل رسالة إلى المقيم البريطاني في بوشهر يخبره بأن أحد الموظفين الروس اتصل به وعرض عليه مساعدات بلاده،ولكنه رفضها،وأنه يفضل أن يتعاون مع بريطانيا،ولكن البريطانيين لم يردوا عليه،لأن حكومتهم لم تكن آنذاك مهتمة بشؤون داخل الجزيرة العربية)(18)

ومن الواضح لمن تسنّى له دراسة التاريخ السعودي،أن سياسة بريطانيا تجاه ابن سعود،هي أن لا تقطع معه الحبل ـ حبل المودة والعلاقة ـ وأن لا تضع علاقاتها مع دولة الخلافة موضع الخطر،وأن ذلك مقدم على معاونه ابن سعود.

ولكن ما إن نشبت الحرب العالمية الأولى، وفرزت المواقف،واصطدمت بريطانيا مع تركيا عسكرياً، ظهر الحلف للعلن واضحاً،وانهالت المعونات على ابن سعود،كي يخضع ابن الرشيد ويحول دون معاونته للترك في المدينة والشام..

كان عبد العزيز قد طلب إقامة معاهدة حماية له مع الانجليز،وكان يصر على صداقتهم،ففي عام 1902م، وعام 1904م،وعام 1906،كانت بريطانيا لازالت تتمنع حول توقيع المعاهدة التي لم تتم إلا في عام 1915،والتي كانت وصمة عار في جبينه،وهو الذي يلح عليها..

لقد رأينا كيف اتصل والده بالانجليز قبل مغادرة الكويت، أما في عام 1904،فان الحكومة التركية ـ وحين رأت ابن سعود يميل للانجليز ضد ابن الرشيد الذي يواليها ـ أرسلت للأخير تعزيزات عسكرية ضخمة وإلى جانبها حشود من القوات قدمت من العراق،فما كان من ابن سعود إلا أن اتصل بالانجليز سائلا إياهم النجدة،حيث ارسل رسالة للمقيم البريطاني في الخليج، اليهودي السير«برسي زكريا كوكس» يحتج فيها على تدخل الأتراك في شؤون بلده وطالباً المساعدة، إلا انه لم يبد حماسة في العون خوفاً من تعريض علاقات بلده مع الأتراك للخطر، وبالتالي إمكانية تزعزع موقعهم في الخليج..

وبالرغم من أن البريطانيين أكدوا من خلال رسائل سفيرهم في اسطنبول معارضتهم للدعم التركي هذا،خوفاً من أن يؤثر ذلك على مشيخاتهم،إلا أنهم كانوا صريحين حتى هذا الوقت بأنه لم يحن الموعد لإعلان حماية ابن سعود.

وفي عام 1906م، وبعد معركة «روضة مهنا» التي قتل فيها عبد العزيز بن متعب بن رشيد بالغدر والحيلة، راح عبد العزيز يغري الوكيل السياسي البريطاني في البحرين«الكابتن بريدو» أن بإمكانه طرد العثمانيين من الاحساء، لذا فانه يرغب في الدخول في معاهدة صداقة مع الحكومة البريطانية لكي تقوم بحماية سواحل بلده، مقابل استعداده أن يسمح لها بتعيين وكيل سياسي بريطاني في الأحساء أو القطيف.. وحاول كوكس إقناع حكومة الهند بفوائد اتفاق عبد العزيز معهم، في الوقت الذي أرسل الأخير رسالة عن طريق أمير قطر في أكتوبر 1906 طالباً الحماية وتوقيع معاهدة،لكن حكومة الهند اقترحت على كوكس أن يرد على عبد العزيز بما يلي:(مع رغبة الحكومة البريطانية الشديدة في توثيق العلائق الودية مع الأمير، طالما هو يحترم مصالحها ومعاهداتها مع أمراء الساحل،فانها لا ترى أية ضرورة في الوقت الحاضر لإعطائه وعداً رسمياً بحمايته، فان ذلك قد يحرِّض الحكومة التركية على مناوأته)(19)..

على العموم.. اقتنع ابن سعود بأن من المحال أن تُخرِّب بريطانيا علاقاتها وتعرض مصالحها للخطر من أجله، ولذا كانت العلاقات معها جيدة وآثر عدم الاصطدام بها،خصوصاً وأن حليفه وحليف الانجليز «مبارك الصباح» استمر في مد عبد العزيز بالسلاح والدعم المالي،بتسامح من الانجليز،الذين رحبوا بالحاح مبارك كي يتصلوا بابن سعود لينضبط في الخط..

وابن سعود ـ رغم تضايق البريطانيين من كثرة إلحاحه عليهم ـ كانوا مقتنعين من قوله لهم وصدقه في أنه يريد أن يسلك سبيل مبارك، ففي رسالة من نائب الملك في الهند«20مايو 1904» لرؤسائه يقول فيها.. «أنه تسلَّم الرسالة الأصلية التي وجهها ابن سعود لمبارك إبان تحرك تركيا وإرسالها الحشود العسكرية لإبن الرشيد، والتي ذكر فيها مبارك أنه خلال زيارته للكويت عام 1903 والتي كان يتواجد على أرضها عدد من العسكريين الروس والفرنسيين، حثه الروس على قبول حمايتهم، الأمر الذي رفضه بعد مشاورات مع مبارك، وكذلك رفضه لذات الإقتراح الذي عرضه القنصل الروسي في البصرة، لأنه لا يريد غير الحماية البريطانية، وأنه يفضِّل أن يسلك سبيل مبارك»..

ويقول كشك أن (التقارير البريطاينة السرّية تشير كلها إلى هذاالالحاح من جانب ابن سعود، والرفض من جانب بريطانيا،بل الضيق من إصراره على صداقتها.. ) وفي مقطع آخر يقول: (لقد ظل ابن سعود يطارد الانجليز منذ دخوله الرياض، حتى الحرب العالمية،وبريطانيا زاهدة فيه).. وفي الحاشية يعلق.. (كتب له «كوكس» المقيم البريطاني في الخليج:«وتقول أنك تحت حمايتنا،وأحب أن أعرِّفك أن حكومتنا الموقرة لا تبعثر حمايتها ولا تتعجل في منحها، وأن طلبك لم يرد عليه بعد»(20)..

وفي الحقيقة، لم تعامل بريطانيا ابن سعود كمعاملتها لأي من عملائها من مشايخ الخليج، الذين ـ على الأقل ـ حصلوا على حماية منها ودعم مالي، أما هو ـ وإن كانت اموال ابن الصباح الانجليزية لم تتوقف،إلا أن معاهدة الحماية كانت بعيدة المنال.

معارك ابن سعود حتى عام 1913

بعد احتلال الرياض،استطاع ابن سعود احتلال مدينتي عنيزه وبريدة في القصيم عام 1904م/ 1322هـ، بقوة السلاح وبذات الدافع الذي ذكرناه«عودة ملك الآباء والأجداد».. واستطاع في هذه السنة إلحاق الهزيمة بالترك الذين عاونوا ابن الرشيد في معركة البكيرية والشنانة،ووقَّع مع الترك اتفاقاً في ذات العام، تكون فيه منطقة القصيم محايدة ترابط فيها قوات الدولة العثمانية، إلا أنه ـ وخلال هذه الأثناء ـ وقع تمرد في اليمن اضطرت على أثره حكومة الخلافة لسحب جزء من قواتها من القصيم لتعزز وضعها في اليمن،وما هي إلا فترة قصيرة حتى أخلف ابن سعود وعده، وبدأت معاركه مع آل الرشيد.. وقد وقعت معركة روضة المهنا عام 1906م/ 1324هـ، قتل فيها قائد آل الرشيد عبد العزيز، بالخيانة والغدر.

فقبل المعركة بعث ابن الرشيد برسالة إلى ابن سعود يقول فيها:(إنه من العار على رجلين مسلمين أن يتسببا باراقة دماء لا ضرورة لها في حرب دائمة بينهما).. وهنا نلاحظ أن ابن الرشيد يطرح القضية من الجانب الاسلامي، أما عدوه فكان هَمَّهُ الفوز في المعركة، ولم تكن عنده أهمية بمن يقتل او يجرح، ولأنها حرب تدخل فيها النزاعات الشخصية والمطامح الذاتية التي يعلم ابن الرشيد أنها تملأ جوارح خصمه، اقترح أن تحل المشكلة القائمة بينهما بمبارزة شخصية يحصل المنتصر فيها على كل شيء.. وهذا يوضح حقيقة المعارك التي خاضها عبد العزيز،والمجردة من أي هدف ديني.. فرفض عبد العزيز الاقتراح وعلق بقوله.. «إن ابن الرشيد بشجاعته المتهورة،كانت لديه رغبة في الموت.. بينما أريد أنا الحياة.. »(21)

وحين بدأت مناورات المعسكرين في الصحراء، حاصر ابن الرشيد بمهارة عسكرية قوات عبد العزيز، وقطع إمداداتها، فما كان من أتباع ابن سعود المقاتلين الباحثين عن الغنائم إلا أن تفرقوا، وبقي مع ابن سعود مائتي مقاتل قُسٍّموا إلى قسمين، اتجه أحدهما خلف معسكر آل الرشيد والآخر في قباله.. ويروي «المانع» القصة من أحد المهاجمين،وهو حامل راية ابن سعود في المعركة عبد الرحمن بن مطرف،الذي يقول بأن القسم الأول تسلل بصمت إلى معسكر ابن الرشيد،ولم يكن هناك سوى ومض نور صغير،وحين اقتربوا منه تبين أنه شمعة بداخل خيمة، التي خرج منها شخص يتبعه خادم يحمل إبريقاً،فتقدم صاحب راية ابن سعود وهزها فأحدثت ضجيجاً في المعسكر النائم،فصاح الرجل الذي خرج من الخيمة باتجاهه قائلا.. (وش هالدبرة يا الفريخ)، والفريخ هو حامل راية ابن الرشيد،وكان صوت اللهجة الآمرة التي استخدمها الرجل تشبه اللهجة التي يستخدمها السيد مع خادمه، فعرف الجنود السعوديون بأن هذا الشخص ما هو إلا ابن الرشيد نفسه،والذي تصور خطأ أن حامل راية ابن سعود هو حامل رايته «الفريخ»، فما كان من احدهم إلا أن صاح«ابن رشيد يا طلابته».. فتدافعوا نحوه وقتلوه،فاستيقظ المعسكر عن بكرة أبيه،وفي هذه اللحظة بدأ الفريق الثاني باطلاق النارمن الجهة الأخرى وبصورة مكثفة،فتصور جيش ابن الرشيد أنهم مطوقون،فأحدثت زوبعة، وفي غياب القائد أخذ جنود ابن الرشيد يطلق النار على بعضهم البعض،بينما انسحب جنود ابن سعود المائتين إلى مكانهم،حاملين معهم خاتم ابن الرشيد «عبد العزيز» علامة على قتله.

وكان ابن سعود ينتظرهم في مكان يبعد عنهم ثلاثة أيام «وهذا يوضح دوره في المعركة !» وحين أعلموه بما حدث،لم يصدق أن ابن الرشيد قتل،فأمر أتباعه بأن يأتوه برأسه إن كانوا صادقين،وهكذا عادوا بعد أيام فحزوا رأسه وأتوا به إليه فانتشى بالنصر!!(22).

وهكذا أمن ابن سعود من خطر البيت الرشيدي الذي بدأت النزاعات تعصف به،بعد موت قائده عبد العزيز الرشيد،مع هذا لم يستطع التوسع خلال سنوات عديدة،وكان همه الرئيسي حينها،إخضاع القبائل التي بدأت في التمرد على سلطان حكمه،والذين خضعوا له طمعاً في المال ولم يكونوا مهتمين كثيراً في طموحاته التوسعية المعتمدة على المنطق القبلي..

فقد واجه ثورات مطير،ثم تمرد حاكم بريدة«محمد أبي الخيل»عام1908م، وكان الشريف حسين حتى هذه السنين موالياً لحكومة الخلافة العثمانية،حيث استطاع أن يخوض بعض المعارك الصغيرة ضد ابن سعود والتي تكللت إحداها بأسرأخ لابن سعود وهو سعد بن عبد الرحمن وذلك في عام 1911م،واستمرت المساومات حول إطلاق سراحه،إلى أن وافق بأن يقبل بخضوع القصيم لسيادة الأتراك ويدفع تعويضاً مادياً لإطلاق سراح أخيه..

في هذه الأثناء لم تنقطع صلات ابن سعود مع الانجليز،حيث التقى مع الوكيل السياسي الانجليزي في الكويت«ديكسون»عام 1911م، بناء على رغبة الانجليز، الذين كانت تأتيهم أنباء انتصاراته مضخَّمة من قبل أمير الكويت«مبارك» صديق ووالد «!» عبد العزيز،وفي ذلك اللقاء أبدى ابن سعود رغبته في إقامة علاقة خاصة مع الانجليز،وانه شديد العداء للترك،وطلب من حكومته العون كما كان في عام 1906،كي يحتل الأحساء،مقابل أن يكون لها وكيل سياسي في الاحساء أو القطيف نفسها.. ورد علي شكسبير بأن بلاده مهتمه بالساحل وبالقدر الذي لا يعرض علاقتها مع الأتراك للخطر..

ولهذا أجل خططه لعامين حتى يحتل الاحساء عام 1913،في الوقت الذي كانت فيه حكومة الخلافة العثمانية تواجه ثورات وانتفاضات وتمرادات في البلقان.. فانتهز ابن سعود هذه الفرصة ووجه قوة لا حتلال الأحساء، بعد وعود من المواطنين والأهالي بتسهيل الأمر، وهكذا كان..

فمع إطلالة عام 1330 هـ، كتب جماعة من زعماء الأحساء رسالة لابن سعود بخصوص احتلال الأحساء وإخراج الأتراك الذين لم يستطيعوا أن يحافظوا على حياة الناس ومعاشهم، والذين كانوا يحكمون بقبضة الحديد.. وما ظنت هذه الجماعة أنهم يستجيرون من الرمضاء بالنار..

وأجابهم ابن سعود على رسالتهم، وحصلت مكاتبات بين الطرفين بشأن تسهيل العملية، وتحديد الزمان والمكان المناسبين.. وبعد عام تقريباً 1913/1331 هـ قدم ابن سعود بقوة يدعي مؤرخوه أنها ستمائة شخص، بينما هي لاتزيد على الثلاثمائة شخص، وعسكر بجنوده من رجال القبائل بالقرب من الهفوف، ثم ارسل رسالة مع أحد الجنود إلى الزعماء على أن يتم الدخول ليلة الخامس من جمادي الأولى 1331هـ، الموافق 13 نيسان 1913م، وحددت ناحية «سمحاء» من قبل الداعين له ليكون منها التسلل، وذلك لقلة أبراج الحراسة وضعفها..

في تلك الليلة قام الأهالي بتسهيل عملية تسلل رجال ابن سعود إلى داخل الهفوف بتسلق الأسوار بالحبال وجذوع النخل، أما عبد العزيز فقد أدخل باحداث ثقب في السور. وكان للترك في الهفوف حامية صغيرة لا يتجاوز أفرادها الخمسمائة، يستقر معظمهم في قصر إبراهيم بالكويت «مركز الحكم».

تقدم عبد العزيز بجنوده نحو الحامية، واستطاع أسر الحراس القليلين، وقبل السيطرة على قلعة الكوت طلع الصباح، فصعد أحد رجاله، ليقول ـ كالمعتاد ـ بأن «الملك لله ثم لعبد العزيز بن سعود»،أما العسكر المتواجدون في القلعة فإنهم أغلقوا الباب، ولما رأوا بأن الأهالي لا يرغبون في بقائهم وأنهم مع عدوهم، قرروا التسليم بعد أن وعدوا بترحيلهم بأمان..

وقد سَلَّمت مناطق الأحساء الأخرى بناء على رسالة من زعيم المسلمين الشيعة آنذاك «الشيخ موسى أبو خمسين»حملها لأهالي القطيف سيد سلمان المحسن مع أحد رجال عبد العزيز يدعي خيرالله..

في صبيحة السادس من جمادي الأولى عام 1331 هـ عقد اتفاق في بيت الشيخ عبد اللطيف الملا، بين زعماء الأحساء وابن سعود، ينص على ضمان حرية الأهالي الدينية، وأن ينشر العدل والاستقرار والأمن المفقود، وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر.. مقابل امتثال الأهالي له وعدم معاونة أعدائه..

ومن الواضح أن الشروط في معظمها دينية، ذلك أن الموقعين كانوا في معظمهم من علماء الشيعة وزعمائها، فكان من الطبيعي أن تأخذ طابعاً دينياً، بيد أن السبب الحقيقي وراء هذه المطالب هو تجزئة الاحساء والقطيف المريرة مع الحكام السعوديين الذين أذاقوا أهالي المنطقة «شيعة وسنة»شتى أنواع العسف والظلم بإسم الدين، ولأن أهالي هذه المنطقة كفار، فكان أن جرد سيف الظلم عليهم إرضاءاً لنزوات القادة من آل سعود...

من هنا كان شرط التعهد بالحرية الدينية مقدماً على كل الشروط، فهو يعني عدم التدخل في شؤون الشيعة وممارستهم الدينية، أما نشر العدل والأمن والاستقرار، فقد كانا مفقودين في عهد الأتراك، إلا أن الاستقرار والأمن تحققا ولكن بالارهاب وليس بالعدل.. فقد كانت ممارسات حاكم الاحساء المعين «عبد الله بن جلوي»لا تمت إلى الدين بصلة، وهو المشهور باسم «الجزار بن جلوي» لكثرة ما أريق من دم على يديه، ولهذا فإن هذا الشخص بحد ذاته يعتبر ظاهرة تستحق الدراسة حقاً، والمناطق الأخرى المحتلة من البلاد لم تعان من العسف كما عانت على يد هذا الظالم الذي أريد له أن يحقق العدالة السعودية !

ولا نعتقد أن من كتب تاريخ البلاد لم يشر إلى اسم هذه الشخص ابتداء من الريحاني.. إلى فيلبي وصلاح المختار، والعطار، وكشك، وغيرهم كثير.. فهو مضرب المثل باللا أمن واللا عدالة !

والسؤال الذي يطرح هنا :

لماذا وافق ابن سعود على الشروط الدينية ؟

فمن الملاحظ أنه لا توجد شروط بتحسين المعيشة مثلاً، لأن حال الأحساء يومها كان أفضل بكثير من حال نجد القاحلة، ولذا لم تكن هناك شروط من هذا النوع..

ونعتقد أن سبب موافقة عبد العزيز على هذه الشروط البسيطة جداً، هي أنها لا تكفله شيئاً، فهو لم يكن ليهتم بأكثر من إعادة الأمن، الذي يعني في القاموس السعودي، تأكيد السيطرة المطلقة على الأحساء، والشروط الدينية العادية هذه لم تكن لتتعارض مع سلطانه، فهو لم يدخل الأحساء على أساس أنه فاتح من أجل نشر الإسلام، فالراية لم ترفع بعد.

ومع أن الاخوان لم يظهروا حينها، وابن سعود لم يهمه الاسلام من قريب أو بعيد، فقد وافق على الشروط، فالمهم امتثال الأهالي، ولكننا هنا يهمنا حدس موقعي الاتفاقية من زعماء الشيعة، فقد أرادوا أن لا يُجَردوا من حقوقهم إذا ما تغيرت الأوضاع المستقبلية. ويعتقد أن الشيعة بأجمعهم ما كانوا ليدعوه ليحتل الأحساء، ويقدمونها على طبق من ذهب، لو أنه ظهر لهم حينها بأنه يكفرهم كبقية الطوائف الاسلامية، ويغزوهم بإسم الإسلام.

ومما يؤكد ذلك، أنه في عام 1334هـ/1916م أصدر ابن سعود فرماناً بأنه يتوجب على مواطني الأحساء «شيعة وسنة» إعادة تأكيد الشهادتين واعتناق المذهب الوهابي، ثم منع ابن جلوي الشيعة من ممارسة شعائرهم الدينية، حتى اضطروا لاحيائها في منتصف الليل وفي سراديب البيوت..

ويروى أن الشيخ «موسى أبو خمسين» ذهب وهو يحمل قرآناً، لمقابلة ابن جلوي «عبد الله»، وطلب منه تطبيق الاتفاقية المعقودة مع ابن سعود التي تنص على الحرية الدينية، وأن يعمل بما في القرآن، فما كان منه إلا أن رمى خنجراً في حجر الشيخ، الذي عرف الجواب فخرج من المجلس كاظماً غيظه.

والسر في هذا التقلب، هو أن حركة الاخوان بما تحمله من مفاهيم مخالفة للدين، كانت قد برزت حينها«1916م» وأصبح لها دور رئيسيفي القتال بعد أن احتواها عبد العزيز وسايرها، وأعلن نفسه إماماً لها، ودعا القبائل لتنخرط في صفوفها.. في تلك الأثناء كان على عبد العزيز أن يرفع شعار الدين، وأن يساير قواته التي لم تخضع لسلطانه إلا بإسم الإسلام، ولم يكن حينها يستطيع الوقوف أمام حركة الاخوان، التي أخذت في التعاظم، والتي كان يشحنها بمفاهيم غريبة ـ لا يؤمن هو بها ـ إلا في الظاهر، حتى يستطيع احتلال المناطق بإسم الإسلام.. وقبل أن ينتهي الاخوان، سيجد عبد العزيز أمامه كوماً من الرسائل، التي تشكوه وتشكو من تصرفاته وتضييقاته الدينية، فكان يطالب بالانتظار قليلاً.. ولم يدم الانتظار حتى صفيت حركة الاخوان، وعاد أهالي الأحساء إلى ممارسة شعائرهم بتضييقات شديدة..

هكذا فهم عبد العزيز الاسلام وسيلة لمصالحه، فهو لم يكن يؤمن بمفاهيم الاخوان التي يشحنهم بها، وما كان يهمه ممارسة الشيعة لشعائرهم ماداموا خاضعين لسلطانه.. وحتى عبد الله بن جلوي حاكم الأحساء والذي يطبق أوامر عبد العزيز، كان من أشد معارضي الاخوان، ولم يعهد عنه أنه كان ملتزماً بالدين ممارسة، أو حتى لفظاً، وهو الذي كان من فاتحي الرياض بلا إسم ديني أو شعار إسلامي.. وعلى أية حال، لم يكن لينزل على عبد الله التدين فجأة بعد ظهور الاخوان، وإن كان يسعي لإرضائهم بتطبيق بعض ما يريدون من قسوة على الشيعة !!

المرحلة الثانية «1915 ـ 1930»:

قبل أن نشرع في الحدث عن المرحلة الثانية والمهمة في ارتباط الاسلام بإبن سعود، يجدر بنا الحديث عن الحالة الدينية، وعن المؤسسة الدينية في الفترة الواقعة بين «1902 و 1915 م»..

ليس هناك مصدر من المصادر التأريخية يمكن الرجوع إليه بخصوص هذا الموضوع، ولا أعتقد أن أحداً تطرق إلى هذا الموضوع في بحث أو دراسة، ولكن يمكننا استشفاف الحالة الدينية السائدة آنذاك، من خلال استعراض وقائع التاريخ..

فبين إحتلال الرياض وإحتلال الأحساء، فترة زمنية ليست بالقصيرة «11 سنة»، يمكن للباحث أن يستشف الوضعية الدينية من خلالها..

وأول ما سيجده الباحث، إضافة إلى غياب المفاهيم الدينية في الغزو والاحتلال.. هو غياب دور رجال الدين، فلم يعهد أن رافق حملات الإحتلال لمدن القصيم والأحساء رجل دين واحد، ولم يصدر عن أحدهم فتوى تجيز الاحتلال أو على الأقل تدعو إليه، كما لم يعهد من عبد العزيز أنه طلب مشورة أو فتوى من أي عالم ديني، بشأن التوسع والإحتلال..

بيد أن احتلال الأحساء، أورد بعض اللبس في الموضوع ـ أن كان لبساً يسهل فهمه والتبين من حقيقته ـ. فبعض المصادر تذكر أن عبد العزيز طلب فتوى من علماء نجد تجيز له التحرك واحتلال الأحساء، فأجازوه على ذلك..

وحقيقة الأمر أن عبد العزيز كان خلال هذه الفترة مدفوعاً بالتوسع دون الاعتماد على أي غطاء ديني، وهو الذي عرض على الانجليز ـ وقبل احتلال الأحساء بسنوات ـ مساعدته في ذلك «1906مو1911م».. فهو لم يكن بحاجة إلى غطاء ديني لأنه أساساً لا يعتمد عليه..

ثم أننا كما لا حظنا أن عملية الاحتلال للأحساء كانت محسوبة من ناحية المعادلات السياية والعسكرية داخلياً وخارجياً،فقد جاء الاحتلال بعد أن اختل وضع الدولة العثمانية في البلقان، وبعد ما تبين أن الانجليز لن يعترضوا على ذلك.. ،وآل الرشيد كانوا حينها مشغولين بخلافاتهم.. وأخيراً كان وضع الأحساء من الناحية الداخلية ناضجاً،الامر الذي يفسره المكاتبات بين علماء الشيعة وبين ابن سعود.. أضف إلى ذلك، كان تحرك ابن سعود سرّياً وخافياً على الأتراك،وإن في أخذ الاجازة يعني تنبيه عدوه، مما يلزمه غزو الأحساء بجيش لجب،وليس ثلاثمائة مقاتل،أو ستمائة ـ على ما يذكره السعوديون ـ!

وإذا كانت هناك فتوى وإجازة، فهي بلا شك إجازة علماء الشيعة الذين دعوه وليس علماء نجد،والذين ما كان بقدرتهم إقرار أي أمر..

والأمر الآخر الذي سيجده الباحث هو ضمور المؤسسة الدينية،وغياب المفاهيم الدينية.. حتى أفكار الوهابية أصابها الهزال..

فالرياض لم تتغير حالتها بعد احتلال عبد العزيز لها،فلم تنشط حركة طلب العلم، ولم يكن هناك ذلك الاصرار والتشدد في تطبيق أحكام الشرع،وعبد العزيز ذاته لم يكن يختلف عن أي حاكم سبقه إلى حكم الرياض من ناحية الالتزام الديني.. فلم يعهد عنه أنه كان ملازماً للصلاة في المسجد جماعة،أو أنه ألقى كلمة دينية،أو أنه ربط موضوعاً سياسياً بالدين وحكمه،كما كان يفعل بعد ذلك.. ولم يعهد عنه أيضاً أن العلماء كانوا ملازمين لمجلسه أو قصره..

وباختصار،لم يكن يفرق بين حالة الرياض وعلمائها.. وبين بقية المناطق الأخرى، سواء التي احتلت أو التي لم تحتل بعد..

الملاحظ الثالثة التي يمكن أن تقال في هذا الموضوع، هو أن عبد العزيز لم يقم بأي تبشير ديني ـ إن صح التعبير ـ في المناطق الجديدة التي احتلها،«بريدة ـ عنيزة ـ الحريق ـ الأحساء،وغيرها»،فلم يكن يرسل العلماء إلى هذه المناطق،بل إنه لم يكن لينكر أي أمر يتعارض مع الدين،ذلك أن هذه المناطق مجتمعة متشابهة من حيث الحالة الدينية،كما أنه لم يبطل مشروعاً غير ديني،أو قانوناً جائراً يتعارض مع الاسلام.. حتى في الأحساء،استمر على ذات المنهج التركي،قمع في جانب،وضرائب باهظة حملها المواطنين لتغطي بعض احتياجاته للمال الذي ينفقه في احتلالاته.

وهنا يمكننا تلخيص دور المؤسسة الدينية في هذه المرحلة في.. «اللا دور».. سوى الخضوع من قبل علماء الدين لسلطان عبد العزيز،خصوصاً آل الشيخ الذين حاربوه في محاولته لا حتلال الرياض أول مرة 1901م..

وعلى أية حال،كانت المؤسسة الدينية يلفها الجمود،وما كانت بحالها هذه تتعارض مع عبد العزيز أو غيره،لأنها تمارس دوراً قشرياً بعيداً عن السياسية وهموم المجتمع..

أما بالنسبة للمجتمع النجدي،فانه يمكننا القول بأنه كان محافظاً بدون استثناء منطقة دون أخرى،ولا شك أن مفاهيم الدعوة الوهابية كانت راسخة في المجتمع النجدي،دون أن يكون لها الأولوية في حياتهم،ودون التشديد في الالتزام بها. لقد أضعف الصراع بين أبناء فيصل بن تركي أواخر الدولة السعودية الثانية وتقديمهم الملك على الدين،الالتزام والولاء الديني،وبقي الولاء السياسي والخضوع للقوي، هو المؤثر..

حتى انك لتجد أن آل الرشيد جميعاً لم يكن أحد منهم ضد الدعوة الوهابية،بل ويشهد التاريخ أن بعض حكامهم كانوا من دعاتها«عبد الله الرشيد على سبيل المثال»، ومجتمع حائل كغيره من المجتمعات المدنية الاخرى، لم يكن ليتهم بأنه بعيد عن أجواء الدين ودعوة محمد عبد الوهاب، بل لا يستطيع أحد أن يجد فوارق من ناحية الالتزام بين الرياض وحائل،طوال الاحدى عشرة سنة الأولى من حكم عبد العزيز،وكان صراع الأخير مع آل الرشيد قائماً على الحكم، فهو يعتقد أنه أحق منهم به،وأن ذلك ملك آبائه.

الالتزام أولا:

فجأة.. ودون مقدمات،رفع عبد العزيز اليافطة الدينية!

لماذا؟..

يجيب مؤرخو البيت السعودي،بأن عبد العزيز كان ملتزماً بالدين الاسلامي،وأن حكمه ـ كما كان آباؤه وأجداده ـ لا يقوم إلا على أساس الدين وحمل أعباء الرسالة، ومن هنا أسس حركة الاخوان كي يعيد للاسلام مجده،وينشره في ربوع المعموره..

وحقيقة الأمر التي سيكتشفها القاريء العزيز من خلال هذا البحث،أن ابن سعود أجبر على رفع شعار الاسلام والتظاهر بالالتزام به، ولم يكن له دور في بعثه.

وأولى الحقائق التي تهدينا إلى ذلك،هي لماذا يرفع شعار الاسلام الآن «1915م» ولم يرفعه قبل ذلك.. وقبل احتلال الرياض «1902م»؟

لا أحد يجيب على هذا السؤال.. ولا أحد حاول ذلك،مع علم المؤرخين أن تحرك عبد العزيز الأولي لم يكن بدافع الدين..

نحن نؤمن بأن الاسلام ليس شعاراً يرفع،بل هو التزام قبل كل شيء،فهل كان عبد العزيز ضالا في تلك السنين الخوالي واهتدى الآن للطريق الصحيح؟.. وعلى يد من ؟!.. وكيف استطاع أن يقلب الراية بين عشية وضحاها فأصبح إماماً وداعية للتوحيد ؟!

إن من المستحيل على ابن سعود، الذي لا يفهم من الاسلام سوى قشوره،أن يبعث حركة دينية وأن يحيي مجتمع نجد بالاسلام.. لأن من الصعب أن ينهض رجل عاش ـ كعبد العزيز ـ بدون سوابق علمية في الدين أن يتزعم تأسيس حركة دينية،ولوقام بها رجل دين ما كان ذلك مستغرباً،بل هو من الأمور الطبيعية جداً.

من هنا يمكننا الجزم بان الانبعاث الديني الذي إنتشر في نجد لم يكن لعبد العزيز فيه أي دور،بل إنه تبنّاه وإحتواه وسيطر عليه، ثم وجهه لخدمة مطامعه السياسية.

* * * *

كانت بداية ارتباط عبد العزيز بالراية الإسلامية مع بداية نهوض حركة الإخوان التي اجتاحت نجد في العقد الثاني من القرن الميلادي الحالي.. ولم تكن قبلها بأي حال من الأحوال..

إلا أن المؤرخين ـ على إختلاف اتجاهاتهم ـ وقفوا مشدوهين أمام هذه الظاهرة واختلفوا في تحديد إسم مؤسس الحركة الاخوانية، هل هو عبد العزيز أم غيره؟.. كما اختلفوا حول تحديد العام الذي تأسست فيه..

إن من تحدث على أن عبد العزيز هو المؤسس، يحتاج إلى أن يتخلص من إشكالية تأريخية، فهناك شخصية اسمها«عبد الكريم المغربي» لها دور ـ أو على الأقل ـ ارتباط بحركة الاخوان، وهنا نجد اجماعاً يكاد يكون مطلقاً على أن هذه الشخصية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بحركة الأخوان، والذين يقولون أن عبد العزيز هو المؤسس، عليهم قبل كل شيء أن يتخلصوا من هذا الاسم الذي فرض نفسه..

إننا حين نبحث عن مَن وضع أساس حركة الإخوان، لا نقصد بذلك البحث التأريخي المجرد، وإنما لأن المسألة تتعلق بالوضع الديني وإرتباط عبد العزيز به،فاذا كان هو المؤسس حقاً، فعلينا القبول بأنه كان مرشداً دينياً.. وداعية إسلامياً،قبل أن تولد حركة الاخوان والتي قامت على أساس عقائدي ديني.. وأن علينا القبول في هذه الحالة بأن المؤسسة الدينية ورجال الدين كان دورهم بارزاً في تلك الفترة، وأن نهضة دينية كانت تعم البلد على يديه.. الأمر الذي لا نجد مصدراً تأريخياً يشير إليه.

أما إذا لم يكن هو المؤسس،فهناك أمور ترتبط بالقضية يجب أن نبحث، وهي كيفية الارتباط والدافع لها..

السعوديون يحاولون التأكيد على أن عبد العزيز هو الذي أسس حركة الاخوان، وبعض المؤرخين قال أنه أسسها في عام 1911م وآخرون قالوا 1912م،وقسم ثالث قال 1913م،فالدكتور غسان سلامة يذكر في كتابه أن الحركة أسست عام 1911 م، وأشار إلى أن عبد العزيز وراءها(24).. أما صلاح الدين المختار فيذكر في كتابه «تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها» أن الحركة أسست عام 1912 م على يد ابن سعود :

(قد استطاع الأمام تحقيق فكرته هذه في سنة 1330 هـ/1912 م، بيد أنه اصطدم بعقبات غير منتظرة، ذلك أن المهاجرين أخذوا يشعرون بأنهم جند الله قبل أن يكونوا جند ابن سعود)(25)..

وكذلك محمد المانع مترجم الملك عبد العزيز يقول :

(في سنة 1912م قام باحياء الحركة الدينية التطهيرية التي أنشأها محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر)(26).

الزركلي في كتابه«شبه جزيرة العرب في عهد الملك عبد العزيز» يعتقد بأنها تأسست عام 1913م، ولكن بدون أن يكون لابن سعود يد فيها..

على أية حال.. ترجح المصادر التاريخية أن تأسسها كان في عام 1912م، وإن كان صيتها لم يظهر قبل عام 1914م..

لقد أسست حركة الاخوان على أساس العقيدة السلفية التي أثارها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي كانت حتى عام 1912راسخة الجذور، وكان الشخص الحقيقي الذي بعثها هو الشيخ عبد الكريم المغربي.. لكنه توفي، إلى أن وصلت الرئاسة إلى شيخ قبيلة مطير فيصل الدويش.

ونعتقد أن هجرة الأرطاوية التي ترعرعت فيها بذرة الاخوان، كانت النواة والنموذج الذي قلده الملك عبد العزيز فيما بعد، حين توسعت وتعددت الهجر.. وهنا نلتقي مع ما قاله جلال كشك.. «بأن عبد العزيز هو الذي أعطاها شكلها ومضمونها فيما بعد».. هذا المضمون تغير على أية حال ليتوافق مع رغبات الملك، الذي لم يكن مؤسساً لها..

يقول ديكسون في كتابه«الكويت وجاراتها»:

(وقد بدأ هذه الحركة العالم المتدين الشيخ عبد الكريم المغربي، الذي كان المعلم الأكبر للمرحوم فالح باشا السعدون شيخ المنتفك.. وأصبح بعد ذلك معلماً لمزعل باشا السعدون والد إبراهيم بيك السعدون، وعندما ترك عبد الكريم خدمة مزعل باشا غادر العراق إلى نجد، حيث أظهر نفسه كمعلم ومصلح ديني في مدينة الأرطاوية التي كانت وكراً صغيراً للوهابية.. ـ ويضيف ـ كذلك لم يكن لابن سعود أي علاقة بنشأة الحركة، ولكن الحركة أول ما استرعت انتباه عبد العزيز، بعد أن استعاد الأحساء من الأتراك، ولم تظهر حركة الاخوان إلى العلن(27) في نجد قبل سنة 1914م)..

ويقول جمال زكريا قاسم في كتابه «الخليج العربي»(28):

(لم يعرف عن هذه الحركة شيء في الجزيرة العربية إلا في عام 1914، أي بعد استيلاء ابن سعود على الأحساء) ويضيف في الهامش:(تنسب هذه الحركة إلى الشيخ عبد الكريم المغربي الذي عمل لدى شيوخ المنتفق في العراق، ثم رحل إلى نجد، حيث أظهر نفسه كمعلم ومصلح ديني في أرطاوية، وهي الهجرة الرئيسية لقبيلة مطير).

وفي موقع آخر يقول:

(وفي أواخر عام 1915راعَ ابن سعود تضخم هذه الحركة مما وضعه أمام حلّين. إما أن يقضي عليها أو يصبح زعيماً لها، وبالتالي تتاح له فرصة استغلال حماسة أتباعها في تدعيم نفوذه في الجزيرة العربية وسواحل الخليج.

وقد إختار إبن سعود الأمر الثاني رغم تحذيرات عبد الله بن جلوي حاكم الأحساء، الذي نصحه فيما يقال بالتخلي عن هذه الحركة التي شبهها بنار تلتهم كل شيء أمامها. وفي عام 1916 أصدر ابن سعود أمره القاضي بانخراط جميع قبائل نجد في صفوف الحركة الجديدة وأن يدفعوا له الزكاة بصفته إمامهم الشرعي)(29)..

و«كشك» مع أنه لا يؤكد أن مؤسس الحركة هو عبد العزيز، إلا أنه يعتقد بأن ما يظنه (البعض أنه باثبات أسبقية وجود الفكرة على تبني عبد العزيز ينتقص من قدره، بل ويذهبون إلى القول بأن الحركة نمت إلى حد تخويف عبد العزيز، هو تفسير هزلي).. وإذا كان كذلك حقاً.. فبماذا تفسر «كشك»؟

يعتقد كشك بأن الهجر (ظهرت براعمها تلقائياً، كما هو الحال في كل الارهاصات الكبرى في التاريخ، إلا أن أية دراسة علمية تستحق هذه الصفة، لا يمكن أن تتحدث عن حركة الاخوان إلا بنسبتها لعبد العزيز، فهو الذي أعطاها شكلها ومضمونها، وهو الذي غير بها التاريخ، وأدخلها التاريخ(30)، ومن ثم فكل الجدل حول من كان أولا، إنما هو جدل أكاديمي)(31).. وهو هنا لا يؤكد نسبتها لعبد العزيز.. بل يطرح قصة أخرى عن كيفية انبعاث الحركة بدون أن تكون هناك أدنى إشارة إلى أن ابن سعود وراءها، رغم أنه أكد مسبقاً بأن الشكل الذي اتخذته فيما بعد والمضمون التي حملته، كان من صنعه، وهو صحيح إلى حد بعيد..

يقول كشك :

[وقد نقل الزركلي «بتصرف» مقالاً نشر في مجلة «لغة العرب» ببغداد،جمادى الآخر 1331/مايو ـ يونية 1913عن هجرة الأرطاوية جاء فيه:(منذ بضعة أشهر،باعت إحدى عشائر نجد،خيلها وجمالها،وما عندها من العروض والأموال بأمرين لا غيرهما،الزراعة والعلم،وقد أهمل افرادها كل شيء سواهما، والعشيرة اسمها العريمات، وشيخها «قويعد الصريمة» وهي من قبيلة حرب). ](32).

ويبدو من وقائع التاريخ أن عبد العزيز، الذي كان حينها يسعى للسيطرة على نجد وغيرها من المناطق من منطلق قبلي ومادي ضيق، وجد في الاخوان أنهم يسعون للسيطرة على البلاد،ولكن من منطلق ديني وعقائدي بحت.

فكان يقوم بزيارتهم،ويظهر نفسه بمظهر الدين،وأنه ملتزم مثلهم ويحمل أهدافاً كالتي يحملونها،ثم دعا هم للخضوع لسيطرته والقتال تحت رايته،ولكنهم رفضوا هذا العرض من منافسهم،وهذا ما يفسر أن عبد العزيز كان في صدام معهم من قبيل المنافسة حتى عام 1914على الأقل..

ويوضح حافظ وهبة هذه الحقيقة بالقول:

(قرأوا أن من آية الاخلاص لله ودينه.. وآية الايمان الصحيح،التخلص من كل ما يشم منه رائحة الجاهلية،فأخذوا يبيعون إبلهم وأغنامهم،وينقطعون في الهجر للعبادة وسماع السيرة النبوية، وغزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،وتاريخ انتشار الاسلام في جزيرة العرب،فوجدوا أن حياتهم الأولى تشبه حالة الاسلام في حياته الاخيرة، فعكف أكثرهم على تعلم مباديء القراءة وحفظ شيء من القرآن والحديث. غير أن هذا الانقلاب كان خطيراً وعنيفاً جداً،لقد تشرب هؤلاء كثيراً من المباديء والتعاليم الناقصة،حتى إعتقدوا أنها هي الدين، وما سواها ضالة،كما أساؤوا الظن بغيرهم ممن حضر نجد، بل وبولي أمرهم الامام عبد العزيز)..(33)

هذا الكلام يثبت أن الانقلاب في حياتهم كان خطراً على عبد العزيز،الذي لم يكن حينها ولياً لأمرهم أو إمامهم، والذي لم يكن يعتبر عندهم أكثر من أي حاكم من حكام نجد..

ولعل هذه الفقره التي أوردناها سابقاً لصلاح الدين المختار تضع النقاط على الحروف :

(وقد استطاع الامام تحقيق فكرته هذه في سنة 1330هـ «1912م»بيد أنه اصطدم بعقبات غير منتظرة، ذلك أن المهاجرين أخدوا يشعرون بأنهم جند الله قبل أن يكونوا جند ابن سعود.. )..

وهذا يؤكد على أن تأسيس الحركة لم يكن على يد ابن سعود،كما أن هذه الحركة لم تكن تعترف بعبد العزيز حتى عام 1914م..

ومهما يكن من أمر،فان عبد العزيز بعد زيارات متتالية للأرطاوية،استطاع أن يقنع قادة الحركة عام 1915 بمشاريعه التوسعية التي عرضها بصيغة إسلامية، وعدد المكاسب الاسلامية في هذا الأمر.. كما أغراهم بأن يضم إليهم كل قبائل نجد حتى تصبح هجراً كهجرتهم،ويكونوا هم المشرفون عليها..

الهدف من احتواء الاخوان:

طالما ان ابن سعود لم يهتم بأي بعث ديني، لأنه أساساً يعتمد على المنطق الجاهلي،وطالما أن بعث حركة الأخوان لم يتم على يديه.. فما هو سر ركضه وراءها واحتواءها ؟..وما هو سر تشبثه بالدين وحمل لقب الإمام؟

لم يكن ابن سعود يُلقب بالإمام وإنما بالأمير أو«الشيوخ» ـ وهي غير شيوخ الدين ـ،ذلك أن لقب الامام اهتز كثيراً بعد تصارع أبناء فيصل بن تركي، إذ حاول كل منهم أن يسمي نفسه بالإمام علامة على شرعيته، وحين استولى ابن سعود على الحكم، أبعد هذا اللقب عن نفسه، ثم عاد وأكده بعد احتوائه الاخوان، الذين يعرفون الفرق بين الملك والامام، وهم بتدينهم لا يحلو لهم أن يلقبوه بغير الامام تأكيداً على العلاقة الدينية التي تربطهم به، وهكذا حمل ابن سعود هذا اللقب تجاوباً مع الإخوان، وتمشياً مع المفاهيم التي يحملونها..

يقول «كشيك» في هذا المعنى:

(بالنسبة لعبد العزيز، فقد بدأ تلقيبه بالإمام على نحو بارز بظهور حركة الاخوان، وانتهى ذلك بزوالهم)(34) ، وهذا يبين أن عبد العزيز لم يحمل اللقب إلا خضوعاً للاخوان وليس عن إيمان، ولهذا ترك لقب «الامام»بعد أن قضى عليهم.

ومهما يكن، فان منظار ابن سعود للحركة لايتعدى في انه وجدها وسيلة لطموحاته وكل الشواهد التاريخية ووقائع الأحداث تؤكد ذلك.. والأمر الذي دعاه لتبنيها، ماهو إلا الهدف، فلما تحقق ذلك قضى عليها، وكبل قادتها، وأودعوا السجون إلى أن ماتوا..ثم بدأت مرحلة أخرى من تاريخ البلاد.

لقد هال عبد العزيز عند زيارته للأرطاوية، التماسك الديني والتآخي بين افراد القبائل الذين كانوا بالأمس في نزاع مستمر وعداء تاريخي مرير.. كما لمس التعاون بينهم وطاعتهم لقيادتهم.

وهنا وجد أن حل مشاكله لا يمكن أن يتم إلا بتطبيق هذا الأنموذج الفريد في نجد، وحمل ذات اللواء الذي يحملونه.. فعبد العزيز لازال يواجه مشكلات عصيّة على التطويع، أهمها الولاء القبلي الذي يحد من قدرته على الاستفادة من أبناء القبائل المتقلبه الولاءات والمتعددة الاهتمامات.. ثم أنه كان بحاجة ماسة إلى دفع المال الكثير لشيوخ هذه القبائل وتعويضها مقابل خوض حروبه التوسعية وتحقيق مطامعه في السيطرة على المناطق الأخرى، فغياب المفهوم الديني في الغزو، ومن ثم الاحتلال، كلفه كثيراً.. ذلك أن القبائل والمدن والمناطق لا تخضع بالمال ولا بالقوة ـ وإن كانت ترضخ له مؤقتاً ـ لكنها لا تلبث أن تثور وتتمرد عليه، وكذلك قواته التي تلتحق به من أجل المال الذي يدفعه لها، كان يعوزها النفس الديني وروح التضحية والإستبسال في القتال، إضافة إلى مداومة الولاء الذي لم يكن متوفراً حينها، لأن هذه القبائل تنتقل من مكان لآخر يصعب عليه السيطرة عليها وحكمها، فضلاً عن دفعها معه للقتال..

ولاشك أن ابن سعود كان بحاجة إلى إعطاء هدف ديني للتوسع، وبالذات للبدوي الذي لا ينظر لأبعد من أرنبة أنفه..

كل هذه الأمور كانت متوفرة بشكل لا مثيل له في واحة الأرطاوية التي خرّجت الرعيل الأول من قادة حركة الاخوان،.

ويمكننا أن نقول، بأن ابن سعود كان توّاقاً لتطبيق هذا الأنموذج على القبائل التي أخضعها«فهو يعلم أنه لن يكون بمقدوره إخضاع المناطق ـ وإلى الأبد ـ إلا بإسم الاسلام والدعوة لتطبيقه..

ونخلص لهذه النتيجة:

من أجل السيطرة على البدو المتنقلين الذين لا يمكن لحاكم أن يخضعهم وهم بهذه الحالة السريعة التغير، والانتقال من مكان لآخر.

ومن أجل إعطاء هدف ديني لتوسعاته...

ومن أجل الاستفادة من روح التضحية والفداء في هذه الإحتلالات.

ومن أجل أن يكون الولاء له وليس للقبيلة..

من أجل هذا كله، اختار السيطرة على حركة الإخوان وتطوير التجربة، مع إضافة بعض المفاهيم التي يشحن بها البدو والتي تسهل عليه الأمر..

ولذا نرى إصراره على احتوائها، ورفضه عروض ابن جلوي، الذي كان يحبذ مواجهتها عسكرياً بإعتبارها منافساً لسلطان سيدهِ، ولم يكن ليقبل بأن يتعايش معها دون إحتواء، لأن ذلك سيمكن الإخوان، وهم الذين بدأوا ينهضون بروح جديدة وقوة عسكرية حديدية، بإيجاد مشاكل عديدة في المناطق التي يحتلها، وسوف، يثيرون الناس عليه.. لهذا التحق بركبها، وأظهر خضوعه لمبادئها، ثم جيّرها لأهدافه..

ويقول فيلبي:

(مشكلتان واجهتا ـ منذ زمن سحيق ـ كل من حاول حكم الجزيرة العربية، الأولى هي عداوات البدو،والثانية فقدان الهدف المشترك الذي يشكّل المركز الذي يلتف حوله. وقد استطاع بيت آلرشيد ـ إلى حد ما ـ أن يتخطى هذه المصاعب، بفضل الصفة الخاصة لقبيلة شمر(35)، التي تدعمت وحدتها بامتلاك عاصمة، وحاكم من دمهم. ولكن الوضع مختلف مع بيت سعود، فهم لايحكمون استناداً إلى عصبية قبلية(36)، بل يعتمدون في مركزهم الذي صنعوه لأنفسهم، على اتحاد قبائل، مستعدة في أي لحظة للتطويح بحكمهم إذا ما فقدوا مبرره)..

ويعتقد فيلبي أنه لو لم يكن حركة الاخوان موجودة، لحاول عبد العزيز إيجاد تحرك ديني يمتطيه، وهذا على سبيل الإفتراض، للتدليل على أهمية الدين كعامل توحيد:

(ومع ذلك، يمكن الإفتراض أن فكرة نهضة وهابية أخرى(37) كانت تختمر في رأس ابن سعود، كعامل سياسي يستفيد منه)..

ويقسِّم جمال قاسم، حركة الاخوان بالنسبة لعلاقاتها بإبن سعود إلى ثلاثة أدوار رئيسية، موضحاً هدف عبد العزيز من تحالفه معها وأهدافه منها:

(الدور الأول: من 1915 إلى 1922، وفي هذه المرحلة استغل ابن سعود الإخوان لتوسيع رقعة ممتلكاته، ولذلك يمكننا أن نقرر أن جميع الحروب التي خاضها الإخوان في هذه المرحلة، كانت تتم بأوامر صريحة من إبن سعود، ظهر ذلك في حروبهم ضد الكويت في حمض والجهرى، وكذلك في حروب ابن سعود ضد آل الرشيد وإسقاطه لامارتهم في حائل 1922.

والدور الثاني:يمكن تحديده بالفترة من 1922 إلى 1925، ويظهر في هذه المرحلة تغاضي ابن سعود عن نشاط الإخوان وتحركاتهم، طالما كان توسعهم يتم لمصلحته.

أماالدور الثالث: فيشمل الفترة من 1926 إلى 1930، وفي هذا الدور تظهر بوضوح، الخلافات بين ابن سعود وبين زعماء الإخوان، بعد أن وحدهم يعارضون سياسته وأسلوبه في الحكم، ولذلك كان من الطبيعي أن تنتهي هذه المرحلة بثورتهم عليه، ثم نجاحه في قمع ثورتهم والقبض على كثير من زعمائهم)(38).

ويقول مترجم الملك «المانع» في كتابه:

(لقد كان من المستحيل الإعتماد على البادية في بناء مملكة، فقد حاول كثير من العظماء في الجزيرة العربية أن يوحدوها تحت ظل حكومة واحدة، لكن لم ينجح أحد منهم لمدة طويلة. وكانت المشكلة تكمن في أن رجال القبائل لديهم نزعة استقلالية حادة، ولا يكنون ولاءاً لأي شخص ليس منهم)(39).

وفي موقع آخر يقول :(لقد كان من أعظم مشكلات ابن سعود في بناء دولة مستقرة، تلك المشكلة التي واجهت كل زعيم في الصحراء العربية، وهي نزعة رجال القبائل الحادة إلى الاستقلال، وحبهم للحرب، وسرعة تغير ولاءاتهم، وفي سنة 1912 م، قام باحياء الحركة الدينية التطهيرية التي أنشأها محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر، وكان هدفه من إحيائها جمع رجال القبائل على طاعة الله، وكان من أعظم خطواته في ذلك أن شجعهم على الاستيطان في أماكن مستقرة، ومن هنا نبعت الحركة الدينية المعروفة بإسم الإخوان والتي كانت مصدراً لمحاربين متعصبين على أتم الاستعداد للقتال في سبيل الله حتى الموت.. وفي خلال سنة واحدة من مولد حركة الإخوان، وجد ابن سعود لديه جيشاً كبيراً قوياً متحمساً من رجاله يعتبرونه أداة الله المختارة، وجنوداً يمكن أن يثق بإستمرار ولاءَهم له وتلبية ندائِه كلما نادى للحرب)(40).

وفي موضع ثالث يقول:

(وقد جعلتهم طبيعتهم القلقة، وعدم تسامحهم الديني، توّاقين إلى شن الحروب على الكفّار، ولأن الكافر في عيونهم كان تقريباً كل من ليس من الاخوان، فإن حركتهم أصبحت سلاحاً في يد ابن سعود يستطيع أن يشهره في وجوه أعدائه)(41).

وهذا النص غني عن التعليق..

فإبن سعود يلقنهم بأن غيرهم كُفّار، ولذا لابد من محاربتهم وإحتلال أراضيهم وهو المهم، وما عليه إلا أن يجمع له بعض العلماء ليفتوا بأن هذا كافر.. وأهل المدينة الفلانية كُفّار، حتى يشنوا الحرب ويستولوا عليها!

وأبلغ من النص السابق ما قاله الريحاني في «ملوك العرب»(42):

(إن عنده ـ أي عبد العزيز ـ لكل من الإخوان وظيفةً ومقاماً: المعتدل للخدمة، والمتساهل للتجارة والسياسة، والمجنون للقتال!)

ويؤكد غسان سلامة أن السعوديين مجبرون على حمل لواء الاسلام، وأنهم دمجوا طموحاتهم السياسية بالقضية الدينية، وأن عبد العزيز أنشأ الاخوان لحاجته للإحتلال..

(كانت التجزئة السياسية التي سادت تأريخ الجزيرة العربية،مقرونة بالتشرذم الطائفي، وفي هذا المجتمع الذي لا يعرف الحدود والذي تشكل فيه الروح القبلية الأساس شبه الوحيد لأي شعور بالإنتماء المجتمعي، كانت كل سلطة تسعى للاستمرار والتوسع، مجبرة على إرساء شرعيتها على تيّار ديني خاص بها، وكان الرجوع إلى الاسلام سلاحاً جوهرياً في سبيل إرساء قاعدة شعبية واسعة تتخطى إطار القبيلة)(43)، وهذا ما طبّقه السعوديون وعلى رأسهم ابن سعود.

وبعد أن ينقل وصف الريحاني لعبد العزيز بأنه يصنع الاخوان ويرسلهم مفعمين بالحماس لنصرة الله ونجد، يقول:(فتبين كيف تعمل السلطة ولصالحها، على دمج القضية الدينية بالطموحات السياسية)..(44).

ثم يوضح أن نشأة الاخوان «تبنّي الإخوان وتوسيع نشاطهم» كان بسبب الحاجة للإحتلال:

(على صعيد القاعدة، فقد نجح السعوديون في تحويل إلى جيوش غازية لا تقيم وزناً لأي حدود، فاستخدموا بذلك ـ وأكثر من أية قوة أخرى ـ لتوطيد وتوسع السلطة السعودية، وعندما سعت هذه الأخيرة، إلى اكتساب بعض الشرعية الدولية، وجدت نفسها مجبرة على مواجهة هذه القوى «يقصد الاخوان»،ليس بهدف إثارة حماسها ودفعها إلى الهجوم، بل لتخفيف من روح الفتح عندها، قبل أن تعمل على تصفيتها.

ولكن من هم هؤلاء الرجال الذين يشكلون أداة بالغة الفائدة لسلطة طموحة ؟. وهل هم منظمون؟..

إن الذين خدموا قضية عبد العزيز في القرن العشرين لا يختلفون بشكل جوهري، عن أسلافهم في القرنين السابقين. إلا أننا سنكتفي هنا بالحديث عن حركة الاخوان التي تم تأسيسها في عام «1911».

كان عبد العزيز في تلك الفترة، أمام معضلة كبيرة الصعوبة :كان طموحه يرمي إلى أعادة توحيد شبه الجزيرة لصالحه، إلا أن أشد أتباعه كانوا ينتمون إلى مقاطعة نجد التي بقيت على إخلاصها للتيار الوهابي، وكان هؤلاء لا يستطيعون التخلي عن زراعتهم، وعن حرفهم أو أعمالهم التجارية الصغيرة ليتبعوا الملك الشاب في حملاته البعيدة، بينما كانت أعداد البدو ـ في المقابل ـ كبيرة، وكان من اليسير إثارة حماسها، ولكن المشكلة في أن البدو غير موثوقين وغير منظمين، لأن ولاءهم للقبيلة يتقدم أي ولاء آخر.. كان البدو يقدمون احياناً يد العون لعبد العزيز، وفقط حينما يستطيع هذا الأخير أن يعقد تحالفاً ـ ولو هشّاً ـ مع زعمائهم. والحال أن البدو كانوا القوة الوحيدة التي تخوض القتال بعيداً عبر الصحراء، لأنهم لا يملكون ما يشدهم إلى مكان معين في المساحة الصحراوية الشاسعة، حيث يعيشون حياة ترحال مستمر، ولهذا السبب كان عبد العزيز يسعى لتشكيل قوات تتمتع بتنظيم وإخلاص الحضريين. وقدرة البدو وحركتهم في آن معاً.

كانت نشأة الاخوان إذن، استجابة لهذه الحاجة(45).

 

 

 

هدف احتواء الاخوان

من خلال سرد هذه المقتطفات من الكتب والمصادر التأريخية المختلفة يتبين أن الهدف من احتواء الإخوان وتوسع رقعة نشاطهم.. إنما يرجع للحاجة في السيطرة والتوسع.

واتخذ«كشك»نفسه مدافعاً عن عبد العزيز، فنفى أنه«غرر بالاخوان واستخدمهم.. فلما قضى حاجته قضى عليهم»، كما نفى قول«جون حبيب»الذي قال أن عبد العزيز«ضربهم عندما حققوا الهدف الذي أنشأهم من أجله»، ثم يكمل نفيه بدون مبرر فيسخر من مؤلف كتاب«الاصلاح الاجتماعي» لأنه يعتقد بأن سذاجة البدو وعاطفتهم جعلتهم يصدقون كل شيء قاله الملك لهم، مما ساعد على نجاح مشروعه والذي استفاد من طبيعة البدو هذه فاستخدمها لتحقيق أهدافه في الحكم.. كما ينكر عليه قوله:«بأن البدو لا يهتمون بالسياسة وإنما لديهم إحساس عميق بالأمور الدينية لم ينطفيء بتصفية زعماء الاخوان»

في نهاية المطاف استطاع عبد العزيز إخضاع حركة الاخوان لسلطانه، وأمر في عام 1916م، كل القبائل أن تقوم ببناء هجر مشابهة للأرطاوية، ولم تقبل القبائل هذا الاقتراح برحابة صدر، بل كان المال أولا والسيف ثانياً من نصيب المخالفين...

ولم تكن أهداف ابن سعود خافية على الكثير من القبائل التي خضعت، ولكن لا حول لها ولا قوة ولا قبل لها حين المواجهة، إلا قبيلة«العجمان» التي رفضت الاعتراف بابن سعود إماماً على الإخوان، ورفضوا الإنضمام لسلك الهجر، لذا أراد تأديبهم حتى يكونوا مثلا للقبائل الاخرى.. (ولا يرجع رفضهم إلى أنهم لم يؤمنوا بتعاليم الاخوانية، بل لأنهم كانوا يتوجسون من نوايا ابن سعود الرامية إلى إضعاف قوتهم)(46)..

ويقول ديكسون(47):

(كان ابن سعود ينوي نقل قبيلة العجمان من منطقة الأحساء الساحلية ـ موطنها الأصلي ـ  إلى نجد، حيث يقسمها إلى أقسامها العشرين التي تتألف منها، ويضع كل قسم في حاضرة من حواضر الاخوان، وذلك لكي يشتت شملها).. وسياسة فرق تسد طبقها كثيراً، يقول مترجمه:

(وكل رجل يطمح في أن يصبح ملكاً عظيماً وسط جزيرة العرب كان يحتاج إلى معرفة موسعة بتشكيل كل قبيلة وما يوجد في داخلها من منافسات، ذلك أن مبدأ«فرق تسد» يمكن أن يستخدم إلى مدى بعيد بين القبائل المختلفة وبين الفروع المتعددة في القبيلة الواحدة، ولم يكن ابن سعود يعرف دقائق النظام القبلي العربي معرفة تامة فحسب، وانما كان يعرف أيضاً كيف يستخدم المنافسات بين القبائل لمصلحته، فهو كثيراً ما جعل الفروع الأقل قوة من القبائل الكبيرة تتحالف معه ضد الفروع الأكثر قوة من تلك القبائل)(48)..

وفي الأخير خضعت.. بعد التضييقات التي مارسها ابن سعود على «العجمان» الذين استسلموا له عام 1919م، حيث اعترفوا به إماماً عليهم، وعادوا إلى مقاطعات نجد حيث انخرطوا في صفوف الاخوان.. وهناك ذابوا في التجمعات وانتهت قوتهم.

وأعداء ابن سعود كانوا يعلمون أنه يستخدم حركة الإخوان لتحقيق طموحاته السياسية، فالشريف حسين كان يصر على حل حركة الإخوان التي كانت متضخمة حينها، حتى يتمكن من مفاوضة ابن سعود.. وابنه فيصل شرح للانجليز بأن الحركة الوهابية حركة توسعية مجندة لخدمة أهداف سياسية(49).

وحتى الانجليز يعلمون مقدار الارتباط بين ابن سعود والحركة، فهم يعتقدون بأن التوسع لن يتم دون الاعتماد على الوهابية.. ويقول ديكسون المعتمد السياسي الانجليزي في الكويت:

(إن أحداً من الذين عرفوا ابن سعود أن يتهمه شخصياً بالتعصب الوهابي، أو بالهيجان والاندفاع الديني الأعمى، الذي كان يحقن به أتباعه من الإخوان، فقد كان في المناسبات ـ وحسب ما يلائم أغراضه ـ يتظاهر أمام أتباعه بأن له نفس نظرتهم.. فعندما يجتمع بشيوخ القبائل في كل المناسبات ـ  وحتى في حضوري ـ كان ابن سعود يندد بالأجانب ويتكلم ضدهم، ومثالاً على ذلك قال مرة أن المساعدة الشهرية ومقدارها «75 ألف روبية» التي كانت تقدمها له الحكومة البريطانية والتي حملت قسطاً منها إليه أثناء زيارتي، هي جزية كان يدفعها المسيحيون إلى قادة الإسلام الأوائل بدلا من الخدمة العسكرية)..

ويقدم مثالاً أخر يؤكد عدم التزامه بمعتقدات الإخوان:

(وقد حذَّرني في المجلس أن التبغ حرام وخطيئة مميتة، وأن من يدخنه في نجد يكون قد خرق القانون، وبذلك يعرض نفسه للأذى، ومع ذلك أرسل إلي ابن سعود الموقر ـ بعد حلول الظلام ـ علبتين من أفخر السجائر المصرية، بيد الدكتور عبد الله الدملوجي، طالباً مني أن أدخنها في غرفتي)(50).

ومن الملاحظ أن الانجليز في تقاريرهم ومذكراتهم يبرئون ابن سعود من التعصب الديني، والذي يعني في نظر الاخوان التساهل أو التحلل عن الدين، والكتاب السعوديون يفاخرون بشهادات الانجليز هذه.. ومن هنا لا معنى بأن يقال أن ابن سعود هو المؤسس والمرشد.. ولا معنى لقول فؤاد حمزة في كتابه «قلب الجزيرة العربية» من أن بن سعود «أرشدهم بالدين إلى واجباتهم الدينية نحو الخالق، ونحو إخوانهم في البشرية !».. ولا معنى أيضاً للترهات التي يطلقها بعض المؤرخين من أن ابن سعود أدخل الناس في الدين وعلمهم مفاهيم التوحيد، وهو الذي ينتهك كل القيم من أجل الحكم ولا شيء سواه.

وحتى محمد أسد الذي أسلم ووضع الآمال في الحكم السعودي، عبّر عن خيبة أمله في عبد العزيز ووجده حاكماً كالحكام، وأنه يستخدم الدين وسيلة وليس هدفاً..

يوضح محمد أسد رأيه في الإخوان وحماستهم فيؤكد أنهم يعتقدون بأن جهادهم ديني، وأستثنى عبد العزيز من ذلك، مما أثار «كشك».. ويطرح بعدها بصراحة ووضوح أن حركة الإخوان لم تكن سوى وسيلة لبلوغ ابن سعود القوة واستتباب الحكم..

(وأصبحت حماسة الإخوان الدينية وقوتهم الحربية أداة فعالة في يد ابن سعود،ومن ذلك الحين فصاعداً.. اتخذت حروبه مظهراً جديداً،ذلك أنها بعد أن حمل لواءها الاخوان بحميتهم الدينية،تخلت عن صفتها السابقة كنزاع عائلي على السلطة، واصبحت جهاداً دينيا في نظر الاخوان، علىالأقل).

ويضيف:

(كان هذا التجدد الديني يتضمن أكثر من معنى شخصي،ففي تمسكهم تمسكاً لا يعرف اللين أو المهادنة بتعاليم المصلح العظيم في القرن الثامن عشر.. محمد بن عبد الوهاب، فان الاخوان، كثيراً ما كان يستحوذ عليهم شعور مُغالاًً فيه من التقى والورع الشخصيين، إلا أن ما كان يرغب فيه معظمهم قبل أي شيءآخر، لم يكن التقى الشخصي فقط، بل إقامة مجتمع جديد يمكن أن يدعى إسلامياً بحق،صحيح أن كثيراً من مفاهيمهم كانت بدائية،وأن حماستهم الدينية كثيراً ما قاربت الغلو،ولكنهم لو أتيح لهم إرشاد وتعليم صحيحا، فان ورعهم الديني العميق كان خليقاً به أن يمكنهم من توسيع أفقهم، وأن يصبحوا مع الزمن النواة لانبعاث جزيرة العرب كلها انبعاثاً صحيحاً، اجتماعياً وروحياً، إلا أن ابن سعود ـ لسوء الحظ ـ قد أخفق في إدراك الأهمية الكبرى لمثل هذا التطور،وبقي قانعاً بتعريف الاخوان إلى أبسط مباديء الثقافة الدينية والدنيوية، والحق أنه لم يعرفهم إلى شيء من هذا إلا بالمقدار الذي بدا ضرورياً للحفاظ على حماستهم وغيرتهم،بكلمة أخرى،لم ير ابن سعود في حركة الاخوان إلا وسيلة لبلوغه القوة واستتباب الحكم، وفي السنوات التي تلت،كان مُقَدّراً لهذا الاخفاق أن يرتد وينكص على سياسته هو بالذات، وأن يهدد في الصميم وجود المملكة التي بناها بيديه،ولعل هذا الاخفاق قد أعطى أيضا الدليل الأول على أنه كان يفتقر إلى العظمة الداخلية التي أصبح شعبه يتوقعها منه،ولكن خيبة أمل الاخوان في الملك، وخيبة الملك في الاخوان،لم تتضح إلا بعد سنوات طويلة)(51)..

العلماء والاخوان :

إن من تسنى له دراسة حركة الاخوان، سيجد ـ وبوضوح ـ أن مأساة هذه الحركة، ومأساة المؤسسة الدينية بشكل عام، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعلاقة التي كانت بينها وبين رجال الدين..

فالعلماء لم يكونوا صناعاً لها، وكان مجدهم قد علا بارتباطهم بها، وإن حسب هذا المجد لابن سعود، لأنهم بقوا على ولائهم له، وكانوا أداة في يده، حتى صفيت الحركة بفتاوي منهم أنفسهم..

مشكلة حركة الاخوان ابتدأت بموت زعيمها ومؤسسها الشيخ عبد الكريم المغربي الذي لم يظهر اسمه قبل استيلاء عبد العزيز عليها.. وبهذا الغياب لم تظهر قيادة دينية بوزنه من رجال الدين، بل كان المسيطر عليها فيصل الدويش الذي ـ رغم قوته ـ لم يكن بمستوى وقدرة رجل الدين، وهذا الأمر سهَّلَ على عبد العزيز احتواء الاخوان..

أما رجال الدين الذين كانوا يعيشون خارج إطار الحركة، والذين يتوزعون على قرى ومدن نجد، فكما ذكرنا، بأنهم وحتى قبل أن يعلن عبد العزيز أوامره بالتحاق كل القبائل بالهجر وتأسيسها على نمط الإخوان، لم يكن لهم أي دور في تقرير الأوضاع في نجد، بل لم تكن لهم أية علاقة متميزة مع حاكم نجد «عبد العزيز»..

وعلى هذا الأساس، وبصريح العبارة، لم يكن العلماء الذين انطلقوا من مدنهم وقراهم لإحياء الهجر، صناعاً أو قادة لها، بل إن موقعهم الديني في التوجيه أعطاهم وجهاً قيادياً فوقياً، بينما بقيت هذه الهجر تحت زعامة الاخوان ذاتهم، أي فيصل الدويش، وغيره..

هذه القيادة الفوقية للعلماء، وكونهم ينفذون تعاليم ابن سعود الذي بعثهم للهجر، ليس فقط وضعهم أنصاراً له على الدوام، بل وجعلهم يزهدون في هذه الحركة التي لم يخلقوها.

وعلى كل حال، لم يشعر العلماء أن الاخوان قضيتهم قبل غيرهم.. وأنها منهم وهم منها، بل كانوا يعتبرون أنفسهم كقيادة دينية فوقية طارئة ومحكومة بمعادلات وتوجيهات ابن سعود..

وهنا كان مذبح الحركة..

فحين بدأ الصدام بين الاخوان وعبد العزيز، كان العلماء ـ وللأسف الشديد ـ على الدوام يقفون إلى جانبه، لأن مصيرهم وقدرتهم مربوطة به قبل الاخوان، الذين لم يخب ظنهم في العلماء إلا في السنوات القليلة والأخيرة من عمرهم، حيث اعتبرهم تبعاً له في كل أمر، وأنهم مهادنون يخفون الحق.

وبتصفية حركة الاخوان، تقلّص إلى حد كبير دور رجال الدين ونفوذهم، لأن من المفترض أن يشكل العلماء والاخوان قوة واحدة، إلا أن الانفصال الذي حدث.. وتصفية الجناح العسكري، جعل قوة الجناح الآخر ضعيفة مهزوزة، لم تستطع مواجهة سيل التغريب الذي اجتاح البلاد، فأصبح ابن سعود متحرراً من كل القيود والضغوط التي كان يفرضها عليه الاخوان، وراح يفعل ما يحلوله دون خوف أو وجل..

 

 

دور العلماء في الهجر والحروب:

بدأ نمو المؤسسة الدينية ودورها في البلاد في عام 1916،حتى بلغ ذروته في عام 1927م بعد احتلال الحجاز، ليخفت هذا الدور وينتهي بانتهاء الاخوان..

لقد دخل العلماء الساحة بأمر من ابن سعود،ولم يكن بمبادرة منهم،حيث دعاهم ضمن مشروعه إلى الذهاب للهجر وتعليم الاخوان،فعبد العزيز الذي لم ير أية حاجة فيهم،وجد نفسه مضطراً للتودد إليهم والعطف عليهم وإعانتهم بالمال والهبات،من أجل أن يكونوا رقماً في المعادلة التي رسمها في ذهنه،ويشاركوا في إعداد الهجر وإخضاعها له.

وهكذا كان.. فقد توجه عدد من علماء الرياض والمناطق الأخرى ليقيموا في هَجَرْ، ويلقنوا المنضوين تحت لوائها أصول التوحيد على نهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب..

وبهذا التاريخ،يصعد نجم العلماء.. ذلك أن القيمة الحقيقية في المجتمع النجدي أضحت للعلم والعلماء، الذين أوكل إليهم تربية وصناعة الرجال في الهجر..

وهكذا تحولت الرياض إلى محل لطلب العلم، كي تخرّج علماء ليفوا بحاجة الهجر التي تزداد وتتوسع يوماً بعد يوم.. ولكنها لم تصل إلى الحال الذي وصلته الدرعية من حيث المكانة العلمية أيام محمد بن عبد الوهاب.

ولما اتخذت حروب ابن سعود صبغة دينية وسُميت بالجهاد، كان عليه أن يأخذ فتوى العلماء لمحاربة هذا العدو أو ذاك.. والحق أنهم لم يبخلوا عليه بها ولولمرة واحدة!، وكان عليه أيضاً أن يأخذ معه في حملاته عالماً أو أكثر كدليل على هذا التوجه الديني..

إضافة إلى ذلك.. كان عليه شخصياً، وعلى أفراد أسرته، والعاملين معه، أن يلتزموا بتعاليم الحركة الإخوانية التي هي في الأصل تعاليم الحركة الوهابية،وإن كان في الظاهر على الأقل..

كان العلماء ـ إذن ـ على رأس الهجرات،التي تأسست بالسيف أولاً حتى تقبل بالاستقرار، ثم يبدأ معهاتلقينهم العلم الذي يهم عبد العزيز أن يشحنهم به، والذي يحمل بُعداً أحادياً يستفيد منه في دفعهم نحو القتال..

وينقل أمين الريحاني كيف كان السيف يسبق المطوع في التحضير،بهذا النص:

(أجل.. قد حارب البدو وغلبهم كما فعل أجداده، وأدخلهم في دين التوحيد كما فعل أسلافه، ولكنه لم يقف عند هذا الحد،قال.. امسكوا الخونة، فالوا.. فلامنجى، وها هنا نجوة التجلي،فقد تجلت لعبد العزيز الحقيقة التي خفيت على سواه،وهذه الحقيقة أن البدولا يثبتون ولا يطيعون ولا يخلصون،البدو هم بدو،لأنهم لا يملكون شيئاً من الأرض، ولا يسكنون بيوتاً ثابته. إذن، سنعطيهم أرضاً ونساعدهم في بناء البيوت.. سننقلهم من البادية إلى المدينة.. سنقيدهم بالأرض، ونكبلهم بسلاسل التملك فتنفعهم،وإذا أذنبوا نستطيع تأديبهم)..

ويضيف:

(وقد استخدم في التحضير القوة المدنية،فكان السيف يتقدم المطوع في بعض الاحايين.. أويتبعه،كما تقضي الأحوال)(52)..

ويذكر فيلبي أن مشروع الهجر الذي قلَّدَ عبد العزيز هجرة الأرطاوية فيه،قد بدأ بارسال دعاة ومطوعين ليطوفوا في القبائل يدعون للهجرة،فانتشرت الفكرة في طول البلاد وعرضها،وابن سعود الذي بدأ حركة البعث للحركة بواسطة دعاته، وفَّر لهذه الهجر المعلمين الدينيين والسلاح والذخيرة للدفاع عما أسماه العقيدة،التي لم تكن تعني سوي الحكم.. وكان البرنامج الاصلاحي لهذه الهجر،نسخة مطابقة لما كانت عليه الأرطاوية،فأهم الأمور المطروحة،التخلي عن العادات الجاهلية والقبلية،التي حتى هذا الوقت لم يكن ابن سعود قد تخلّى عنها،وسيرجع إليها حين يحاربه الاخوان وبشكل صريح.. كذلك التآخي بين كل الذين يقبلون النظام الجديد بصرف النظر عن قبائلهم وأصولهم الاجتماعية، وحرَّم على المتآخين «الاخوان» الغارات القبلية وأعمال النهب وشرب الدخان.

وفي حقيقة الأمر،كانت هذه المعتقدات لا تخالف.. بل وتتطابق مع ما يعتقده العلماء.. والفارق هو أن هجرة الأرطاوية الأولى التي تأسست بعيداً عن توجهات ابن سعود، كانت قد سبقت هؤلاء العلماء في التطبيق، والعلماء بدورهم رحبوا وروَّجوا لهذه الأفكار، لأنها أولا.. من صميم معتقداتهم، وثانياً.. لأن ذلك يعطيهم دوراً في خدمة المجتمع وتوجيهه، الأمر الذي كان مفقوداً حين كانوا منزوين في المدن..

أما عبد العزيز فإنه خضع لمعتقدات الإخوان ظاهرياً، وإن كانوا قد أنكروا عليه بعض الممارسات بين الحين والآخر، وكان خضوعه لها يرجع إلى أن هذه الأفكار لم تكن في غالبيتها تحد من سلطاته السياسية، وسنرى أنه لم يخضع لما يعتقده الاخوان والعلماء بشأن التعامل مع النصارى مثلاً.. ثم إن هذه الأفكار كانت الأساس في بنيان الهجر، فكيف لا يرضخ لها وهو الذي يدعو الآخرين لذلك؟

بيد أن المشكلة الحقيقية التي واجهت الإخوان، هي تحولهم من حركة تصحيحية يكون الانتماء فيها اختيارياً للفرد الراغب، إلى حركة يَجْبَر فيها الحاكم كل من هب ودب، سواء من اقتنع بها أو من لم يؤمن..

وفي خضم هذا الاجبار القسري للقبائل على الانتماء لأفكار الاخوان وضرورة ارتباطهم بالأرض، واجهت الحركة أعداداً من البشر من ذوي الأفكار المختلفة والأهداف المتنافرة، يصعب تذويبها، فأصبحت هجرة الأرطاوية في بحر أجاج، إلا أن الذي خفف الأمر هو وجود العلماء على رأس الهجر، والذين استطاعوا تذويب القسم الأكبر من هذه القبائل عن طريق التعليم، وإن كانت ترسبات الماضي القبلية لا زالت عالقة..

والأمر الثاني، هو أن أفكار محمد بن عبد الوهاب، لم تندثر تماماً في نجد بشكل عام، وكان هذا الأمر مساعداً لأن تُقبل هذه القبائل على هذه التعليمات عن عقيدة راسخة بسرعة،خصوصاً وأنها لم تكن صعبة على الفهم، وأنها كانت قشرية..

ووجد عبد العزيز في هذه الأوضاع فرصته لكي يبث الأفكار التي تناسبه،كما استطاع فيما بعد أن يفصل هذه القبائل عن بعضها البعض،وبالمنطق القبلي.. وسياسة فرق تسد حين يظهر الاخوان كمعارضة له، وحينها سينقسم الاخوان إلى قسمين، قسم مع عبد العزيز والذي تربي معظمهم على يد العلماء، وقسم آخر ضده وهم الذين احتواهم في باديء الأمر..

من ناحية العلماء الذين دعاهم ابن سعود لتثقيف الهجر الاخوانية،فان عبد العزيز كان ينتقي الموالين له منهم في مثل هذه المهمات،ليرسموا الهالات في أذهان الاخوان.. «هؤلاء العلماء المتجولون ينتقيهم ابن سعود من الموالين له».. «ومن التعاليم التي يرسخها هؤلاء العلماء في أذهان القبائل، أن الاخوان فقط هم المسلمون الحقيقيون،وأن بقية المسلمين كفرة وهراطقة».. وكان العلماء يغرسون أفكاراً مدهشة في عقول الناس عن «الامام الذي سيصبح في المستقبل أباً للشعب وقائداً روحياً وشيخا في وقت واحد»(53)..

وحين يتحدث الريحاني عن أفكار الاخوان، يشير إلى تكفيرهم لغيرهم من المسلمين،دون أن يتحدث عن دور ابن سعود في ذلك:

(وهم في غلوهم يعتقدون أن من كان خارجاً عن مذهبهم ليس بمسلم، فيشيرون إلى ذلك في سلامهم بعضهم إلى بعض ـ سلام عليكم يالاخوان،حيا الله المسلمين ـ)..

ونحن في الوقت الذي لا يخالجنا فيه الشك من أن ابن سعود استغلَّ الاعتقاد الخاطيء بتكفير الآخرين، وأكده في الاخوان كمبرر لشن الحرب على المناطق الأخرى والاستيلاء عليها، ولا يمكننا بأي حال أن ننسب اعتقاد التكفير هذا لعبد العزيز وأنه من صنعه، ذلك أن العقيدة الوهابية تتبنى هذا الاعتقاد الذي خفت حدته في السنوات الأخيرة، فأصبح الإتهام يصل إلى حد الفسق والشرك بالله سبحانة وتعالى!.. وعبد العزيز الذي لم يتوانَ في اتهام الآخرين بالكفر وأنه المسلم وحده، دفع بالاخوان أكثر وأكثر لتبني هذا الشعار، لتأخذ احتلالاته طابع الجهاد الديني، ولذا لم يعلم الاخوان من الدين سوى البدائيات التي تفيده في إبقاء حماسهم للقتال، والمليئة في آن واحد بالخلط وسوء الفهم.. ولا نجد تعبيراً أفضل مما قاله محمد أسد، والذي ذكرناه في الصفحات السابقة من أن حماسة الاخوان الدينية) كثيراً ما قاربت الغلو، ولكنهم لو أتيح لهم إرشاد وتعليم صحيحان، فان ورعهم الديني العميق كان خليقاً به أن يمكنهم من توسيع أفقهم، وأن يصبحوا مع الزمن، النواة لإنبعاث جزيرة العرب كلها انبعاثاً صحيحاً، اجتماعيا وروحياً إلا أن ابن سعود لسوء الحظ، قد أخفق في إدراك الأهمية الكبرى لمثل هذا التطور، وبقي قانعاً بتعريف الإخوان إلى أبسط مباديء الثقافة الدينية والدنيوية، والحق أنه لم يعرفهم إلى شيء من هذا إلا بالمقدار الذي بدا ضرورياً للحفاظ على حماستهم وغيرتهم. بكلمة أخرى، لم ير ابن سعود في حركة الاخوان إلا وسيلة لبلوغهِ القوة واستتباب الحكم)..

ومن الثابت، ليس فقط أن عبد العزيز لم يؤمن بقتال الذين يسميهم بالكفار والمشركين إلا من أجل السيادة والحكم، بل يتعداه إلى عدم إيمانه بمعتقد الإخوان بعدم التعامل مع الأجانب، أضف إلى ذلك أنه لم يؤمن بفكرة تقصير الثوب والشارب وغيرها، والتي يعتبرها الاخوان من أعمدة أفكارهم التي يتميزون بها عن غيرهم، ويحاربون الآخرين بسببها.

(قيل أنه ـ أي الملك ـ زار مرة محل فيصل الدويش في الأرطاوية فحياه مضيفوه بقولهم أن ثوبه كان أطول مما ينبغي، وجاءوا بمقص فأزالوا منه مازاد عن الحد المعتاد، والملك لا يزال مرتدياً للثوب )(54)..

و«كشك» يعلق على هذه الحادثة، بأن ابن سعود (لم يكن يمارس التدين بأسلوب متشنج، أو الاهتمام بالشكليات والمظهرية، ولكنه أيضاً لم يكن ليثير معركة حول هذه الشكليات ـ ما لم تهدد سلطانه بالطبع ـ.. وعندما احتج فيصل الدويش على طول ثوب الامام، أعطاه المقص (55) وتركه يقص ما يتجاوز حد الدين.. ولكن لما هدد الدويش النظام قص رقبته )(56)..

فالخضوع للتعاليم كما هو واضح لأنهاء تهدد سلطانه، أما التعاليم الأخرى التي تتداخل في صميم الحكم، فانه يضرب بالحديد..

أما (حافظ وهبة) مستشار ابن سعود، فانه طيلة معاصرته للإخوان لم يكن ليجرؤ على مخالفة أفكارهم، بل رضخ كما المستشارين الآخرين بدون اقتناع، ولكن لما قضى على الاخوان، راح يسبهم ويفند أفكارهم التي كان يرضخ لها، ويعيبهم بها، بل ويذم العلماء الذين لقنوهم إياها.

(ولقد نال بعضهم ـ أي بعض الاخوان ـ الامام عبد العزيز، فرموه بموالاة الكفار والتساهل في الدين، وأنكروا عليه تطويل الثوب والشارب ولبس العقال، إلى غير ذلك من ضروب الجهالة، وأصبحوا يحرمون كل ما لا يتفق وهواهم، وإن سريان هذه الروح المتمردة يرجع إلى هؤلاء الجهلة، أنصاف المتعلمين الذين انتشروا في قرى الإخوان بإسم العلم، ولقنوهم هذه التعاليم وحببوا إليهم التعصب الذميم )(57)

وأمين الريحاني شكك في موقف ابن سعود من الاخوان والعلماء، وأنه يحمل أفكارهم ومعتقداتهم.

(تضاربت الآراء في كثير من الشؤون التي تتعلق به وببلاده، خصوصاً في موقفه الحقيقي تجاه الوهابية وأنصارها الأولين المعتصبين، العلماء والاخوان، فقد بددت بعض الظلمات على ما أظن، في تصويري الرجل للقارئ تصويراً صادقاً حقيقياً. وجئت الآن أشعل مصباحاً في زوايا السياسة المذهبية التي كان يخامرني منها بعض الريب.

سألت ذات يوم أحد رجال السلطان الأذكياء أن يصدقني الخبر أو يجهر لي برأيه الخاص، فقلت : لا أنكر ولا ينكر أحد صدق عقيدة الشيوخ(58) الدينية، فهو إمام الموحدين، ولكني حائر ياصديقي في أمره والاخوان، فهل تظنه يعتقد أن على الامام أن يحارب المشركين في كل مكان ؟.. أن يجاهدهم حتى يدينوا؟..

في نيتي أن أسأل عظمته هذا السؤال، فقال صديقي: لا تفعل، والذي أراه أن السلطان يعتقد ذلك من الواجب. لم يرضني جواب الرجل، فتطرقت ذات ليلة إلى الموضوع، ومما قلت للسلطان على ما أذكر، أني في حيرة لا يزيلها سواه، وإذا سافرت من الرياض أحملها ساكتاً لا أكون راضياً عن نفسي، وقد أسيء إليه فيما أكتب، فقال عظمته :إسألني كل ما تبغي وأنا أجيبك عليه. ولا أسامحك إذا سافرت من عندنا وفي نفسك حاجة نقضيها أو مسألة غامضة، فقلت :هل ترون أن من الواجب الديني محاربة المشركين (59) حتى يدخلوا في دين التوحيد؟.

فأجاب على الفور :لا... لا... وضرب الأرض ضربتين بعصاه ثم قال :هذا الحسا، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفاً من أهل الشيعة، وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد، إلا أننا نسألهم ألا يكثروا من المظاهرات في احتفالاتهم.. كن مطمئن البال يا أستاذ، لسنا كما يرانا بعض الناس. فقلت اسمحوا لي بسؤال آخر وكان يجب أن يكون سؤالي الأول ـ: هل ترون من الواجب الديني.. وهل ترون من الواجب السياسي أن تحاربوا المشركين حتى يدينوا؟.. فأجابني قائلاً: السياسة غير الدين.. ولكننا اهل نجد لانبغي شيئاً لا يحلله الدين، فاذا حلل الدين ما نبغيه فالسياسة التي نتخذها لتحقيقه محللة، وإذا عجزت السياسة فالحرب، وكل شيء في الحرب يجوز)(60).

وفسر حافظ وهبه مستشار الملك كلمة «كل شيء في الحرب يجوز» بأن ابن سعود يأخذ بسياسة :«الغاية تبرر الواسطة»..

ما نستفيده هنا من كلام الريحاني نلخصه في النقاط التالية :

1ـ إن اعتقاد ابن سعود بأن من يخالف أهالي نجد فيما يعتقدون ـ كلا أو جزءاً ـ مشركون وتجب محاربتهم، مقيد بالسياسة، فاذا وافقت عقيدة أهلي نجد، وطبقها، وإن خالفتها فان هناك مبرراً وهو أن «السياسة غير الدين»وأن «الغاية تبرر الوسيلة».

2ـ وإذا كان قد حكم على أهالي الأحساء بالشرك،فما هو موقفه من أهالي حائل الذين لا تختلف ممارستهم عن نجد ؟.. ولماذا حاربهم باسم الكفر؟..

3ـ إن أهالي الأحساء حين جاءهم ابن سعود خالياً من أي عقيدة،عاهدوه على كتاب الله،وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يتيح لهم الحرية في ممارسة ما يعتقدون، وافق على ذلك، فلماذا انقلب على هذا الاتفاق بمجرد أن ظهر الاخوان وعلا مجدهم، ليسايرهم فيما يريدون بوجوب الضغط عليهم وتحديد حرياتهم الدينية؟

كل هذا يوصلنا إلى حقيقة،وهي أن ابن سعود لا يهمه الدين،ولا قتال من يسميهم المشركين إلا للسيطرة،ولهذا فهو يحارب الأدنين منه باسم الشرك والكفر،وأما الانجليز الذين يسيطرون على بقية مناطق الخليج الساحلية والعراق والأردن فهم المسلمون.. ويجوز التعامل معهم!

هذا هو حال عبد العزيز،وهذا هو موقفه الحقيقي من الاسلام ومن معتقدات الأخوان. أما رجاله المقربون وافراد أسرته ومستشاريه فهم على شاكلته،وطباعهم وأفكارهم تختلف عن العلماء والاخوان،بل إن ممارستهم الدينية لا تخلو من النفاق،فهم يظهرون الالتزام،وفي السر يخالفونه ويسبون ويشتمون.. لذا اصطدم الاخوان بهم ولقنوهم دروساً في الدين،واتهموا عبد العزيز بأنه لا يعترض على ممارسات جماعته..

يقول المانع:

(قبيل وصولي إلى الرياض أول مرة سنة 1926،جلد الاخوان علناً رئيس الديوان الملكي، وهو من هو في مكانته، لمجرد الشك في أنه لم يؤد الصلاة مع الجماعة)(61).. وطبعاً المؤلف هنا يبالغ في الأمر ويضع كلمة «مجرد الشك» للتضخيم.

ويقول عن نفسه كيف أنه لا يلتزم بفتوى علماء نجد ضد الدخان:

(كان من الصعب جداً على قادم جديد مثلي،غير معتاد على ذلك النوع من التقشف الصارم،أن يبقى بعيداً عن المشاكل. ولسوء حظّي كنت أدخن كثيراً قبل أن آتي إلى الجزيرة العربية، وكانت رؤية الإخوان لسيجارة في يد إنسان تعني جلده على الأقل،وكانت السجائر في جدة تباع في السوق السوداء،وبقليل من الحذر استطعت أن أنغمس في رذيلتي بطريقة سهلة،لكن الأمور كانت مختلفة تماماً في الرياض حيث كانت عيون الاخوان تترصد في كل مكان، وحيث كان لا يمكن الحصول على التبغ بأية حال وكان لا زال لدي قليل من سجائر تمكنت من الحصول عليها من سائق سيارة هندي(62)، فأخفيتها في إحدى العوارض الخشبية من سقوف القصر،وأخذت أدخن واحدة كلما شعرت بأن لا أحد حولي،وعلى الرغم من جهودي في إزالة الدخان.. فان الأنوف الحساسة للعلماء الذين كانوا يعملون في القصر قد اكتشفت الرائحة،ولم أتخلص من ذلك الاكتشاف إلا بصعوبة)(63)، وتفرد «المانع» بنقل خبر قتل أحد أعضاء الأسرة الحاكمة على يد الاخوان،لأنه خالف أوامر الشرع،وإذا كان هذا الخبر صحيحاً.. فان الجريمة التي إرتكبها هذا العضو، كانت كبيرة وثابتة للحد الذي لم يستطع فيه ابن سعود الدفاع عنه..

(فقد قتل أحد هؤلاء رجلاً من أسرته ـ أي من أسرة الملك ـ ذاتها لأنه لم يتمسك بتعاليمها الصارمة).. على حد قوله(64)..

ولما حاول مستشارو الملك أن يقنعوا العلماء والاخوان بصحة تصرفاتهم لأبن سعود ذاته يفعلها، قالوا لهم :لا تتخذوا هذا حجة، لأننا أنكرنا عليه أمثالها.. فقبل القضاء على حركة الاخوان بأربع سنوات.. أي في عام 1928 م، حدثت هذه الواقعة التي رواها حافظ وهبه كالآتي :

(في سنة 1346 هـ /1928م، كنت مع الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، كبير علماء نجد ورئيس القضاء الآن، في زيارة للتفتيش في المدينة المنورة، فنزلنا على ماء في وسط الطريق، وهناك التقينا بمستر فيلبي وكان آتياً من ينبع،فبعد التحية دعوته للأكل معنا، فعندما جلس معنا إلى المائدة سأل الشيخ :من هذا الرجل ؟... فقلت له هذا فيلبي.. فقال :أهو نصراني ؟قلت له نعم، فقال أعوذ بالله، أتقوم للنصراني وتصافحه وتهش في وجهه وتدعوه للأكل معنا ؟.. هذا كثير.. فلما سمع مستر فيلبي ذلك قام منعاً للمشاحنة ثم أخذ الشيخ يؤنبني على عملي.. )

ولما دافع عن عمله بأنه يطمع في إسلام الرجل، وأن الملك عبد العزيز يقوم لفيلبي ولغيره تأليفاً لهم كثيرا ً ما يدعوهم لمائدة، رد عليه الشيخ بالقول : (الملك قد يفعل الشيء لمصلحة يراها، وهو غير حجة في عمله وتصرفاته، وكثيراً ما أنكرنا عليه هذا وأمثاله )(65)..

ومن الواضح أن ابن سعود قبل القضاء على الاخوان لم يكن ليجاهر بالولاء للانجليز، وكان عليه أن يجد التبريرات لعمله في كل مناسبة، أما حين قضي عليهم... فقد راح يجاهر بأكثر من ذلك دون أن يرف له جفن..

ففي عام 1938 م وبعد القضاء على الاخوان بست سنوات، زار أحد المسئولين البريطانيين وزوجته البلاد، فتعشى معهما الملك وبالغ في ودهما..

(ولقد أتى الزائران أخيراً إلى المملكة في سنة 1938 م، وبعد عبور الجزيرة العربية زارا مسؤولين مختلفين في شركة الزيت العربية في الظهران (66) وكان قد قاما أولاً بزيارة الملك في جدة، وكانت مناسبة لاتنسى، إذ كانت «نبيلة أتلون»أول امرأة تحضر مأدبة عربية على مستوى الدولة، وكانت أيضا، أول مرة يتعشى فيها الملك وهابي علناً مع أمرأة(67)..

وكم هو الفارق في الأوضاع قبل مقتل الاخوان وبعده :

كتب هاملتون المقيم السياسي في الكويت، في ديسمبر 1918 ـ ربيع أول 1337هـ.. «كان الجميع ضد ذهابنا إلى الأرطاوية، التي كما قيل لنا تشكل مركزاً متقداً للطهر المحمدي، وحيث لا يرحب ـ ليس فقط بالأجانب ـ بل كل الغرباء يوضعون في الحجر لفترات متفاوتة، حتى تمتحن سلفيتهم». وأضاف جون حبيب أن حاكم الأرطاوية الحالي أخبره أن القادمين من الكويت بالذات كانوا يوضعون في هذا الحجر العقائدي قبل السماح لهم بدخول المدينة..((حتى فيلبي لم يسمح له بزيارة الأرطاوية فاكتفى بمشاهدتها بالتلسكوب قائلاً أنه لم يشأ المخاطر بجلده بالذهاب للأرطاوية، وقال عنها أنها كانت علامة فاصلة في التاريخ، فحتى في هذا الوقت المبكر ـ 1918م /1337 هـ ـ كانت مرهوبة في طول البلاد وعرضها..)) )(68).

 

اجمالي القراءات 23664