داخل صناديق خشبية مدون عليها اسم الضحية وبلدته وقريبه الذي يتسلمه.. وصلت فجر أمس جثث ٥ شباب مصريين من بين ٢٨ لقوا مصرعهم في حادث غرق مركبين في هجرة غير شرعية قرب السواحل الإيطالية.
عند البوابة ٣٥ بقرية البضائع في مطار القاهرة، ظهرت علامات الحسرة والألم والحزن علي وجوه أقارب الضحايا وأسرهم.. لم تتوقف لعناتهم وشتائمهم علي المتهمين وظلوا يرددون كلمات «حسبي الله ونعم الوكيل» طول الوقت.
في الثانية والنصف صباحا وصلت طائرة مصر للطيران وعلي متنها جثث الضحايا داخل قرية البضائع، بينما وقف أهالي الضحايا وجيرانهم علي بعد ٥٠ مترا من باب القرية، وخلف كردون أمني فرضته أجهزة الأمن بالمطار وسمحت لاثنين من أقارب كل ضحية بالدخول بعد وصول الجثامين ليتعرفا عليها ويدليا بأقوالهما أيضا لبعض الضباط الذين حضروا لمقابلة أولياء الأمور، ومعرفة أسباب سفر أبنائهم وأسماء المتهمين وكيفية جمع الأموال التي دفعوها للمتهمين.
إجراءات التعرف علي الجثث وخروجها انتهت عند الرابعة فجرا، وخرجت سيارات الإسعاف تحت الطلب تباعا، ٣ من الجثث كانت لشباب من قري الشرقية هم: حازم سعد حمدي عز «٢٢ سنة» وفتحي صباح عياد «٢١ سنة» ومحمد سمير محمد، وإضافة إلي محمد فراج محمود من بني سويف والسعيد الشحات حسن من بهتيم بالدقهلية.. انطلقت كل سيارة وبداخلها صندوق بينما تبعها أقارب الضحية بسيارات أجرة وملاكي، جفت دموع أقارب الضحايا وأسرهم تماما ولم تسقط دمعة واحدة فجر أمس بعد أن عاشوا لحظات عصيبة طوال ١٠ أيام ماضية ما بين أخبار الغرق والموت والنجاة وضياع الحلم وعودة الجثث وشحنها وميعاد وصولها.. الأحزان فقط استمرت في منازل أسر الضحايا، حيث تجلس الأمهات والشقيقات بملابسهن السوداء وقد تحول المنزل إلي ساحة لاستقبال الجيران والأقارب. فتحي صبحي عياد «٢١ سنة» أحد الضحايا قصته غريبة وبها فصول كثيرة امتلأت بالأحزان. الشاب تخرج في كلية الحقوق منذ شهور، عمل بالنجارة في قريته «ميت جابر» في بلبيس بالشرقية، كان يعيش بين أسرة كبيرة العدد فوالده «٦٨ سنة» تزوج ٦ مرات، وأنجب ١٥ بنتا و٨ أولاد.. فتحي هو الأصغر وله ٨ أشقاء أولاد وبنات.. رحلت والدته عن الحياة منذ ٣ سنوات، قال والده: «الحمد لله إنها ماتت قبل أن تري هذا اليوم.. والله كانت ماتت، هي بتحب الولد.. كان عامل زي الفرنساويين، وطويل وعريض».. يتوقف صوت الأب قبل أن يردد لأقاربه: «عيني اليمين أنا مش شايف بيها، أنا أتجوزت بدري، كان عمري ١٩ سنة، أبويا خاف أموت في الحرب من غير «خلفه».. وتزوجت مرة واثنتين وحاربت في ٦٧ في اليمن ودفنت ٢٠٠ واحد من زمايلي.. ندفنه إزاي يا دوب شوية رمل نغطيه ونضع سلاحه علي صدره.. يعني كنا هنعمل بالسلاح إيه ونشيله إزاي، الواد ده كان نفسي يخلف «عيل» أفرح بيه، لكن نصيبه كده. يتحدث أقاربه عن فتحي: «الواد خلص الكلية وفتح مشروع، لكن حلم السفر كان مسيطر عليه».. من ٣ شهور بالضبط، حصل علي تأشيرة لدخول دول الاتحاد الأوروبي وفعلا سافر فرنسا، وكان معه صديقه، ووصلا إلي باريس واشتبهت السلطات الفرنسية في «الصديق» لكن فتحي رفض أن يتركه وعادا معا إلي مصر، بعد أن خسر فتحي ٦٥ ألف جنيه، دفعها والده وجمعها من بيع قطعة أرض ليحقق حلمه.. وقبل شهر جمع الشاب ٢٥ ألف جنيه من أصدقائه وأقاربه، دفعها لـ«سمسار» الموت، سافر دون أن يشاهد والده أو يودعه، كان يأمل في أن يعيد له الـ«٦٥ ألف جنيه».. لكن الأب يرد عليهم: ملايين إيه اللي تساوي حياة فتحي، أنا نفسي أشوف المتهمين، أضربهم بالنار، وهذا لا يكفي.
حازم سعد عز «٢٧ سنة» من عزبة أبوالعز تركه طفلا «٥ سنوات» وشقيقه ٣ سنوات، وعانت والدتهما وأخوالهما في رعايتهما طوال هذه السنوات، قرر أن يخوض رحلة السفر إلي أوروبا ويعود ليعوض أسرته عن السنوات القاسية.. جمع ٣٠ ألف جنيه من جيرانه وأصدقائه وقدمها لأحد السماسرة الذي يجوبون القري والمراكز في الشرقية يوهمون الشباب بالثراء السريع.. حازم نزل من منزله وحمل ملابسه وحقيبته قبل ١٧ يوما، ومساء الخميس الماضي دق جرس التليفون في منزل أسرته، كان علي الجانب الآخر أحد الناجين من حادث الغرق: البقاء لله ابنكم مات.. غرق قبل وصوله إلي إيطاليا، وأغلق الخط قبل أن تبدأ رحلة الاتصالات بأقاربه في إيطاليا والسفارة، انطلقت الصرخات في المنزل ولم تتوقف طوال الأيام الماضية.. وجلست والدته الحزينة علي باب المنزل تنتظر عودة ابنها، عودته في صندوق داخل كفن.. لا يتحدث أو يتحرك أو يقول لها ماذا حدث، لكن ينتظر دعواتها.
محمد أحمد فراج «٢٦ سنة» ترك أسرته في بني سويف بعد حصوله علي بكالوريوس التربية، جمع ٣٤ ألف جنيه ودفعها لسمسار.. محمد قرر أن يلحق بشقيقيه مصطفي وأحمد اللذين سافرا إلي إيطاليا قبل ٥ سنوات.. الشاب ترك والديه وعلي بعد كيلو مترات من الوصول إلي شقيقيه وحلمه رحل عن الحياة في بلاد غريبة غريقا.
شقيقه مصطفي انتظر جثته هناك علي شواطئ إيطاليا، وتعرف علي جثته وتسلمها وعاد معه، كان يحتضن الصندوق الخشبي ودموعه لا تفارقه، بينما وقف أحد أقاربه وجيرانه في المطار في حيرة، ما بين استقبال شاب سافر منذ سنوات وافتقدوه كثيرا وبين شاب سافر إلي إيطاليا وعاد داخل صندوق خشبي.
بنفس الطريقة وأدوات جمع الأموال والرغبة في تحقيق الذات، سافر الضحيتان محمد سمير محمد من الشرقية والسعيد عبدالعزيز الشحات من القليوبية.. سافرا وأحلام التخلص من الفقر لا تغيب عن رأسيهما، توجها إلي الإسكندرية مع آخرين، شحنوا الجميع في مراكب صيد صغيرة وعلي بعد كيلو مترات من المياه الإقليمية كانت ينتظرهم مركب صيد أكبر لا يصلح للسفر ولا يقوي علي الإبحار.. ظلوا جميعا دون طعام وشراب ٨ أيام متتالية قبل أن يصطدم المركب بصخرة كبيرة، تحطمت عليها كل الأحلام.