لفظ (الجاهلية) مصطلح قرآني،
الأمة الإسلامية و جاهلية القرن 21

محمد صادق في الأربعاء ٢٤ - أغسطس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

الأمة الإسلامية و جاهلية القرن 21

أيها الأخوة الكرام، بعد نشر مقالتى الأخيرة بعنوان " عصر الجاهلية المعاصر " وصلنى على عنوانى الإلكترونى بعض الردود والمداخلات من بعض الأصدقاء التى يعرفوننى شخصيا بدلا من كتابة تعليق على المقالة فى موقعنا الكريم.

كان ملخص هذه الردود أنه لا يصح أن أذكر ان المسلمين اليوم فى عصر الجاهلية. فكان الرد على هذا السؤال، هذه المقالة وأرجو بعد قرائة المقالة أن كل من إعترض أن يحكم بنفسه إن كانت الأمة الإسلامية اليوم تعيش فى عصر الجاهلية أم لأ.

كثير من الناس يستنفرون أن أصف الأوضاع السائدة في معظم أرجاء الأمة الإسلاميةاليوم بأنها (جاهلية)، ويحسبون ذلك وصفا خاطئا لا يليق ، لا يتناسب مع واقع الحال. والسبب في ذلك أنهم يفهمون من الجاهلية صورة معينة، يرونها غير منطبقة على الواقع اليوم، فينبغي أولاً أن نفهم حقيقة الجاهلية، لنرى مدى انطباقها على هذا الواقع أو بُعدها عنه.

لفظ (الجاهلية) مصطلح قرآني، وهذه الصيغة بالذات لم ترد في استعمال العرب قبل نزول القرآن الكريم، فقد استخدموا الفعل "جَهِلَ"، وتصريفاته المختلفة، واستخدموا المصدر "الجهل" و"الجهالة"، ولكنهم لم يستخدموا لفظ(جاهلية)، ولا هم وصفوا أنفسهم ولا غيرهم بأنهم "جاهليون". إنما جاء وصفهم بهذه الصفة في القرآن الكريم.

و"الجاهلية"كسائر المصطلحات القرآنية،لها معناها المحدد، الذي يدخل بطبيعة الحال في إطار المعنى اللغوي

العام، ولكنه يتخذ دلالته المحددة من استخدام القرآن له.

معنى الجاهلية:

جهل ضد علم، والجهل ضد العلم. فالجاهلية فى اللغة:هي عدم العلم، أو عدم إتباع العلم. فإنّ من لم يعلم الحق فهو جاهل وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل. هذا من ناحية اللغة أما المعنى كمصطلح قرآنى، يرد في معنيين:

- إما الجهل بحقيقـة الألوهية وخصائصها،

- وإما السلوك غير المنضبط بالضوابط الربانية، أي بمعنى عدم إتباع ما أنزل الله.

فحين يقول عز من قائل:

" وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ " 7:138  فالجهل المقصود هنا هو عدم العلم بحقيقة الألوهية.

وحين يقول سبحانه على لسان يوسف عليه السلام:

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ " 12:33

 فالمعنـى مُتعلق بسـلوك غير منضبـط بأخلاقيات القرآن، ومخالفة أمر الله، والوقوع فيما حرم الله .

وحين يقول سبحانه وتعالى:

" أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " 5:50. فالأمر متعلق مباشرة بإتباع غير ما أنزل الله.

الجاهلية هى  عدم معرفة الله والاهتداء بهديه، وعدم الحكم بما أنزل الله في كتابه ، وليست ما يسمى العلم والحضارة المادية ووفرة الإنتاج.ولم يقل القرآن الكريم إن العرب كانوا في جاهلية لأنهم لا يعرفون الفلك والطبيعة والكيمياء والطب، ولا لأنهم لا يعرفون النظم السياسية، ولا لأنّهم متأخرون في ميدان الإنتاج المادي والعلمي، ولا لأنهم خلوا من بعض الفضائل والقيم. إنما قال لهم: إنهم جاهليون لأنهم يحكِّمون أهواءهم، ويرفضون حكم الله. ولقد أعطاهم الله تعالى البديل عن الجاهلية ألا وهو الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.  

من خلال ما سبق يتبين لنا أن المعنى "الاصطلاحي" للجاهلية، الذي جاء في كتاب الله الكريم، هو: الجهل بحقيقة الألوهية، أي الجهل بما يجب لله سبحانه وتعالى من إخلاص العبادة له وحده دون شريك. بالإضافة إلى السلوك غير الملتزم بما أنزل الله. وهي بهذا المعنى ليست محددة بزمن معين، ولا مكان معين ولا قوم معينين. حيثما وجدت فهي الجاهلية بصرف النظر عن الزمان والمكان والقوم.

سمات وملامح الجاهلية فى المجتمع

من خصائص المجتمع الجاهلي عدم الإيمان بالله عز وجل إلهاً مستحقاً لكمال العبادة والخضوع ، أي عدم إفراده تعالى بالألوهية، وعدم إفراده بالحاكمية والتشريع، إنما يشرك معه آلهة أخرى سواء كان ذلك في العبادة أم في التشريع. فمنها مـن يعبد الأوثان والأصنام، ويزعم أن الملائكة بنات الله، ومنها من يقول بتعدد الآلهة، ويجعل لله تعالى ولداً، ومنها من يعبد النّار أو الأبقار، أو النجوم والكواكب، ومنها من يألَه الطبيعية أو الإنسان، أو المادة.. فأهل الجاهلية يظنون بالله غير الحق كما قال تعالى عنهم:

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِنْكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ "3:154

ويلزم من عدم معرفة الله وعدم الإيمان به تعالى وحده لا شريك له، جاهلية في الحكم، أي عدم تحكيم شرع الله تعالى في واقع الحياة، بل تحكيم ما يشرعه البشر أنفسهم وفق طواغيتهم،وأهوائهم وشهواتهم، قال تعالى:

أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " 5:50

وقال: "....... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" 5:44

ويترتب على ذلك أمران اثنان:-

أولا:وجود الطواغيت الذين يهمّهم صرف الناس عن عبادة الله وحده لا شريك لـه وعدم تحكيم شـريعته:- إنّ الجاهليين يريدون من النـاس أن يتجهوا إلى عبادة أولئك الطواغيت والحكم بشـريعتهم. يقول الله عز وجل:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا " 4:60

وأيضا، التمرّد على حقّ الله في التشريع، المترتب على كونه هو الخالق سبحانه، الذي خلق البشر، وخلق لهم طعامهم وشرابهم وكساءهم والهواء الذي يتنفسونه، وسخّر لهم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه.. وهم لا يملكون شيئاً من ذلك كلّه بغير تمليك الله لهم إياه. يقول سبحانه:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " 7:54

وصورة الطاغوت تختلف من عصر إلى عصر، ومن أمة إلى أمة، والطاغوت قد يكون فرداً، أو طائفة، أو جماعة، أو عرفاً، أو حزباً، أو أي قوة تستعبد الناس لها فلا يملكون الخروج عن أوامرها، والطاغوت دائماً يحرص أن يكون الولاء لشخصه ولحزبه ومصالحه.

 ثانيا:إتباع الأهواء وطاعتها من دون الله عز وجل، يقول الله تعالى:

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ..... " 5:49

والتمرّد على حكمة الله الحكيم الخبير، الذي خلق الإنسان ويعلم دخائله، ويعلم ما يُصلحه وما يَصلح له، ويُحيط بالزمن كله ماضيه وحاضره ومستقبله، ويعلم ما يمكن أن يُؤَدي إليه كل تشريع من التشريعات، لا في الحاضر وحده، ولكن في الزمن المقبل كله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والأهواء تختلف من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة، ومن أمة إلى أمة ولكنها دائماً "هوى" فريق من الناس يحكمون به سائر الناس، ومصلحة معينة لفرد أو جماعة أو حزب يسخّر من أجلها بقية الناس على حسب هواه.

المجتمع الجاهلي يكون فيه سلوك الأفراد والجماعات بعيداً عن المنهج الإسلامي بل يكون السلوك فيه وفق الأهواء والشهوات، خروجاً عمَّا فطر الله عليه الناس، فمثلاً قال الله تعالى مخاطباً النساء:

وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ..... " (33:33) ، فالخطاب ذم للسلوك الجاهلي المشين المتمثل في تبرج المرأة، وإبداء زينتها لغير محارمها.

إنّ الانجراف في تيار الشهوات أسبابها كامنة في فطرة الإنسان، وهي أمر محبّب له، قال تعالى:

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" 3:14

إن المتاع محبب للإنسان، والعبارة القرآنية الحكيمة تُؤكد هذه الحقيقة: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ). فليس المزين للناس - في الآية القرآنية - هو الشهوات. إنما هو " حبُّ الشهوات ". وهو تعبير دقيق عن مدى توغل الشهوات في النفس الإنسانية. فإن تَزْيين " حبّ الشهوات " آكد في بيان عمق الشهوات في النفس من تزيين الشهوات ذاتها، وأدلّ على أن النفس مفطورة على حبّ المتاع , ولحكمة ربانية أراد الله ذلك. ولكنه سبحانه وتعالى أمر الناس أن يضبطوا منطلق الشهوات، وأعطاهم الأداة المعينة على الضبط، والتوجيهات التي تجعله ميسراً على أصحابه، وفي مقدمة ذلك الإيمان بالله واليوم الآخر والتوجه إلى القيم العُليا، والجهاد في سبيلها.

وإنّ قدْراً من هذه الشهوات ضروري لقيام الإنسان بمهمة الخلافة التي تولاها في الأرض ولكن عندما تزيد هذه الشهوات عن قدرها المعقول، وتصبح مسيطرة على كيان الإنسان مدمرة لكيانه ومبددة لطاقاته، وصارفة له عن مهمة الخلافة فإنها تهبط به عن مستوى الإنسان الكريم بتكريم الله له إلى مستوى الأنعام.

إنّ الذي يحدّ من اندفاعها وسيطرتها على كيان الإنسان، هي العقيدة في الله والحياة في ظل نظام يقوم على شريعة وأحكام الله، ولكن الجاهلية التي لا تؤمن بالله ولا تحتكم إلى شريعته فإن الإنسان في ظلها يجرفه تيار الشهوات. وتجار الشهوات يريدون من الناس أن يبتعدوا عن منهج الله ، قال تعالى:

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا " 4:27

إنّ أغلب أنظمة وقادة هذه المجتمعات التي تدعي الإسلام اليوم تحارب الله تعالى في أخص خصائص الألوهية، تحارب الله في حاكميته والله يقول:

".... إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " 12:40

إن زعماء هذه المجتمعات تتلقى التشريعات والأنظمة والقوانين من عند غير الله تعالى، وتجعل بعض البشر أرباباً من دون الله تعطيهم سلطة التشريع وإصدار القوانين، ويحارب هؤلاء السياسيون كل من يدعو إلى تحكيم شريعة الله في المجتمع، ويقوم الإعلام بوسائله المختلفة بالصدّ عن حاكمية الله ونشر الافتراءات والشكوك حول منهج الله وشريعته. لقد سادت القيم المادية وعمت المفاسد الاجتماعية، صار الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، وأصبحت الوطنية رابطة التجمع والاجتماع عند كثير من الناس، وأصبح الولاء للحاكم ولحزبه هو البديل عن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.

لقد عادت الجاهلية من جديد، وعاش المسلمون في بلدانهم أغراباً، كثرت صور الانحراف عن عقيدة التوحيد، كما تعددت صور الانحراف عن الشريعة الإسلامية، وضاعت كرامة المسلمين بين الأمم، فما عاد لهم وزن ولا شأن، أصبحوا يعانون من الضنك السياسي والاقتصادي والفكري ويقول الله سبحانه منذرا:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ" 20:124

أليس هذا هو حال المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها....... ؟

والحقيقة أن أحوال الجاهلية المعاصرة وأوضاعها كلّها مذكورة في السنن الربانية الواردة في كتاب الله. بل يعجب الإنسان حين يتلو الآيات كيف انطبقت بحذافيرها على أوضاع الجاهلية المعاصرة كأنما أنزلت بشأنها، مع أنها نزلت قبل أربعة عشر قرناً.. ذلك أن الجاهليات كلّها متشابهة في جوهرها، وإن اختلفت في تفصيلاتها، وكان لكلٍّ منها خصائصها التي تشكّلها ظروف الزمان والمكان، والسنن الربانية متعلقة بالجوهر وليست متعلقة بالأشكال.

ولكي نفهم أوضاع الجاهلية المعاصرة على ضوء السنن الربانية علينا أن نتدبر مجموع السنن الواردة في الآيات التالية، ذلك أن السنن الربانية لا تعمل في الغالب فرادى، إنما تعمل مجتمعة، وخاصّة في حياة المجتمعات والشّعوب:

"وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ"  2:36.

" كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً"  17:20.

" مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ"  11:15.

" وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ" 22:48.

" وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ"  13:31.

إذا تدبرنا هذه الآيات وهذه السنن تتبين لنا مجموعة من الحقائق حول الجاهلية المعاصرة:

فقدر الله للإنسان أن ينال في الأرض مستقرًّا ومتاعاً إلى حين، هو قدر عام شامل للإنسان كلّه، مؤمنه وكافره، غير متعلّق بالكفر ولا بالإيمان، وإنما متعلّقٌ بنوع الإنسان.

يُؤيد هذا قوله تعالى عن الفريقين اللذين قدّر الله أن ينقسم إليهما البشر نتيجة الحريّة التي وهبها الله للإنسان، وعدم قهره على الهدى كبقية الكائنات: (كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً"  17:20. فعطاء الله - من حيث المبدأ - مبذول للفريقين: المؤمنين والكفار، غير محظور على واحد منهما. والعطاء شامل غير محدّد، فهو يشمل كل ما وهبه الله للإنسان من هواء يتنفسه، وماء يشربه، وطعام يأكله، وخَلْقٍ في أحسن تقويم، وأدوات معينة على مهمة الخلافة في الأرض، وتسخير لما في السموات والأرض لصالح الإنسان لكي تكون حياته على الأرض ممكنة ومستقرّة ومحتوية على قدر من المتاع.

والتمكين في الأرض لون من ألوان الاستقرار والمتاع الذي وهبه الله للإنسان عامة، وجزء من العطاء الذي تُقرّر الآية الكريمة أنه مبذول لهؤلاء وهؤلاء.. أي للمؤمنين والكفار. 

ولنقف برهة مع هذه الآية الكريمة...

 فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" 6:44 .

هذه الآية الكريمة تُقرّر حقيقة تبدو عجيبة لأول وهلة، لأنها تبدو في الظاهر متناقضة لما نتصوره نحن - دون تعمق - من أمر السنن الربانية التي يجريها الله في حياة البشر، إذ تقرر هذه الآية أن الكفّار حين نَسُوا ما ذُكِّرُوا به - أي نَسُوا ما نُزّل عليهم من الوحي على يد الأنبياء والرسل - فتح الله عليهم أبواب كلّ شيء، ومكّن لهم في الأرض.

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ...

نتصور لأول وهلة أن هذا مناقض لوعيد الله للكفار بالتدمير عليهم، ووعده - على العكس من ذلك - بمنح التمكين للمؤمنين الذين يعبدون الله حق عبادته ولا يُشركون به: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً" 24:55

ولكن هذا التناقض الظاهري - في تصورنا - يزول حين ندقق النّظر في الآيات، ونزداد تعرفاً على السنن الربانية. إن الله جلّ وعلا لم يحظر العطاء الدنيوي على الكفار ابتداء، بل بذله - كما رأينا - لكلا الفريقين الكافر والمؤمن سواء، ومن العطاء التمكين في الأرض كما سبق القول. وبيان ذلك أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فهو يُعطي منها الكافر، لهوانها عليه سبحانه وتعالى، أما الآخرة فيدخرها للمؤْمنين وحدهم.

لقد كان السبب في عجبنا هو نظرتنا إلى الدنيا، وإلى التمكين فيها، بعين الإكبار والإعظام، كأنها غاية الغايات التي خلق الإنسان لتحصيلها.. فإذا علمنا هوانها على الله، وانها لا تُساوي عنده جَنَاحَ بَعُوضَة، تطامن إكبارنا وإعظامنا لها، وزال عجبنا - أو جزء من عجبنا على الأقل - من كون الله يفتح أبوابها للكافرين المعاندين الخارجين على طاعة الله.

ثم يزول ما بقي من عجبنا حين نعلم أمرين آخرين يجري بهما قدر الله وسنته، ووعده ووعيده:

الأمر الأولأن من سننه الجارية سبحانه وتعالى أن يملي للكفار في الأرض قبل أن يدمر عليهم.

" وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ" 22:48 

" وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ" 13:32

وظاهر من هذه الآيات وأمثالها في القرآن أن الإملاء يجيء " بالفاء " والأخذ يأتي مع " ثم " أي أن الإملاء يأتي مباشرة بعد التكذيب، وأما الأخذ فيأتي على المدى، بما يشير إلى أن الإملاء قد يطول مع الكفر والتكذيب! 

فإذا فهمنا أن من معاني الإملاء للكفار التمكين لهم في الأرض إذ أن التكذيب يصدر عادة من الطغاة الممكنين في الأرض، وبسبب من ذلك التمكين. لم نعد نعجب أن يفتح الله أبواب كل شيء على الذين نسوا ما ذكروا به، فإن هذا هو عين الإملاء، الذي تحدثت به آيات كثيرة في كتاب الله.

والأمر الثانيأن هذا الإملاء للكفار الذي يشمل التمكين لهم في الأرض، وفتح أبواب كل شيء عليهم إلى حين - يطول أو يقصر - يصحبه ويلازمه حرمانهم من ثواب الآخرة، وصيرورتهم إلى النار:

" مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"  11:15

فإذا فُهمت هذه الحقائق كلها، وعُرفت سنن الله في هذا الشأن، لم يعد عجيباً أن يفتح الله أبواب كل شيء على الكفار كلما أوغلوا في الكفر، استدراجاً لهم لكي يزدادوا إثماً، وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة.

إذا خلصنا إلى هذه الحقيقة، وهي أن تمكين الجاهلية المعاصرة، وإيتاءها كل أسباب القوة، وفتح " أبواب كل شيء " عليها، إنما يتم حسب السنن الربانية لا مخالفاً لها، فيجب أن نعرف بعد ذلك أن هناك فرقاً - بل فروقاً - بين تمكين الرضا، الذي يعد الله به عباده المؤمنين، وتمكين الاستدراج الذي يعطيه للكافرين حين " يريدون " الدنيا، ويبذلون الجهد المكافئ لتلك الإرادة، فيوفيهم جزاءهم في الحياة الدنيا، ويفتح عليهم " أبواب كل شيء " مما يتعلق بذلك التمكين.

لا يحتاج الإنسان إلى جهد كبير ليُدرك أن الواقع المعاصر للمسلمين هو أسوأ ما مر بهم في تاريخهم كله.

ولا يحتاج إلى جهد كذلك ليدرك أن أوضاع المسلمين من السوء بحيث تجعلهم أسوأ كثيراً حتى من الجاهلية المحيطة بهم، بل تبدو الجاهلية المعاصرة قمة شامخة يعيش " المسلمون " إلى جوارها في الحضيض.

فإلى جانب التخلف المزري في كل جوانب الحياة السياسية والحربية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفكرية والخلقية، يوجد الضعف المزري لا أمام " القوى العالمية " وحدها، بل أمام أصغر القوى وأضألها في الدويلات الآسيوية والأفريقية، المتخلفة في ذاتها، الضعيفة في كيانها، ولكنها تستأسد على المسلمين، فتقيم لهم المذابح بين الحين والحين، وتجتاح أرضهم، وتخرب ديارهم، وتنتهك أعراضهم، وكأنهم حمىً مباح لكل معتد أثيم.

وإلى جانب هذا وذلك، الضياع الفكري والروحي الذي جعل الأمة الإسلامية - لأول مرة في تاريخها - تنظر إلى الجاهلية على أنها أفضل منها، وتنظر إلى الإسلام على أنه رجعية وتخلف ينبغي الانسلاخ منه واتباع الجاهلية!

فلقد أصبح المسلمون اليوم كماً مهملاً، ليس لهم وزن ولا اعتبار، ودماؤهم أرخص الدماء ، يتعرضون للذل والهوان والضياع، يستفتى غيرهم في رسم حاضرهم ومستقبلهم، بل ويصنع هذا الغير حاضرهم ومستقبلهم، وسبب ذلك تخلي المسلمين عن مصدر القوة والعزة والسيادة والكرامة، تخليهم عن الإسلام رسالة ومنهجاً ونظاماً للحياة، لقد ضاع الدين الحق منا، ضاع من واقعنا ومجتمعاتنا، ضاع من أخلاقنا وسلوكنا، ضاع من حركتنا مع الحياة وتعاملنا مع الآخرين.

وازدادت غفلة الناس عن التفقه في الدين والبعد عنه، وتعرض العالم الإسلامي إلى غزو استعماري استهدف الأوطان والعقول، فازداد المسلمون جهلاً على ما بهم من جهل، حيث شاعت الخرافات والأوهام، وانتشرت العادات والتقاليد الغربية الوافدة، وباختصار عادت الجاهلية من جديد.

ولقد خيل لبعض المستضعفين، المنهزمين أمام الحضارة الغربية، الذين استعبد الغزو الفكري قلوبهم وأرواحهم - وخاصة عبدة التفسير المادي للتاريخ منهم - أن ضعف المسلمين وتأخرهم كان نتيجة حتمية لتمسكهم بالإسلام!!

وأن الإسلام كان حركة تقدمية يوماً ما! أي بالنسبة لوقته! وأنه فعل ما فعل في النفوس بسبب أنه كان بالنسبة لوقته حركة تقدمية، فدفع الحياة كلها إلى الأمام. ولكن دوره انتهى كحركة تاريخية وموقف تقدمي، لأنه بقي مكانه فسبقه " التطور "، فأصبح من ثم حركة رجعية! ولم يعد صالحاً لمواكبة التطور الحديث، بل صار معوقاً ينبغي طرحه والبحث عن بديل منه، والبديل هو الحضارة الغربية!

ويُلحُّ المستشرقون وتلامذتهم على هذا المعنى في كتاباتهم التي يهدفون بها إلى تسميم قلوب المسلمين وأفكارهم ليتخلوا عن دينهم، كما يمثل الواقع السيئ الذي يعيشه المسلمون نقطة " تشويش " تُحرّف مسار الحق، فتجعل الناس يُصدقون هذه الأباطيل كأنها حقيقة، وينظرون إلى الحقائق كأنها أساطير!

إن الذي تخلف لم يكن هو الإسلام.. إنما هم " المسلمون "!

وقد تخلفوا لا لتمسكهم بالإسلام، ولكن لتخليهم عنه، وتفريطهم فيه.

أما الإسلام فما زال هو الدين الحق، وما زال هو الطريق الواصل، وما زال هو الطريق المستقيم.

تخلف المسلمون لبعدهم عن حقيقة الإسلام، وإن بقيت لهم بعض مظاهره. 

لقد بقي لهم أنهم ينطقون بأفواههم لا إله إلا الله محمد رسول الله. فهل يعون معناها أو يعرفون مقتضياتها؟

وبقي لهم أنهم يؤدون بعض العبادات، فهل أدركوا المقصود بها، أو رعوها حق رعايتها؟

وبقي لهم بعض " التقاليد " الإسلامية، فهل تصمد التقاليد الخاوية من الروح للمعركة الضارية التي توجه إلى الدين عامة والإسلام على وجه الخصوص؟

وبقي لهم تمنيات بأن ينصر الله دينه، ويعيد إليه أمجاده، فهل تكفي التمنيات لتغيير الواقع السيئ وإنشاء البديل؟!

نستطيع أن نقول ببساطة إن كل مفاهيم الإسلام قد فسدت في حس الأجيال المتأخرة من المسلمين.

تحولت لا إله إلا الله من منهج حياة كامل، إلى الكلمة التي تُنطق بالأفواه.

وتحولت العبادة - بعد أن انحصرت في الشعائر التعبدية وخرجت منها الأعمال والأخلاق - إلى أداء آلي تقليدي خاوٍ من الروح. 

وتحولت عقيدة القضاء والقدر من قوة دافعة إلى النشاط والحركة مع التوكل على الله، إلى قعود عن النشاط والحركة مع تواكل سلبي مريض.

وتحول التوازن الجميل بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، إلى إهمال للدنيا من أجل الخلاص في الآخرة، فأهملت عمارة الأرض، وطلب العلم، وطلب التمكين والقوة، وعمّ الجهل والفقر والمرض، ورضي الناس بذلك كله على أنه قدر رباني لا قبل لهم بتغييره، بل لا يجوز العمل على تغيير خوفاً من الوقوع في خطيئة التمرد على قدر الله!

أهذا هو الإسلام؟! أم هذه صورة مناقضة لحقيقة الإسلام؟

وهل يمكن أن يؤدي الشيء ونقيضه إلى نتيجة واحدة؟!

إذا كان الإسلام يؤدي في حياة الناس إلى التمكن والقوة والنظافة ونقاء الأخلاق، والتقدم العلمي والتقدم الحضاري، ومقاومة انحرافات البيئة والتغلب عليها.. فهل يمكن للصورة البديلة أن تؤدي إلى النتائج ذاتها؟

أم إنها لا بد أن تؤدي إلى الضعف والتخلف والخضوع لانحرافات البيئة والعجز عن تقويمها؟

وهذا الذي حدث بالفعل.. فجاء الأعداء من كل حَدَب وصَوْب يحتلون أرض الإسلام، يمزقونها تمزيقاً، ويُذلون أهلها، وينحون شريعة الله عن الحكم، وينشرون فيها الفساد، ويقتلون كل ما بقي من قيم في حياة المسلمين.. ثم جاء الغزو الفكري ليقول للناس: إن السبب في كل ما حل بهم هو تمسكهم بالإسلام!!

أي إسلام هذا الذي كانوا يتمسكون به؟!

حقيقة إنهم كانوا " متمسكين " بشيء ما! وإنهم كانوا يتوهمون أن ما هم متمسكون به هو " الإسلام "! ولكن متى كان الوهم يغني عن الحقيقة، أو يؤدي في عالم الواقع ما تؤديه الحقيقة؟!

مثل الوهم الذي كانوا متمسكين به والحقيقة كمثل ورقة النقد الزائفة يحسبها المخدوع بها ورقة حقيقية، حتى إذا ذهب بها إلى السوق لم يستطع أن يحصل بها على شيء مما يريد، وعاد بالخيبة والحسرة، إن لم يتعرض لألقاء القبض عليه وتوقيع العقوبة عليه!

ولقد كان المسلمون متمسكين بأوهام يحسبونها حقيقة.

أول هذه الأوهام أن الإيمان هو التصديق والإقرار، وأن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان!!

وبهذا الوهم حسبوا أنفسهم مؤمنين وهم لا يعملون بمقتضى الإيمان!

وتوهموا أنهم حين يؤدون الركعات المفروضة بأية صورة، ويصومون الأيام المفروضة على أية صورة، ويؤدون الزكاة المفروضة، ويحجون الحجة المفروضة - من استطاع إليها سبيلاً - فقد أدوا كل العبادة المفروضة.

ومن ثم خرجت أخلاقيات لا إله إلا الله من دائرة العبادة، وأصبح من المستساغ عند كثير منهم أن يؤدوا الركعات المفروضة في المسجد ثم يخرجوا ليكذبوا على الناس ويغشوهم ويخدعوهم، ويُخلفوا وعودهم معهم، ولا يُخلصوا في عملهم، ولا يتقنوا حرفتهم، ولا يأمروا بالمعروف ولا ينهوا عن المنكر، ولا يعملوا على وقاية أنفسهم وأهليهم من النار باجتناب ما حرم الله، ولا يعاشروا زوجاتهم بالمعروف، ولا يهتموا بأمر المسلمين، ولا يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.. وفي حسهم أنهم أدوا "العبادة"!      

إذاً الجاهلية مقابل معرفة الله والاهتداء بهديه، والحكم بما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله، وليست هي مقابل ما يسمى العلم والحضارة المادية ووفرة الإنتاج.ولم يقل القرآن الكريم قط إن العرب كانوا في جاهلية لأنهم لا يعرفون الفلك والطبيعة والكيمياء والطب، ولا لأنهم لا يعرفون النظم السياسية، ولا لأنّهم متأخرون في ميدان الإنتاج المادي والعلمي، ولا لأنهم خلوا من بعض الفضائل والقيم. إنما قال لهم: إنهم جاهليون لأنهم يحكِّمون أهواءهم، ويرفضون حكم الله. ولقد أعطاهم الله تعالى البديل عن الجاهلية ألا وهو الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.   

من خلال ما سبق يتبين لنا أن المعنى "الاصطلاحي" للجاهلية، الذي جاء في كتاب الله الكريم، هو: الجهل بحقيقة الألوهية، أي الجهل بما يجب لله سبحانه وتعالى من إخلاص العبادة له وحده دون شريك.بالإضافة إلى السلوك غير الملتزم بما أنزل الله. وهي بهذا المعنى ليست محددة بزمن معين، ولا مكان معين ولا قوم معينين. حيثما وجدت فهي الجاهلية بصرف النظر عن الزمان والمكان والقوم.

يقول الله سبحانه:

" ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " 8:53

اجمالي القراءات 19350