الغضبُ هو حالةُ الحُبِ الأكثر رقياً، ومصداقيةً، وعمقاً، وتأثيراً ، ومن لا يغضب من أجل وطنِه فلا حاجة لمشاعر الحب الخاصة والعائلية والمكانية والزمانية!
الصمتُ تجاه سيـّد القصر وهو يـُلوّح بسوطِه لرعيته هو أحط أنواع الاستضعاف، والمذلة، والمـَسـْكنة، فيصنع الصمتُ النائمين، والضعفاءَ، والكـُسالى، والمازوخيين، والسلبيين، والعاجزين، والغافلين فيتقوص الظهرُ، ويتضخم القفا، وتنحني القامة، وتدخل الكرامةُ في سـُبات عميق.
أما أدنى أنواع الصمت فهو الذي يفغر فيه المواطن فاه أمام حيتان الفساد وهي تنهب جيبـَه، وتنزع اللقمةَ من أفواه فلذاتِ كبدِه، وتـُقـَنـِّن الرشوة، وتجعل الوساطة والمحسوبية أموراً عادية كالأكل والشرب و .. قضاء الحاجة.
الجزائريون هم أنبياءُ التحرر العربي، وكل مستعمر للجزائر لديه حكايات لأولاده وأحفاده عن أسودٍ تنهش لحومَ من يقترب من أشبالها، وتـُضحـّي بخـُمس سكان الوطن من أجل أن يعيش الأربعة أخماس متدثرين برداء الحرية والاستقلال ، ومطهـّرين ظهر الأرض بشهداء باطنها!
تنفجر الثورةُ في تونس الخضراء فيهرب أخطر لصوصها بصحبة الساحرة الشريرة، فــ"بن علي" ظن أنه وحده من يملك حق اشعال النار في أجساد التونسيين، فلما اكتشف أن بوعزيزي لديه ناراً تشتعل في الجسد الطاهر الغاضب، عرف أنها ستمتد من ولاية سيدي بوزيد إلى قصر قرطاج، لكن غضب التونسيين لم يخترق الحدودَ مع الجزائر.
تشتعل ثورة الشباب في مصر، وتـُلهم كلَّ الشعوب التي يدوس فوق رؤوسِها مستبدون متخلفون، وينبهر العالمُ كله بأجمل ثورات العصر، ويرسل ميدان التحرير إشارات تتراقص في الأثير فيطرب لها الجزائريون الذين لم يصدّقوا في يوم من الأيام العجاف أن إعلام مصر مبارك كان يلعن بوقاحة أرواح شهداء التحرير الجزائريين بسبب كرة قدم وثلاث خشبات، لكن الجهاز العصبي للشعب الجزائري وضعه بوتفليقة في ثلاجة، فالتزم أحفاد بن باديس السكوتَ، وبعضُ الخرس إثم!
وانتظر العربُ أن تنفجر الأرض انتفاضات متفرقة في وهران وعنابة وقسنطينة ومسعد والطارق والذرعان والأخضرية وبومرداس وتيمقاد و ...
لكن كل شيء هاديء على سطح الجزائر، وسجون بوتفليقة والعسكر لا تزال تنافس بيوت الأشباح السودانية ومعتقلات العراق الطائفية، والصمت الجزائري خيانة لآلاف المفقودين الذين لا يعرف أحدٌّ إنْ كان العسكرُ، حُماةُ بوتفليقة، قد قاموا بتصفيتهم أم أنهم أحياءٌ في أقبية لا يعرفها إنس أو جان.
يـُقدم السوريون تفسيراً جديدا لروح التمرد لدى الفرسان، فيـُغـَرّد الأحرار في حب الوطن جماعات تضيء ليل درعا واللاذقية وحمص وحماة وإدلب والقامشلي، لكن مصاص الدماء يسلط عليهم خفافيشه وهي ترتدي الزي العسكري لجيش عربي فيسقط الأطفال والشباب والعجائز والنساء، فبشار الأسد أقنع جيش قلب العروبة النابض بأن الإسرائيليين الذين تهينه طائراتهم المقاتلة من فوق القصر الجمهوري ليسوا أعداء سوريا، إنما أعداء الوطن هم المطالـِبون بمساحة صغيرة منه يتنفسون فيها، تـُرىَ هل هناك صلة قرابة من بعيد بين بشار الأسد و .. إيللي كوهين؟
السوريون يـُقـَدّمون في كل يوم عشرين أو ثلاثين شهيداً، ويختفي منهم ضعفان أو ثلاثة أضعاف مع كل غروب لشمس الشام، ومع ذلك فالرسالة لم تصل إلى الجزائر بـًعـْدُ رغم أن المفقودين الجزائريين أكثر عدداً من المفقودين السوريين!
اليمنيون لا يملكون غير الأدب والشعر والصدور العارية التي تتحدى الطاغية وجبروته، داخل اليمن وفي غربته بالمشفى السعودي.
وتخرج نساء اليمن بعشرات الآلاف ليؤكدن أن رضاعة الأطفال الشـَجاعة في البيت، وحثهم على التضحية من أجل الوطن وهم شباب لا يعني أن الأم، وهي مَدْرَسةُ المدارس، سيشغلها المطبخُ في الداخل عن حماية الوطن في الخارج.
وسلـَّط المستبدُ المتخلفُ كلابـَه المسعورةَ، ولكل طاغية كتائب من الكلاب المفترسة المحسوبة ظلماً على الجنس البشري، فلم يكتفوا باطلاق الغازات السامة على الأطفال والشباب المطالبين برحيل الديكتاتور الأكثر كذباً وتدليساً وغدراً، لكنه أصر أن يحكمهم بالحديد والنار مُقْسِماً بالله، تعالى، أنه زاهد في السلطة، ولا يرغب في البقاء ساعة واحدة بغير رغبة شعبية عارمة، ثم يرفع اشارة النصر أمام ملايين من مناهضيه وكارهيه ومُعارضيه!
لكن الجزائريين يكتفون بمشاهدة الشاشة الصغيرة، وكأن تنويماً مغناطيسياً قد أصاب عيون أنبياء التحررالعربي.
لم يصدق كائن حيّ أن روح عمر المختار لم تغادر أرض ليبيا، وانتظر الليبيون أكثر من أربعين عاماً على مهرج الخيمة، واكتسب الطاغية البلياتشو طوال أربعة عقود خبرة في القسوة والغلظة والبدائية والتخلف ، وكانت يومياته مزيجاً من المأساة الكوميدية، والملهاة الكارثية، ولوأنَّ العقلَ جهلٌ لا نهائيٌّ لكانه.
واشترى الديكتاتور المهرجُ المفكرين والمثقفين والسياسيين والخبراءَ والبرلمانيين ورجال الدين ورئيس وزراء دولة عظمى، وركع أمام سفاراته في الخارج أصحاب القلم المهتريء، وأمراء النفاق في بلاط صاحبة الجلالة السلطة الرابعة.
وحضر مؤتمرات القمة، وتآمر على كل الزعماء العرب، تقريباً، لكنهم كانوا يستقبلونه بالعناق الحار رغم تلوث يديه بدماء شعبه.
كلنا كنا نعرف أن كونسلتو من مئات من علماء النفس كانوا غير قادرين على الدخول إلى متاهات تلك الشخصية البهلوانية الدموية، ومع ذلك فقد كان أكثرنا خائنين لشعبنا الليبي الصابر، فجعلنا صمتـَنا علىَ ظلمـِه إياهم مـِزاحاً، وحكايات للضحك والتهكم، فتأخر النضالُ سنوات طويلة، وخسر الليبيون من ثرواتهم، وحيواتهم، وتقدُّم بلدِهم عدة عقود حتى استلقينا على ظهورنا من الضحك على ملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين وعميد الحُكام العرب ورسول الصحراء وصاحب النظرية العالمية الثالثة وواضع أخضر الكتب المقدسة .. الصحراوية.
وانتفض الليبيون بقوة دفع لم يكونوا على علم أنهم اختزنوها مجمدة في صدورهم إلا بعدما تسلموا اشارات من تونس ومصر واليمن والأردن بأن الليبيين أيضا يملكون حق الغضب، وأن الصمت على الظلم أشد الكبائر التي تنفر الملائكة من أصحابها.
ونافست طلائعُ الثوار الجـِمالَ، سفن الصحراء، في قوة تحملها، وغرسوا أقدامهم في رمال يعلمون أنها قد تكون متحركة في نهاية المطاف ولمسافة تمتد لنصف شمال أفريقيا حتى الوصول لباب العزيزية حيث يتحصن القائد البلياتشو بين أيدي عذراوات وهبن شبابهن من أجل حمايته.
نصف عام اختصر اثنين وأربعين عاماً، ولكن رياح الصحراء التي تهب من الجنوب في غدامس بالقرب من الحدود الجزائرية لم تلفح وجوه أحفاد شهداء حرب الاستقلال، وكتم الجزائريون غيرتهم في سباق الثورات، فالغضب إن كان له مسقط رأس فهو الجزائر، فكيف لا يغلي الدم في عروق الجزائريين؟
كل يوم يمر ينخر سوس الفساد في عظام الجزائر الطاهرة، ويبهت كل أمل في العثور على المفقودين، ويكبر في العمر مجرمو الحرب الأهلية الذين عفا بوتفليقة عنهم قبل أن تقول السماءُ كلمتـَها.
الجزائر بلد يملك كل مقومات الدولة الكبرى، والأغنى في المنطقة من بترول، وغاز، وشواطيء، وصناعة، وعنصر بشري يستطيع أي حُكم رشيد أن يجعله ثروةً أثرىَ من كل كنوز باطن الأرض وظاهره، ومع ذلك فالحلم الشبابي هو عدة سنتيمترات في قارب متهالك لن يصل في الأغلب إلى شاطيء المستعمـِر السابق قبل أن تنال أسماك القرش نصيبها من ركابه.
هل ينتظر الجزائريون سقوط أربعة أو خمسة طغاة عرب حتى يكتشف أحفاد شهداء أعظم حروب الاستقلال أنهم في نهاية صف طويل من الشعوب الصامتة التي لم تغضب حتى هذه اللحظة على مصاصي دمائها؟
أيها الجزائريون،
لقد تأخرتم كثيراً وكان من المفترض أن يبدأ ربيع العرب من حيث علــَّمـَنا مالك بن نبي كيف نقرأ الصراع الفكري في البلاد المستعمـَرة، حتى لو كان الاستعمار وطنياً، فاغضبوا يرحمكم الله، واضربوا المثل الذي ينتظره كل أحرار عالمنا العربي، وقاتلوا بصدور عارية، وانزعوا من أنياب ذئاب الحُكم شهادة حياة حرة وكريمة لمستقبل أولادكم، ولا تجعلوا جماعة أو فرقة أو توجهاً أيديولوجياً، علمانيا أو إسلامياً أو عسكرياً، يحدد لكم المشهد الجديد في جزائر المستقبل .. جزائر الثورة.
ابحثوا عن حُكم وطني لا يرفع شعاراً يوشي بخلافات تـُميت ولا تـُحيي، ولا تنصتوا لبائعي الكلمة ولو ألقوها على مسامعكم من فوق المنابر أو من ثكنات عسكرية، ولا تصدّقوا كل من يقول بأن فيه روح الاستقلال لأنه ينتمي لرجل أو قائد أو أمير أو شيخ أو عسكري، فالثورة الجديدة لها لون واحد هو الجزائر .. وهوية واحدة هي الجزائر .. وكلمة سِرٍّ واحدة تتفتح لها كل الأبواب هي الجزائر.
أحرّضكم على الثورة، وأخاف عليكم من لصوصها.
أحلم معكم بانتهاء حُكم بوتفليقة والعسكر وأجهزة الاستخبارات وملوك الفساد، لكن خوفي من وصول المنتقمين لسدة الحُكم يصيبني بالفزع.
لا تصدقوا من يقول لكم بأن لديه تفويضاً من رب السماوات والأرض بوضع الدستور، وتفسيره، والحُكم بهواه زاعماً أنه حُكم الله.
حُكم الله في جزائر المستقبل هو العدل، والمساواة، والحرية، والخبز لكل جائع، والسكن اللائق، والقضاء على الأمية، والعلاج المجاني، ومنع انتهاك كرامة المواطن، وتعويض السجناء الأبرياء، والقضاء على الغلاء، والعثور على المفقودين جميعا أو معرفة مصيرهم، وحماية الطفل من الشارع والتسول والتعليم المتخلف.
حُكم الله في جزائر المستقبل هو علاقات سوية بين السلطة والشعب، ورئيس دولة خادم لدى أبناء وطنه، والحفاظ على أموال الجزائريين، وبناء النهضة من جديد، واستدراك ما فات الجزائريين من تقدم ورقي وتمدن، وفرصة عمل لكل مواطن مهما بلغت درجته العلمية، أدناها وأقصاها.
حُكم الله في جزائر المستقبل لا يزايد فيه أدعياء التديّن، ولا يزعم فيه أحد خلاصة الحق والحقيقة، وليس هناك من هو فوق النقد من السلف والخلف، ولا يحتكر فيه أحدٌّ تفسيرَ كـِتاب الله العزيز.
حُكم الله في جزائر المستقبل هو تقدم في كل المجالات، العلمية والأدبية والثقافية والفكرية والإدارية والفنية، وأن تكون الجزائر دولة مُسالمة مع جيرانها، وأن تـُنهي كل الخلافات مع المغرب، بل وتطلب الوحدة الاندماجية لتصبحا دولة واحدة قوية عزيزة وغنية.
حُكم الله في جزائر المستقبل هو دولة التسامح، والأمن، والأمان، والقضاء العادل، والقضاء على الطبقية.
أيها الجزائريون،
لا أصدق أنني احتفلت بانتصار ثورات ثلاث، ونصف انتصار لاثنتين، ولم ينتفض الجزائريون بَعـْدٌ كأنكم في كوكب آخر.
هل أستعد لارسال تهنئة أم أن الغضب الجزائري سقط، سهواً أو عمدا، من ربيع العرب؟
وسلام الله على الجزائر
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 23 أغسطس 2011
Taeralshmal@gmail.com