عصر الجاهلية المعاصر
" كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ" 7:2
من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى ومن هم غيرالمؤمنين الذين لهم الإنذار . ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهاداً كبيراً . .
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله عليه السلام بهذا الكتاب مأموراً من ربه أن يُنذر به ويُذكر، وألا يكون في صدره حرج منه وهو يواجه الجاهلية ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق .
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر!
انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء - حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين المسلمين لله المخلصين له الدين - فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق .
لقدجاء هذا الدين ليغير وجه العالم وليقيم عالماً آخر، يقر فيه سلطان الله وحده ويبطل سلطان الطواغيت . عالماً يُعبد فيه الله وحده - بمعني "العبادة "الشامل- ولا يُعبد معه أحد من العبيد . عالماً يخرج الله فيه - من شاء - من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . عالماً يُولد فيه "الإنسان" الحر الكريم النظيف . .المتحررمن شهوته وهواه، تحرره من العبودية لغير الله .
جاءهذا الدين ليقيم قاعدة: "أشهد أن لا إله إلا الله" التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري وشهادةأن لا إله إلا الله ليس لها مدلولإ إلاأن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء . فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته . وبناءعلى هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه ولايتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده . ولا يتلقى الشرائع والقوانين والقيم والموازين والعقائد والتصورات إلا من الله، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله .
هذههي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد . . فأين منها البشرية كلها اليوم ?
إن البشرية تنقسم شيعاً كلها جاهلية :
شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلا وهم الملحدون . . فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان!
وشيعة وثنية تعترف بوجود إله ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأرباباً كثيرة .كمافي الهند , وفي أواسط إفريقيا وفي أجزاء متفرقة من العالم .
وشيعة"أهل كتاب" من اليهود والنصارى . وهؤلاء أشركوا قديماً بنسبة الولد إلى الله. كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله - لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع . وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلاً ! . .
" اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " 9:31
ثم هم اليوم يقصِّون حاكمية الله بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها "الرأسمالية " و "الاشتراكية " وما إليها . ويقيمون لأنفسهم أوضاعاً للحكم يسمونها "الديمقراطية " و"الديكتاتورية " .ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم .
وشيعة تسمي نفسها "مسلمة " ! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه، خارجة من دين الله إلى دين العباد .فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه . ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم !
" أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " 29:51
لقداستدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية . شيعها جميعاً لا تتبع دين الله أصلاً . . وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور. ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع . . وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية المستنيمة للمستنقع الآسن الضالة في تيه الجاهلية والمستسلمة لاستهواء الشيطان في التيه ! وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة:أشهد أن لا إله إلا الله . وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده ولايعبد معه سواه .
وتحقيق ميلاد للإنسان جديد يتحرر فيه الإنسان من عبادةالعبيدومن عبادة هواه !
" لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ....." 7:59
" وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ.... "7:65
" وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ .... " 7:73
" وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ .... " 7:85
إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً وقع مرة ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه . إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والعقائد والقيم والتقاليد التي واجهها أول مرة .
إن الجاهلية حالة ووضع وليست فترة تاريخية زمنية . والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع .إنها تقوم ابتداء على "حاكمية العباد للعباد" ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد. تقوم على أساس أن يكون "هوى الإنسان" في أية صورة من صوره هوالإله المتحكم ورفض أن تكون "شريعة الله" هي القانون المحكم . ثم تختلف أشكاله ومظاهرها وأسماؤها وأوصافها وشيعها ومذاهبها ، غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها .
" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ " 45:23
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية . وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية . وأن الإسلام اليوم متوقف عن "الوجود".
ولتوكيدهذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل:
إن المجتمعات البشرية اليوم - بجملتها - مجتمعات جاهلية . وهي من ثم مجتمعات"متخلفة " أو "رجعية " بمعنى أنها "رجعت" إلى الجاهلية بعد أن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها . والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية وقيادتها في طريق التقدم و "الحضارة " بقيمها وموازينها الربانية .
إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع - متمثلة في سيادة شريعته الربانية- تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد . وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة - كما هي في ميزان الله - لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد . ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد . لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا، وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب ! والتشريع لا ينحصرفي الأحكام القانونية . فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين ! ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف . .أوبالاصطلاح الإسلامي:"مجتمع جاهلي مشرك".
وحين تكون روابط التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة . ويكون هذا كله صادراً من الله لا من هوى فرد ولا من إرادة عبد . فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متحضراً متقدماً . أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعاً ربانياً مسلماً . . لأن التجمع حينئذ يكون ممثلاً لأعلى ما في "الإنسان" من خصائص - خصائص الإيمان والفكر - فأماحين تكون روابط التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض . . . وما إلى ذلك من الروابط. . فإنه يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً أو بالاصطلاح الإسلامي: مجتمعاً جاهلياً مشركاً . . ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في "الإنسان" . فالإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض .
ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة - وهي أسمى ما أكرمه الله به - أن يغيرعقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه. ولكنه لا يملك أبداً أن يغير جنسه ولا لونه ولا قومه . لا يملك أن يحدد سلفاً مولده في جنس ولا لون كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض. فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها!
وحين تكون "إنسانية الإنسان" هي القيمة العليا في مجتمع وتكون "الخصائص الإنسانية" فيه موضعا للتكريم والرعاية يكون هذا المجتمع متحضرامتقدماً أو بالاصطلاح الإسلامي: ربانياً مسلماً . . فأما حين تكون "المادة " -في أية صورة من صورها - هي القيمة العليا . . سواء في صورة "النظرية " كما في الماركسية أو في صورة "الإنتاج المادي" كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا التي تهدر في سبيلها كل القيموالخصائص الإنسانية - وفي أولها القيم الأخلاقية - فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاًرجعياً متخلفاً . . أو بالاصطلاح الإسلامي:مجتمعاً جاهلياً مشركاً .
إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة لا في صورة "النظرية " باعتبارالمادةهي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه ولا في صورة "الإنتاج المادي"والاستمتاعبه . فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص "الإنسان" ومقوماته كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية الملحدة أو المشركة .
وحين تكون القيم "الإنسانية " والأخلاق "الإنسانية " - كما هي في ميزان الله -هي السائدة في مجتمع فإن هذا المجتمع يكون متحضراً متقدماً . . أو بالاصطلاح الإسلامي. . ربانياً مسلماً . . والقيم "الإنسانية " والأخلاق "الإنسانية " ليست مسألة غامضة ولا مائعة وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة لا تستقر على حال - كمايزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم . . إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان "خصائص الإنسان" التي ينفرد بها دون الحيوان . وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنساناً. وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان. وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها "التطوريون" ! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية . ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية . ولا أخلاق صعلوكية وأخرىبرجوازية ! لا تكون هناك أ خلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة على اعتبارأن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها وحتمية في نشأتها وتقريرها. إنما تكون هناك فقط "قيم وأخلاق إنسانية " يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر . "وقيم وأخلاق حيوانية " - إذا صح هذا التعبير - يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية وقيم وأخلاق رجعية جاهلية.
إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي . إن هذاالمقياس لا يخطىء في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته .
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحصر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان . ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غيرالشرعية - ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة - رذيلة أخلاقية ! إن المفهوم"الأخلاقي" ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية - أحياناً في حدود مصلحةالدولة ! - والكتاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان: إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية .
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة - من وجهة النظر "الإنسانية " .وبمقياس خط التقدم الإنساني . وهي كذلك غير إسلامية ، لأن خط الإسلام هو خط تحريرالإنسان من شهواته وتنمية خصائصه الإنسانية وتغلبها على نزعاته الحيوانية .
" أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " 5:50
ونحسب أن هذه الإشارات المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة . ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين الله . . إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام: عقيدة وخلقاً ونظاماً . إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول الله عليه السلام وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة . وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه وربه - سبحانه – يخاطبه:
" كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ " 7:2
وفي الوقت الذي وجه الله - سبحانه - هذا التكليف إلى رسوله ، وجه إلى قومه المخاطبين بهذا القرآن أول مرة - وإلى كل قوم يواجههم الإسلام ليخرجهم من الجاهلية - الأمر باتباع ما أنزل في هذا الكتاب والنهي عن اتباع الأولياء من دون الله . ذلك أن القضية في صميمها هي قضية "الاتباع" . . يتبعون أمر الله فهم مسلمون أم يتبعون أمر غيره فهم مشركون ? إنهما موقفان مختلفان لا يجتمعان:
" اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ " 7:3
هذه هي قضية هذا الدين الأساسية . . إنه إما اتباع لما أنزل الله فهو الإسلام لله والاعتراف له بالربوبية وإفراده بالحاكمية التي تأمر فتطاع ويتبع أمرها ونهيها دون سواه . . وإما اتباع للأولياء من دونه فهو الشرك وهو رفض الاعتراف لله بالربوبية الخالصة.
وفي الخطاب للرسول عليه السلام، كان الكتاب منزلاً إليه بشخصه: (كتاب أنزل إليك). . وفي الخطاب للبشر كان الكتاب كذلك منزلاً إليهم من ربهم: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم). . فأما الرسول عليه السلام فالكتاب منزل إليه ليؤمن به وليُنذر ويُذكر . وأما البشر فالكتاب منزل إليهم من ربهم ليؤمنوا به ويتبعوه ولا يتبعوا أمر أحد غيره . . والإسناد في كلتا الحالتين للاختصاص والتكريم . فالذي يُنزل له ربه كتاباً ويختاره لهذا الأمر ويتفضل عليه بهذا الخير جدير بأن يتذكر وأن يشكر وأن يأخذ الأمر بقوة.
إن مصارع الغابرين خير مُذكر وخير مُنذر والقرآن يستصحب هذه الحقائق فيجعلها مؤثرات موحية و موقظة للقلوب البشرية الغافلة.
" وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ "7:4
تلك القرى التي أهلكت بسبب تكذيبها . أهلكت وهي غافلة . في الليل وفي ساعة القيلولة حيث يسترخي الناس للنوم ويستسلمون للأمن.وكلتاهما . . البيات والقيلولة . . ساعة غرّة واسترخاء وأمان والأخذ فيهما أشد ترويعاً وأعنف وقعا . وأدعى كذلك إلى التذكر والحذر.
ثم ما الذي حدث ? إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف ، ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار. والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرارولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى (إنا كنا ظالمين). فياله من موقف مذهل رهيب مخيف ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك.
إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك . فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن . . فالشرك هو الظلم العظيم . والظلم العظيم هو الشرك . وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خالقه.
وبينما المشهد معروض في الدنيا وقد أخذ الله المكذبين ببأسه فاعترفوا وهم يعاينون بأس الله أنهم كانوا ظالمين ، وتكشف لهم الحق فعرفوه ولكن حيث لا تجدي معرفة ولا اعتراف ولا يكف بأس الله عنهم ندم ولا توبة . فإن الندم قد فات موعده والتوبة قد انقطعت طريقها بحلول العذاب.
فإذا وقف هؤلاء الذين تعرضوا لبأس الله في هذه الأرض وقفتهم هناك للسؤال والحساب والجزاء فإنه لا يكتفى باعترافهم ذاك حين واجهوا بأس الله الذي أخذهم وهم غارون: (إنا كنا ظالمين ).
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ "7:9
فهو السؤال الدقيق الوافي يشمل المرسل إليهم ويشمل المرسلين . وتعرض فيه القصة كلها على الملأ وتفصل فيه الخفايا والدقائق . يُسأل الذين جاءهم الرسل فيعترفون . ويُسأل الرسل فيجيبون . ثم يقص عليهم العليم الخبير كل شيء أحصاه الله ونسوه ! يقصه عليهم - سبحانه - بعلم فقد كان حاضراً كل شيء . وما كان - سبحانه - غائباً عن شيء .
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ..... إتعظوا يا أولى الألباب.