من شاهد ميدان التحرير قلب القاهرة ومركز ثورتها يوم الجمعة 29 يوليو لا يمكن أن يتصور أنه في دولة مركزية عريقة، على رأسها الآن مجلس عسكري يحمي البلاد ويديرها مؤقتاً، ولحين تسليمها كدولة مدنية للحكم المدني. . دولة يحكمها دستور أو بيان دستوري، يمنع قيام أحزاب دينية، ويضع القانون شروطاً للاعتراف بالأحزاب والسماح لها بممارسة العمل السياسي.
أن يتحول ميدان التحرير لساحة لذوي اللحى والجلابيب القصيرة، يرفعون أعلام السعودية، ويهتفون بالشعارات التي ترفعها منظمة القاعدة وطالبان وكافة الجماعات الإرهابية في أنحاء العالم، بل ووصل الأمر لأن نسمع هتاف "أوباما يا أوباما كلنا أسامة (بن لادن)". . جماهير لم تأت للتظاهر بتلقائية، كما تفعل الجماهير المصرية منذ الثورة كل في مدينته، وإنما تم جلبها بالباصات من مختلف أنحاء البلاد، لتصنع هذا الحشد غير الطبيعي، والمرعب بحق، لكل من لديه الهامش البسيط من الوعي، بما يمكن أن يترتب على إطلاق هؤلاء على البلاد. . لقد كانت المبالغة في رفع الشعارات والرايات تبدو واضحة الغرض، وهو إحداث أكبر قدر من الخوف والرعب، ولم تتحل بأي قدر من اللياقة والتقية التي عهدناها من الظلاميين طوال شهور الثورة الماضية، وجاءت ضرباً للتعهدات التي قطعوها على أنفسهم سويعات قبل الأحداث.
هل ما يحدث مجرد عجز وتقصير فادح في القيام بحماية مصر الوطن، أم هي سياسة محسوبة جيداً، ويراد منها إيصال رسالة ما لجهة ما؟!
أين مجلسنا العسكري الذي يحمي البلاد، ومن أي شيء يحميها إذن، إن لم يحمنا ويحمي الدستور من هؤلاء الذين أخرج قياداتهم من السجون، ليتصدروا المشهد المصري، ويحولوا الحوار السياسي الديموقراطي في عهد الثورة إلى تخيير الناس البسطاء بين الإسلام وبين الكفر. . ليس بالطبع الإسلام المتسامح الذي عرفته مصر طوال 14 عشر قرناً، ولكنه ذلك الفكر المنحرف الإرهابي، الذي يحاربه العالم كله في كافة أنحاء المعمورة؟!
التفريط والتقصير الفادح ليس فقط بالسماح لأحزاب دينية مخالفة للدستور، بعد أن قدمت برامج أخفت منها كل ما تضمره، لكنها تعلنه على الملأ وبكل الطرق وبكافة وسائل الإعلام واللافتات والرايات، ولكن أيضاً في قادة الظلاميين الخارجين تواً من السجون، بعد أن قتلوا رئيس جمهورية والمصريين والأجانب منذ السبعينات وحتى التسعينات. . حسن إن كانوا قد أفرج عنهم بعد قضاء فترات عقوبتهم، وحسن أيضاً أن أعلنوا قيامهم بمراجعات لا تتخلى عن العنف حقيقة، لكنها تؤجله مرحلياً. . لكن في شرع من يخرج هؤلاء لممارسة وقيادة العمل السياسي، بالإطاحة بالقانون الذي يحظر عليهم ممارسة العمل السياسي، حتى يتاح لهم استرداد اعتبارهم وفقاً للقانون؟!.. لقد سمعنا في الإعلام عن وجود وعد لهم بإصدار عفو عنهم يتيح لهم ممارسة السياسة، فهل صدر فعلاً مثل هذا العفو، ومن يملك أن يفعل ذلك، ولماذا؟!!
لست أدري إن كان الممسكون بزمام الأمور في مصر يعرفون أم لا، أن سياستهم أو تقصيرهم الفادح هذا يؤدي إلى إفشال الحوار الصحي والديموقراطي بين القوى المدنية وبين جماهير التيارات الدينية، حيث المفترض أن يسعى الجميع للتوافق على أساس ما يحدده الدستور من ضوابط، تضطر التيارات الدينية للاعتدال، كما سبق وأن فعلت مجموعة حزب الوسط، في حين أن هذا الانفتاح أو الانفشاخ للمجال لها تجعلها تركب من الموج أعلاه، وهذا ما شاهدناه في ميدان تحريرنا الذي تحول إلى ساحة طالبانية!!
ماذا يدبر المجلس العسكري لمصر بالتحديد؟
هل يدبر تسليم البلاد للظلاميين، بشرط استقلال المؤسسة العسكرية، وقيامها كسلطة عليا ودائمة للبلاد؟
أم أن هناك رسالة ما يريد توجيهها للمصريين وللعالم أجمع؟. . رسالة رعب من البديل الماثل، تجعلنا والعالم كله نقبل صاغرين حكم العسكر، لنعيد مرة ثانية ذات قصة مأساتنا مع عسكر يوليو الذين سموا أنفسهم بالأحرار واستعبدونا، وحولوا مصر خلال ستين عاماً إلى مستنقع للفقر والجهل والمرض، وإلى مصدر للإرهاب العالمي؟!
أكاد لا أصدق أن أي من هذا يمكن أن يضمره مصريون شرفاء لابد وأن المجلس العسكري يضمهم. . لا أصدق أنهم يمكن أن يستنكروا على الشعب المصري الحرية والديموقراطية والحداثة، فيقومون بتدبير تلك المسرحية أو الكابوس المرعب، لكي يعود الشعب المصري وشبابه الحر إلى حظائر الاستكانة والخنوع.
وإن لم يكن التدبير المقصود فهو التقصير الفادح. . التقصير في حماية الشعب والدولة من السقوط المدوي، الذي قد نستغرق قرناً كاملاً بعد ذلك لكي نقوم من وهدته. . التقصير في إعمال القانون والدستور، الذي يمنع قيام أحزاب دينية، ويمنع قيام إرهابيين وقتلة (يقولون تائبين) من ممارسة السياسة، وليس من أن يعيشوا حياة عادية، وقد يكفرون بأعمال خير عما ارتكبوا من جرائم في حق الإنسانية وحق الشعب المصري.
مطلوب من كل صاحب سطلة يعبث أن يكف عن العبث بمصير هذا الوطن.
ومطلوب من كل غر أو جاهل أن يتنحى ليتولى الأمر من يدرك بديهياته.
مطلوب من كل عاجز عن حمل تبعات أمانة قد حملها تجاه هذا الشعب أن يرتدع، قبل أن تطير رأسه بفعل سيوف هؤلاء الظلاميين ذاتهم، فقد سبق وأن فعلوا هذا مع السادات.
مطلوب تفعيل الدستور والقانون، ليلزم كل فرد في هذه الأمة حدوده.