الدستور هو عقد اجتماعي بين أفراد شعب يشكل دولة، ويرسم الخطوط العريضة، ويحدد المبادئ التي تحكم علاقة الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالدولة ككيان اعتباري سياسي والحكومة كجهة تنفيذية، بما يشمل أيضاً شكل الدولة والحكومة، وعلاقة مكوناتها ببعضها البعض. . الأمر هكذا بداية وانتهاء منوط بإرادة الشعب، فهو صاحب الحق الوحيد في تحديد شكل حياته وطبيعة علاقاته.
الديموقراطية بحكم الجذر اللغوي للكلمة ومفهومها البسيط الشائع هو حكم الشعب لنفسه، وتقتضي أوليات الديموقراطية وآلياتها اللجوء لتحديد "رأي الشعب" عن طريق عملية إحصائية، ينتصر فيها رأي الأغلبية، ليصبح هو المعبر عن "رأي الشعب"، ليكون على الأقلية أو الأقليات الالتزام بالنتيجة التي تم التوصل إليها، ويعد أي تمرد على تلك النتيجة بمثابة انتهاك لقواعد اللعبة الديموقراطية، ومحاولة من الأقلية للطغيان والهيمنة على الأغلبية.
هكذا وببساطة نستطيع أن نربط بين الفقرتين أو المفهومين أعلاه، مفهوم الدستور ومفهوم الديموقراطية، لنستنتج أن شكل الدستور ومضمونه مرتبط أولاً وأخيراً برأي الأغلبية من الشعب، وإن كان هذا وببعض من التسامح وسعة الصدر، يقتضي من الأغلبية مراعاة الأقلية، متكرمة عليها ببعض مما قد تتقبله على مضض، أو قد تمنحه لها من قبيل التدليل على أريحيتها، ليظل الأمر أيضاً هكذا مرتهناً برأي الأغلبية، فيما تقرره لنفسها وللجميع، وأيضاً فيما تسمح به لآخر أو لآخرين يشاركونها الوطن.
يبدو الأمر هكذا بسيطاً وواضحاً بشكل يقيني لا يحتمل جدالاً أو لجاجة، إلا من قبل من يريدون ديموقراطية على مزاجهم الخاص، ويتنكرون لها ولآلياتها إذا ما أتت بما لا يرضي هواهم. . فهل هذا صحيح على إطلاقه، وهل رأي الأغلبية هو كما يبدو هكذا إله جبار يفرض على عبيده ما لا يملكون منه مهرباً، أم أن ما تم عرضه في الفقرات السابقة مجرد تبسيط مخل لقضية أكثر من هذا تعقيداً؟
نحتاج لكي نتدبر الأمر بأكثر عمقاً وروية أن نعود إلى بداية القضية وهي فكرة العقد الاجتماعي، والتي تتضمن ضمن ما جاء به مفكر عصر الأنوار "جان جاك روسو" تنازل الإنسان الفرد عن جزء من حريته الخاصة والطبيعية، في مقابل تنظيم العلاقة بينه وبين سائر الأفراد الذين قرر العيش معهم في حياة مشتركة، نطلق عليها لفظ "مجتمع" أو "وطن". . ليعود للفرد مردود ما انتقص من حريته، في صورة انتظام وضمان وأمان لحياته في نطاق المجتمع، ويعني هذا أن الهامش الذي يتنازل عنه الفرد اقتطاعاً من حريته الشخصية التي هي في أساسها مطلقة، محدود ومرتبط بما يلزم لضمان ما ينشده ويعود إليه من انتظام للحياة الشخصية والعامة. . يعني هذا أن العقد الاجتماعي لا يستوجب أن يتخلى الإنسان الفرد عن كيانه ووجوده للدولة، لكي يتلقى منها بعد ذلك ما تجود به عليه من حقوق. . هو فقط يتخلى من نطاق حريته على الحدود التي تتقاطع مع حريات الآخرين، لتقوم الدولة بتنظيم المساحات المشتركة من حريات وأنشطة الأفراد، بما يكفل ما نعرفه بالعدالة والمساواة، أما سائر نطاق حريات الفرد الخاصة والتي لا تمس أو تتعلق بأي أحد، فهي خارج نطاق العقد الاجتماعي، وتكون بالتبعية خارج نطاق الأخذ والرد واستفتاء رأي أغلبية أو أقلية. . هي حقوق إنسانية شخصية مقدسة، تعلو الدولة والمجتمع، كما تعلو الدستور والقانون، ويتناولها بالتحديد ما يطلق عليه البعض "مبادئ فوق دستورية".
هذه "المبادئ فوق الدستورية" لا تطلق عليها تلك التسمية إذن لأنها أهم من غيرها من مواد يتضمنها الدستور، ولا لأن من يريدون المحافظة عليها يرون أنفسهم وأفكارهم الخاصة فوق رأي الشعب أو الأغلبية، بل لأن هذه المواد أساساً خارج دائرة اللعبة. . خارج دائرة التنازل المتبادل بين الأفراد والدولة في سبيل هدف سام هو إمكانية الحياة المشتركة. . هي تمثل حق الإنسان الفرد غير القابل للتنازل عنه، حتى لو وقع وأقر فرد بالتنازل عنه. . هي قدس إنساني مقدس، يمنع الاقتراب منه أو التصوير كما يقولون.
يمكننا النظر لتلك الدائرة الإنسانية المقدسة من منظورين رئيسيين، أولهما الحقوق الشخصية لحياة الإنسان الفرد، والثاني هو الحقوق الطبيعية للإنسان، والتي بلورتها في العصور الحديثة المواثيق العالمية لحقوق الإنسان. . فحياة الإنسان الخاصة ملك له وحده، فلا دخل للدولة مثلاً بعلاقاته الشخصية وخياراته، فهي غير مكلفة ولا مفوضة بأن تفرض عليه أخلاقاً أو تعليماً أو ديناً معيناً، ولن تفرض عليه مثلاً مأكلاً أو مشرباً أو ملبساً تحدده له، وتعاقبه إذا ما تجاوز ما هو محدد.
المنظور الثاني للحقوق المقدسة هو الذي يرى الأمر من زاوية الحقوق الطبيعية للإنسان، والذي رفع أولى راياته رواد التنوير قبل وإبان الثورة الفرنسية، وتطور في عصرنا هذا، ليتبلور في مبادئ الحرية والمساواة والعدالة العابرة للجنس والعرق والدين، ما ليس مجالنا هنا للإفاضة في شرحه.
الخلاصة أن الجدل الدائر بمصر الآن بين قوى الدولة المدنية، وبين جماعات التأسلم السياسي، وخوف الأولى من طغيان أغلبية برلمانية قد تتحقق للثانية، تمكنها من وضع دستور على هواها، هي معركة على ما ليس من حق أحد أساساً النقاش حوله أو حتى مجرد التفكير فيه. . هي دائرة مقدسة تعلو ليس فقط الدستور، بل تعلو الدولة والأمة وأي كيان اعتباري عرفه الإنسان، وهي محفوظة ومصونة في كل دساتير العالم الحر، كما هي محفوظة ومصمونة في جميع الدساتير المصرية، بما فيها دستور 1971 المغضوب عليه.
على حدود دائرة حقوق الإنسان الفرد ترتد كل أياد العبث، تقصف الأقلام وتخرس الألسنة، ودونها تهون الحياة وترخص الدماء. . هل تفقهون؟!!