في المصائب الكُبرى تكبر الشعوب أو تصغر، تتوحد أو تتفرق، تعيد لملمة جروحها أو تترك الجُرح نازفاً، تكتشف من جديد قوتها وضعفـَها
في المصائب الكبرى تقف الشعوب عند مفترق طريق يؤدي إلى الجنة أو النار، مزيد من المحبة أو ترك الكراهية تفترس النفوسَ ثم تتوغل فيها، التمسك بالتسامح كقيمة عـُليا أو الهرولة ناحية العنصرية كملاذٍ أخير!
عندما انتصرت ثورة يناير الشبابية في مصر وأزاحت عن كاهل أم الحضارات شيطانا عبث بـها ثلاثين عاما قال رئيس وزراء النرويج: اليوم .. كلنا مصريون!
ونحن نرد عليه في فاجعة وطنه الصغير بأننا اليوم نرويجيون، حتى لو ثبت بأن الحادث فردي، وأن الإرهاب مارسه شخص واحد، وروّع به بلداً آمنا يسير فيه رئيس الوزراء كأي مواطن عادي، يتسوق، ويستقل الحافلة، ويقود سيارته أو يجلس في حديقة عامة دون أن يلتفت إليه فضولي أو يعكر ثرثارٌ صفوَ سكينته وأمنه.
الكراهية لا دين تتدين به، ولا مذهب تذهب به، ولا عقيدة تعقدها حول معصميها، ولا قومية تقوّم بها النفسَ، ولا وطنية تتوطن خلف المشاعر والأحاسيس، لكنها نبتة شيطانية تختار أكثر المرضى النفسيين ضعفا فتــُظهره كأنه أقوى الأصحاء سلامة!
كل القتلة، الكبار والصغار، الطغاة وأعضاء الميلشيات، غضَّت المجتمعات الطرف عن شرارات الحقد التي كانوا ينفثونها بين ألفينة والأخرى ظنا منها أنهم لا يـُمثلون خطرا، فإذا بهم يمثـّلون بالجثث، ويُمثلون أدواراً وطنية تبدو للجاهل كأنها رسائل عشق للوطن، لكنها كانت تصديقا على أحكام بالأعدام ينفذها الشياطين ضد الملائكة، المذنبون ضد الأبرياء.
أربعة وثلاثون عاماً هي عمر إقامتي في النرويج ولم تستوقفني الشرطة أكثر من مرتين، وفي كل مرة ثلاث دقائق تعقبها ابتسامة، واعتذار، وتحية!
لكن السياسة والميديا والجهل بالآخرين ثلاثي بارع في صناعة عالم الكراهية، فأحزاب اليمين المتطرف تسرق الوطن كما يختطف فارسٌ فتاةً بريئة وعندما يصهل جوادُه، ويكشف الفارسُ وجهـَه، تكتشف الفتاة أنه لم يكن فتى أحلامها، إنما هو قاتل ارتدى قناعَ النبلاء، هكذا يلعب زعماء الأحزاب المتطرفة.
أما الميديا فتـُحرّك المواطن وهو جالس على أريكة في صالون بيته يشاهد شاشة ملونة يتحرك فيها بصورة مستمرة ومرهقة طيبون وأشرار، خيــّرون وخبثاء، وهو حائر يدور رأسه بينهم، ثم يسقط في حـِجر أحدهم، فالإنسان قرد تلفزيوني، كما ذكرت من قبل في مقال لي عن الحرب الكروية بين القاهرة والجزائر وكيف تحولنا جميعا إلى نموذج موحد للقرد ميمون، وبرنامج تلفزيوني مؤثر يجعل النرويجيين يفرّغون جيوبهم من أجل فقراء في أوغندا أو الهند، وبرنامج آخر غير محايد يجعلهم يصبـّون حـِمَمَ غضبهم على التطرف الإسلامي الذي يسمح بختان الفتيات الصغيرات فيتألمن، ويصرخن، وتستغيث الطفلة في عالم من الصمت!
أما الجهل بالآخرين فهو أم المصائب، ولا فرق فيه بين شرق وغرب، أو بين شمال وجنوب، أو بين أوروبيين يظنون العالمَ الثالث مرتعاً للإرهاب، وعربٍ ومسلمين يعتقدون أن أوروبا مكان خصب للانحلال والفجور والانفلات العائلي!
آندرس برينج برايفيك سقط من بطن أمه في 13 فبراير 1979، وكان طفلا عاديا، وتلميذا طبيعياً، ولكن في سن الخامسة عشرة انقطعت صلته بأبيه وأمه، وغاب دفء العائلة، وبدأ عالم من الأسرار يتسلل إلى نفسه، لكنه كان مراقــِباً للمجتمع، وينزع ناحية الهدوء، وقد قالت لي ابنتي أنها تحدثت معه مرات كثيرة، فقد كان زميلاً لها في السنة الأولى الثانوية عام 1998، وكان طبيعياً، ولا يستخدم ألفاظاً نابية، ويرد بأدب جـَمٍّ على زملائه، ويتفاخر بقوة جسده رغم محاولاته الدائبة تغطية بشرة الوجه شبه المشوّهة بمساحيق، وجل أصدقائه الشباب من الذين يمارسون كمال الأجسام.
منذ تسع سنوات وهو يخطط لهذا العمل الإجرامي البشع، فالعالم كله ينبغي أن يتحدث عنه، لذا تم القبض عليه فور وصول الشرطة إلى جزيرة أوتويا Utّya ، فالقاتل يرفض أنْ ينتحر لأن رسالته في الكراهية ترتبط ارتباطا وثيقاً بصورته.
الانفجار حدث في الثالثة والنصف وكنتُ وقتها في محل هندي للخضروات والفواكه على مبعدة 400 متراً من مكان الانفجار، واهتز المحل ولعل الكثيرين ظنوا، مثلي، أنه ليس ذا أهمية.
بعد دقائق سمعت في السيارة البيانات الأولى حتى وصلت إلى البيت، وأشار مُعلق إلى أنه لم يمض وقت طويل على اغتيال أسامة بن لادن. في المساء سأل معلقٌ آخرٌ في الإذاعة النرويجية خبيراً في شؤون الإرهاب إنْ كان يتابع المواقع الإسلامية على النت!
لكن الشيطان كان من أهل البيت، ولم تـلفت كراهيته للأجانب والمسلمين انتباه أحد، فالأحزاب اليمينية المتطرفة تختطف الأوطان بحجة المحافظة عليها من الغرباء، وكما قلت لزوج هولندي وزوجته أثناء حواري معهما صباح أمس بأن القاتل النرويجي له نسخة هولندية وأخرى فرنسية متأثرة بجان ماري لوبان، وثالثة أمريكية فضلا عن مجرم ولاية أوكلاهوما، وهو قد يكون وطنياً حتى النخاع ( هتلر عام 1933)، وفاشيا حتى شغاف القلب ( موسوليني الذي أعدمه شعبه في ميلانو عام 1945 ) ووحدوياً حتى الجنون ( الليبي والسوري واليمنى، وثلاثتهم قتلة من الطراز الدراكيولي مصاص الدماء)!
كارثة أصابت النرويج كما لم تصبها قنابل النازية في الحرب العالمية الثانية، لكنها لم تكن في مقتل، فالصدمة من هولها توقظ الشعوب المتحضرة التي كافحت عقوداً طويلة لتقطف ثمرة الأمن والسلام والديمقراطية، وتصنع مجتمع الرفاهية، وتمارس حقوق الإنسان بكافة المعايير المتعارف عليها حتى لو زلت القدم بين الحين والآخر.
والصدمة ستنعكس ايجابيا، وليس سلبيا، على مستقبل النرويج، فاليمين المتطرف الذي كان يمكن أن يؤلف حكومة في أقل من عقد من الزمان وضع يديه على وجهه لئلا يرى النرويجيون حمرة الخجل عاراً، أو يشير أهل الأبرياء الذين قتلتهم يد الغدر إلى مصدر الكراهية، ومنبع القسوة.
برايفيك ظل ساعة كاملة يفرّغ الرصاص في شباب بريء في جزيرة نائية ببلد آمن، وكان هناك 560 شاباً وفتاة أزمع القاتل أن يصرعهم جميعاً، وبدأ بقتل الفتيات، فالذي يخطط طوال تسع سنوات لهذا العمل المفزع والجهنمي لا يتوقف عند قتل بضعة عشرات، ولو تأخر وصول الشرطة فترة أطول لوصل ضحاياه إلى المئات!
وقفت النرويج كلها وقفة وطنية عاشقة لبلدها، وأغرقت الدموع وجوها لم تعرف مآقيها البلل قط، وبكى الملك هارالد والملكة سونيا أمام الشعب، فالدموع ليست فقط للحزن أو للتطهر، لكنها لتماسك الناس فتنتقل القوة من شخص إلى آخر، ثم إلى جماعة، ثم إلى سكان الوطن الحزين كله.
النرويج في سرادق عزاء، ومعها المواطنون الجدد من أجانب أكلوا من خيراتها، وتمتعوا بديمقراطيتها، وابتهجوا بتقدمها، ومارسوا حياة آمنة وحرة لم يعرف مثلها أكثرهم في بلدانهم الأصلية.
الكراهية تقرأ الأدب، والشعر، والأناشيد الوطنية، وتستشهد أحيانا من آيات في كل الكتب المقدسة محرّفة إياها عن مواضعها، وتمارس السياسة، وتختبيء خلف المتحاورين، وتـُخرج لسانها من صناديق الاقتراع، ولها عضوية كاملة في أحزاب تزعم أنها تحب فإذا بالدماء تسيل من أنيابها.
الكراهية عنف وقسوة ورغبة في الانتقام، وتستمد شرعيتها من البلهاء والحمقى الذين يـُصّدقون أن رسالة الإنسان ورثها عن قابيل، وكاليجولا، ونيرون، وهولاكو، وأن مانيفستو حقوق الإنسان الابن المتبنـَّىَ من محاكم التفتيش في كل البلاد و .. العصور.
النرويج كبرت مع الحادث، ونضجت، ونزعت براءة الثقة بسذاجة في الوطنيين المتطرفين، فهم قتلة حتى لو وقفوا بخشوع أمام اللعبة الديمقراطية، واحترموا ما يجود به عليهم صندوق الانتخاب.
والنرويج كبرت، وازدادت قوة ومنعة وحصانة مع تماسك أهلها، من الملك مرورا بالحكومة إلى أقل المواطنين شأنا رغم أنه مجتمع يساوي بين الجميع قدر الإمكان.
مهمتنا جميعا أن نحافظ على سلامة وأمن هذا الوطن الذي حقق لنا ما لم تستطع أوطاننا أن تفعله، وأن نقف مع النرويجيين في المصائب قبل الأفراح، وأن نـُعزي أنفسنا في ضحاياهم قبل أن نـُعزيهم، وأن نقول لهم من القلب بأننا جميعا نرويجيون.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 25 يوليو 2011
Taeralshmal@gmail.com