ربما لم يُشارك د. جودة عبدالخالق طوال حياته المهنية فى تأسيس أى مُنظمة تطوعية من تلكم التى يتكون منها المجتمع المدنى. ومع ذلك شاء القدر وحده أن يأتى به وزيراً للتضامن الاجتماعى، مسؤولاً عن التموين وتوفير الرعاية الاجتماعية. فليته يتفرغ لشؤون التموين وتوفير الحاجات الأساسية للأربعين فى المائة من شعب مصر، الذين تقول لنا تقارير التنمية البشرية إنهم يعيشون تحت خط الفقر، بدلاً من أن يشغل نفسه بمعركة خاسرة وهى مُحاولة السيطرة على مقاليد الجمعيات التى يصل عددها إلى حوالى ثلاثين ألف جمعية.
ويبدو أنه لا بد من إعادة تعليم كل وزير يأتى به القدر إلى تلك الوزارة، التى كان اسمها الذى أعطاه لها أول وزير لها، وهو عبدالسلام الشاذلى باشا، وزارة الشؤون الاجتماعية فى أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، وضمت وقتها مصالح الفلاح، والساحات الرياضية، والثقافة الشعبية، والمبرّات الخيرية. وقد استقلت المصالح الثلاث الأولى، خلال الستين سنة التالية، وأصبح لكل منها وزارة مستقلة.
ولأن بيروقراطيى تلك المصالح بقوا فى الدور السادس من مبنى مُجمع التحرير، وفى مبناها العتيق ضمن الدواوين بشارع محمد محمود، وأنهم ظلوا يتفنّنون فى كيفية السيطرة على النشاط الأهلى التطوعى. وسال لُعاب بعضهم لما تصوروا أنه بقرة حلوب، وهو ما يُسمى التمويل الأجنبى. فهم، شأنهم شأن وزيرة التعاون الدولى، التى لا يبدو أنه لا عمل لها ذا معنى أو ذا جدوى. فجعلوا من «التمويل الأجنبى» شغلهم الشاغل، وكأنه «قميص عثمان»!
إن الجدل المُفتعل حول التمويل الأجنبى يقوم على أسس أو افتراضات واهية، منها:
١ـ أن القائمين على شؤون الجمعيات الأهلية، والذين يتطوعون بأوقاتهم وجزء من أموالهم الخاصة، للخدمة العامة، هم أقل وطنية وغيرة على مصلحة الوطنية من موظفى الوزارة، أو جهاز مباحث أمن الدولة، الذى كان يتحكم فى كل الوزارات، وثبت فساده، ولذلك كان أول ما استهدفه ثوار التحرير بالحرق والتدمير.
٢ـ نعم، لم يكن يتم تسجيل أى جمعية جديدة إلا بعد موافقة مكتوبة وعليها «ختم النسر» العتيد، من عدة جهات، آخرها وأهمها هو جهاز «مباحث أمن الدولة»، سيئ السُمعة. وللأمانة، بدأت هذه المُمارسة عام ١٩٦٤ سيئ بواسطة حكومة ثورة يوليو ١٩٥٢، وكاستكمال للسيطرة الكاملة على السياسة، والاقتصاد، والاجتماع فى مصر. وربما كان هناك ما يُبرر ذلك فى البداية - حيث إن الدولة أخذت على عاتقها إدارة كل شىء.
فقد حلّت الأحزاب السياسية (١٩٥٥)، ثم أمّمت الاقتصاد (قوانين الإصلاح الزراعى ١٩٥٣، وتمصير الشركات الأجنبية ١٩٥٦، ثم تأميم الأنشطة الاقتصادية الرئيسية)، وأخيراً، حاولت السيطرة على المجتمع نفسه، باستحداث قانون يُفعّل ذلك (وهو القانون رقم ٣٢ لسنة ١٩٦٤).
٣ـ يتصور الجهاز الأمنى البيروقراطى أن «الخارج» هو مؤامرة كُبرى تتربص بمصر وبشعبها، وبالتالى فعليه أن يسدّ كل المنافذ التى يُمكن أن يتسرب منها هذا «الخارج». ولكن هذا الجهاز نفسه يتعامل مع الخارج إعلامياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وثقافياً. أى أنه لا يتشطر ولا يستأسد إلا على «المجتمع».
ونسى هذا الجهاز أن آخر تجلياته، ومنها وزارة د.عصام شرف، ووزير تضامنها د.جودة عبدالخالق، ما كان لهم أن يكونوا فى مواقعهم الحالية، لولا ثورة أهلية، بدأت يوم الثلاثاء ٢٥ يناير ٢٠١١. ولم يكن بين هؤلاء الثوّار أى وزير، أو أى بيروقراطى لا من وزارة الداخلية، ولا من وزارة التضامن الاجتماعى، ولا من وزارة الإعلام، أو من أى جهاز حكومى آخر. كما لم يكن مَن قاموا بتلك الثورة مدفوعين أو مدفوعا لهم من الخارج، رغم محاولة خائبة من آل مُبارك بأن يدّعوا ذلك، ولم يُصدّقهم أحد. وكانت أحد تفاهاتهم أن الثوّار المُعتصمين فى التحرير يتناولون وجبات «كنتاكى» و«ماكدونالدز». وبما أن تلك منافذ لشركات أطعمة أمريكية مُتخصصة فى الوجبات السريعة، فلا بد أن فى الأمر «مؤامرة خارجية»!
المهم أننا نعتقد أن د. جودة عبدالخالق أعقل من أن ينساق فى موكب غوغائية اليسار الذى يعتقد أن «المجتمع المدنى» بدعة، صرّفت الجماهير الكادحة عن حزب «التجمع»، كما جهر بذلك ذات يوم رئيسه د.رفعت السعيد، فى صحيفته «الأهالى». وذلك بدلاً من أن يقوم بتجديد خطأ ومُمارسات اليسار.
فهو يبحث عن كباش فداء لأزمة الحزب الذى بدأ بعضوية تجاوزت المليون فى أواخر سبعينيات القرن الماضى، وظلّت تتضاءل إلى أن انخفضت إلى أقل من مائة ألف بعد رُبع قرن. إن الاعتقاد بأن المجتمع المدنى هو سبب اضمحلال اليسار فى مصر، هو جهل أو تجاهل بأن أزمة يسارهم هى جزء من أزمة اليسار عالمياً، وهى الأزمة التى وصلت مُنتهاها مع جورباتشوف، وتتزامن مع سقوط الاتحاد السوفيتى نفسه نهائياً عام ١٩٩٠.
وليس السبب فى ذلك السقوط المُدوى هو المجتمع المدنى. فليترك الوزير جودة عبدالخالق المجتمع المدنى المصرى وشأنه. وليعلم جودة عبدالخالق أن البذور الجينية للمجتمع المدنى الحديث فى مصر تعود إلى عام ١٨٤٠ أى قبل ولادة الماركسية بعشرين عاماً، وقبل ولادة الاتحاد السوفيتى بسبعة وسبعين عاماً (١٩١٧). لقد كان ذلك (١٨٤٠) وهو تاريخ إنشاء الجمعية المصرية الهيلينية، بواسطة اليونانيين فى الإسكندرية.
وسرعان ما قام بقية المصريين بمُحاكاتهم، وكانت جمعيات أهلية مصرية هى التى شيّدت كل الصروح الطبية (مثل مستشفى المواساة بالإسكندرية)، والتعليمية، ومنها الجامعة المصرية بالقاهرة التى أصبحت جامعة فؤاد الأول، ثم جامعة القاهرة، التى تخرّج منها جودة عبدالخالق نفسه قبل ثلاثين عاماً.
ثم إن هناك حُكما من محكمة النقض يؤكد حق المجتمع المدنى فى تلقى أى منح أجنبية أسوة بالحكومة نفسها، ما دام الأمر يخضع للشفافية. فإذا كان وزير التضامن لم يكن يعلم ذلك التاريخ من قبل، فليعلمه الآن. ولعله يقتنع بأن يترك الجمعيات الأهلية وشأنها. وربما يُلهمه أن يسعى لمُقابلة السيدة/ عزيزة حسين، الناشطة الاجتماعية، أرملة الناشط والزعيم الثورى أحمد حسين، صاحب المشروع الوطنى الذى عُرف باسم «مشروع القرش» فى ثلاثينيات القرن العشرين، والتى كانت رفيقة ذلك الرائد الاجتماعى على امتداد نصف قرن. وهى بالمناسبة من سُكّان حى المعادى الذى يسكنه الوزير. بل ربما يكون شرفاً له ولوزارته أن يُكرّمها، وقد تجاوزت التسعين منذ أيام. ورغم ذلك فهى لم تتوقف عن العطاء. فهذا هو حال التقاليد التطوعية الأصيلة، التى هى العمود الفقرى لأى «تضامن اجتماعى».
اللهم قد بلغت، اللهم فأشهد.