(1 ) تذكير بأهم تشريعات الاسلام فى الزكاة المالية
الفصل الختامى فى موضوع الزكاة :

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٨ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة

الزكاة هى الوجه الاجتماعي للإسلام، وهى إحدى الوسائل الإسلامية في إقامة المجتمع الفاضل وفي إقامة النفس "الزكية" في داخل كل إنسان ، فللزكاة دور اقتصادي إجتماعي كما أن لها دوراً أخلاقياً نفسياً ، والمسلم الذي يحرص على تأدية الزكاة وعلى تزكية النفس وتطهيرها دائماً يتسائل عن مقدار الزكاة الواجب عليه إخراجه ومتى يخرج زكاته وما الفرق بين الزكاة والصدقة والإنفاق. والفقهاء في تاريخ المسلمين إجتهدوا في الإجابة على هذه الأسئلة باختراع أحاديث واصدار أحكام إمتلأ بها باب الزكاة في الفقه. ولأن الزكاة أكثر أبواب الفقه ارتباطاً بحركة المجتمع ودرجة تطوره فإن الكتابات عن الزكاة وتطبيقاتها تعبر دائماً عن العصر الذي تكتب فيه، ومن يحاول في عصرنا أن يقرأ عن الزكاة ومقدارها في كتب التراث سيفاجأ بمكاييل وموازين وعملات وعبارات وإصطلاحات لم تعد معروفة في عصرنا ، كما أن مفردات حياتنا العصرية الاقتصادية والمالية  لن نجد حكماً فقهيا في كتب التراث، هذا بالإضافة إلى ما إمتلأت به كتب الفقه من اختلافات وتفريعات واستطرادات وتعقيدات لا يصبر عليها القاريء المتعجل الذي يبحث عن الإجابة العملية العصرية لأسئلته. وقد سبقت حلقات فى سلسلة مقالات الزكاة ، وكان التركيز فيها اكثر على الجانب الخلقى و التربوى و الايمانى فى موضوع الزكاة باعتبارها تزكية وسمو بالنفس المؤمنة ، ثم تأتى تزكية المال أو الصدقة احدى عناصر هذه التزكية . ونختم كتاب الزكاة بهذا الفصل الذى يتجول مع قضايا متفرقة عن الزكاة المالية او الصدقة ، ونبدأ فى هذا الجزء بالتأكيد على بعض ما سبق من أحكام الزكاة المالية لمجرد التذكير . 

أولا :  مقدار الزكاة

1 ـ يلفت النظر أن القرآن حدد النصاب في الميراث بالنصف والثلثين والثلث والربع والسدس والثمن، وجعل ذلك من حدود وحذر من يتعداها بالخلود في النار "4/12 :14 " ويلفت النظر أيضا أن القرآن حدد نسبة النصف من الصداق للمطلقة قبل الدخول بها "2/ 237 " ، وفي نفس الوقت فإن التحديد الصارم لمقدار الزكاة أو الصدقة لم يأت في القرآن الكريم، والسبب أن الميراث وحقوق المطلقة من حقوق البشر التي لابد من تحديدها بالدقة منعاً للخلاف بين الناس، أما الإنفاق في سبيل الله فهو تعامل خاص بين الله تعالى والعبد ويعود نفعه على المجتمع، لذا اكتفى القرآن فيه بالضوابط دون تحديد نسبة ليتيح الفرصة للتسابق في الخير ولينمي في نفس المؤمن عوامل التقوى ومحاسبة النفس والضمير، أو أن يتمكن المؤمن من "تزكية نفسه" وذلك هو هدف الزكاة ومعناها.  ثم إن المؤمن في نهاية الأمر هو الأدرى بحقيقة الدخل الذي يأتيه وهو أعلم من غيره من البشر بحدود إمكاناته ومدى الضروري في استهلاكه ومدى ما يستطيع الإنفاق به في سبيل الله ، ومتى ينفق ومتى يؤثر على نفسه والوقت الأنسب والمقدار الأمثل ، إلى آخر تلك التفصيلات الدقيقة شديدة الخصوصية في أحواله المادية والعائلية والإجتماعية والتي لا يطلع عليها إلا المولى الأعظم سبحانه وتعالى . وإذا كان الانسان يستطيع أن يخدع مصلحة الضرائب ـ وأحياناً ـ ما يفعل برغم تحديد النسب الثابتة فيها ـ فإنه لايستطيع أن يخدع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمؤمن يعلم أن ربه تعالى يراه ويعلم خباياه ويكافئه إذا تصدق ويعاقبه إذا بخل وأمسك. من هنا كان الأنسب هو الضوابط التقريبية لا الحدود الثابتة.

2 وجدير بالذكر أن القرآن بينما يحدد النسب الصارمة في الميراث فإنه يترك المجال مفتوحاً أمام إجتهاد المؤمن في الخير في موضوع الوصية عند الموت، فالقرآن يجعل الوصية عند الموت حقاً مكتوباً على المتقين إلا أن مقدارها يخضع للمتعارف عليه وبتقدير الموصي نفسه مع مراقبة المحيطين به حتى لايحدث إجحاف في الوصية، والهدف هنا أن الوصية تعامل قبيل الموت بين الموصي وربه، ولذلك فيه مجال مفتوح للخير بينما تظل باقي التركة خاضعة للنسب المقررة في الميراث من النصف والربع والثمن. وبذلك دخلت الوصية في مجال التقدير دون التحديد ، شأنها شأن الصدقة، ودليلنا أن الوصية لها مستحقوها الذين أوصى القرآن إعطاءهم الصدقة، فالله تعالى يقول عن الصدقة الفردية "( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215 )، فالصدقة الفردية للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، ويقول تعالى عن الوصية: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ( البقرة 180 ) ، فالوصية هنا أيضاً للوالدين والأقربين ، والصدقة والوصية بالمعروف الذي يخضع للضوابط وليس بالنسب الثابتة المحددة.

3ـ   وكيف يحدد القرآن نسبة محددة للصدقة والزكاة وهو يدعو المؤمنين للتسابق في الإنفاق في سبيل الله؟..يقول تعالى "( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ   ) ( البقرة 245 ) (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ  ) ( الحديد 11 ) ،  ويقول تعالى في المسارعة إلى الخير "( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ( آل عمران 133 : 134 ) فهنا دعوة للتسابق والمسارعة للزكاة والصدقة في كل حال من اليسر والعسر. والله تعالى وهو الغني عن العالمين يجعل الصدقة قرضاً ويقول لنا :(مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا )!! .  وحيث يوجد هذا الأسلوب فلا يمكن أن تتخيل وجود نسبة محددة. فالتسابق في الخير ينفي وجود النسبة الثابتة

4 ـ  القرآن لم يحدد نسبة في الزكاة ومع ذلك يقول:( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج 24 : 25 )   فكيف يكون هناك حق معلوم دون تحديد نسبة ؟ ـ نقول : العبادات كلها وسائل للتقوى، ينطبق ذلك على الصلاة والصيام والحج كما ينطبق على الزكاة التي تهدف إلى السمو بالنفس وتزكيتها ، وذلك يكون بالتعاون المباشر مع الله تعالى ومحاسبة النفس على ما تنفق وعلى ما يأتيها من رزق وعلى ما ينبغي إخراجه من ذلك الرزق لوجه الله،  و المؤمن يعلم أن الله مطلع عليه وإنه لاملجأ من الله إلا إليه.. وبذلك يتربى المؤمن على تقوى الله ويتحقق الهدف من فريضية الزكاة ، وأساسها التسابق في رضى الله . والمؤمن يعتيبر الزكاة حقاً عليه للمستحقين وهذا ما حرص القرآن على تأكيده فيقول تعالى ": (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) ( الانعام 141 )، ويقول تعالى عن حقوق الأقارب والمسكين وابن السبيل " (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) ( الاسراء 26 ) ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( الروم 38 ) ، إذا هو حق له في مالك وأنت مدين لهم بذلك الحق . وللسائل والمحروم أيضاً حقوق في مالك ": (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( الذاريات 19 ) . والمؤمن طالما عرف أن عليه حقاً للمحتاجين والسائلين وأولي القربى كان عليه أن يضع بنفسه النسبة الملائمة لظروفه الثابتة والمتغيرة وحسب احتياجه ودخله ، وأيضا حسب حاجة المحتاجين حوله ، ثم لابد أن يلتزم بأداء ذلك الحق الذي عليه لهم حتى يكون  ذلك الحق شيئا معلوما له كلما جاءه رزق ،  وحينئذ ينطبق عليه قوله تعالى :( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج 24 : 25  ) . وحين يحدد المؤمن بينه وبين ربه تعالى حقاً يكون معلوماً لديه فإنه بذلك يتعامل مع الله مباشرة ويحتل مرتبة المتقين المحسنين ، وهنا يتحقق المراد من الزكاة ، زكاة النفس وتطهيرها وسموها.

5 ـ وهنا تتجلى حكمة القرآن في وضع الضوابط القائمة على الاعتدال والتوسط ، سواء كانت الزكاة التي تأخذها الدولة أو كانت الصدقة الفردية التي يحددها المؤمن بينه وبين ربه ويكون ذلك التحديد معلوماً له وحقاً عليه واجب التأدية. وقد كانوا يسألون النبي عليه السلام عن تحديد  نسبة الزكاة والصدقة فنزل قوله تعالى" (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ )(البقرة 219). والعفو هو الزائد عن الحاجة ، أى ما يفيض ويزيد عن حاجاتك الضرورية تنفقه صدقة . والمرجعية هنا فى تحديد العفو هو التقوى ورغبة المؤمن فى تزكية نفسه عن طريق الانفاق فى سبيل الله فى صدقة فردية او رسمية أو تعضيد جهاد سلمى فى سبيل الرحمن جل وعلا. فهو الذى يحدد نفقته بالتوسط وعدم الاسراف ، وهو الذى يحدد الضرورى وما هو كماليات يمكن الاستغناء عنه ، بل هو الذى يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة او فقر ، مراعيا لظروف استثنائية يمر بها وطنه او أحد مستحق الصدقة ، وهو فى كل ما يعمل من إحسان يبغى به وجه الله جل وعلا دون أدنى قدر من الرياء و المنّ والأذى .

ولا يحسبن أن ماله سينقص من هذه الصدقة بل سيزيد، لأن الله تعالى سيبارك له في ماله وسيعوض عليه خيراً فيما أنفق، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )( سبأ 39 ). وهناك من الرزق الخفي ما هو أعظم من الرزق الظاهر ، مثل نجاح الأولاد وتوفيقهم في الحياة، وتمتع الوالدين والأسرة بصحة جيدة ونجاتهم من الكوارث التي قد يتعرض لها الآخرون ممن يبخلون، وهو حين يقدم الصدقة من ذلك الربح الصافي الفائض عن حاجته فإنه يصنع بهذا الفائض أعلى استثمار عند رب العزة القائل"( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً  ) ( البقرة 245)" أي تصل نسبة الربح هنا إلى 700% ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )(البقرة 261) .

ثانيا : من هم مستحقو الزكاة في السجلات الرسمية وفى الصدقة الفردية ؟

يقول تعالى عن صنف من المنافقين كان يطمع في أخذ الصدقة الرسمية ـ الزكاة ـ من النبي دون ان يكون مستحقاً :(وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) ثم بينت الآية التالية (التوبة  58 : 60)مستحقي الصدقة الرسمية (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وهم :

الفقير : وهو المحتاج الذي لا يكفيه دخله في إشباع حاجاته المختلفة من الضوريات تبعاً للعرف السائد ، وتقوم السلطات المختصة بتحديد الحد الأدنى للمعيشة والدخل، والذي يعني الفقر والاحتياج . وعلى أساسه تعطي الفقراء الدعم من الزكاة الرسمية.

المسكين : هو المحتاج للطعام وهو أول حاجات الانسان الطبيعية، لذا يرتبط المسكين في حديث القرآن بالذلة وبحاجته للطعام، وقد حث القرآن على إطعام المسكين. وللمسكين حق في الزكاة الرسمية ويمكن للدولة أن تنظم حصوله على هذا الحق بالمطاعم المجانية  أو كوبونات الطعام وغير ذلك .

العاملون على الصدقة وهم الموظفون القائمون على جمعها من الناس ويأخذون مرتباتهم من الإيراد.وتحدده الدولة حسب الظروف.

المؤلفة قلوبهم : هم من ترى الدولة الاسلامية اجتذابهم لصفها من الداخل أو الخارج ، وهو دليل على أن الدعوة للإسلام لا إكراه فيها ولكن بالترغيب والاستمالة .

في الرقاب : أي عتق العبيد إذا كان هناك رقيق .

وفي سبيل الله أي في تدعيم الدعوة في سبيل الله وفي الجهاد والإعداد له .

ابن السبيل : أى المسافر الغريب الذي لايجد المأوى ، فمن حقه على المجتمع المسلم أن يأويه في غربته، ومن أموال الزكاة تقيم لهم الدولة فنادق وتنظم الإقامة فيها لأبناء السبيل.

والغارمون : الذين يتحملون عن المدين المعسر دينه.

أما فى الصدقة الفردية فقد جاءت فى قوله جل وعلا : "( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215 )، أى للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل، فى المحيط الذى يتعامل معه المؤمن ، فى العمل و الأسرة و السكن و الجيرة .

ثالثا : هل للفقير غير المسلم أن يأخذ من زكاة المسلمين؟

نعم . فالآية اكتفت بوصف الفقير بأنه فقير وكذلك المسكين بغض النظر عن الدين و الملة. واقع الأمر أن الدولة الاسلامية يكون أفرادها مسالمون أى مسلمون بمعنى الاسلام الظاهرى الذى يعنى المسالمة ، ويكون أفرادها مؤمنين بمعنى الايمان الظاهرى وهو إيثار الأمن والأمان وان يكون المؤمن مأمون الجانب لا يؤذى أحدا. وبعد هذا ، فالايمان الحقيقى والاسلام الحقيقى الذى يعنى اخلاص الدين لله ، وما يناقضه وهو الشرك العقيدى واتخاذ اولياء وارباب ـ كل هذا مرجعه الى الله جل وعلا ليحكم بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون فى الدنيا . الخارج عن الدولة الاسلامية هو الكافر المشرك سلوكيا أى المعتدى الظالم الذى يستخدم دين الله بالتحريف لقتل الناس وارهابهم كما يفعل الارهابيون المنتمون ـ كذبا ـ  للاسلام. الأصناف الثمانية لايشترط فيهم أن يكونوا مسلمين بالبطاقة الشخصية ليستحقوا الصدقة الرسمية من الدولة المسلمة، لا يهم إن كان مسلما بالهوية أو مسيحيا أو يهوديا أو ملحدا ، يكفى أن يكون مسالما ليستحق الانتماء الى الدولة الاسلامية التى من واجبها أن تضمن له حرية الفكر و المعتقد والدين والشعائر بدون حد أعلى . وإن كان فقيرا او مسكينا أو من أى صنف من مستحقى الصدقة الرسمية فلا بد من حصوله على حقه فيها .وذلك أصل من أصول دين الله تعالى ، فالله تعالى يقول في مستحقي الصدقة: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )( البقرة 272). أى أن الذى يتصدق ليس له أن يفتش عن تقوى الفقير أو عن دين المسكين أو ملة عابر السبيل ، فليس عليه هدايتهم ولكن الذى عليه أن يعطيهم حقوقهم فى زكاة ماله.وينطبق هذا على الصدقة الفردية ، فالمؤمن يؤدي الصدقة للفقير والمسكين مهما كان دينه ومهما كانت جنسيته فيكفيه أنه فقير ومسكين ليأخذ حقه الذي فرضه الله تعالى في مال الغني .

والله تعالى يرزق المؤمن والكافر، بل يرزق كل دابة ، وحين دعا إبراهيم ربه أن يرزق المؤمنين قائلا: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) "   ردّ عليه رب العزة :( قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )( البقرة 126). ونتعلم من هذا أن ندعو الله أن يرزق كل محتاج بغض النظر عن دينه ومعتقده وأن نعطي الصدقة لكل محتاج بغض النظر عن لونه ومذهبه ومنهجه ، فالفقر جنسية في حد ذاته وللفقير حق في مال الغني سواء كان على دين الغني أم لا .

رابعا :  : ذلك الذي يبخل ولايخرج الزكاة  والصدقة .. ماذا تكون عقوبته ؟( حدود الالزام فى الزكاة )ـ

1 ـ الذي يمتنع عن تقديم الصدقة فالله تعالى هو الذي يتولى عقابه في الدنيا قبل الآخرة ، وقد جاء ذلكفي القرآن الكريم ونحن نلمسه في حياتنا العملية واقعاً حياً ، فالمنافقون في عهد النبي عليه السلام كانوا يبخلون عن الإنفاق في سبيل الله فقال عنهم القرآن (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ)(التوبة 67 ). إذن كانوا يقبضون أيديهم عن الصدقة ، هذا مع أنهم كانت لهم أموال ، وقد حذر الله تعالى من الإعجاب بأموالهم وأولادهم وأنذر بأن عقوبتهم ستكون من خلال أموالهم وأولادهم وذلك في الدنيا ، فقال تعالى "( فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) ، وتكرر نفس الإنذار والتحذير في قوله تعالى (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )( التوبة 55 ، 85 ) . أي أنهم لن يجنوا من بخلهم إلا أن تصير أموالهم وأولادهم عليهم وبالاً وعذاباً ، يسهم المال في إفساد الأولاد وينتهي المال إلى زوال وينتهي الأولاد إلى خبال.

2 ـ الزكاة المالية  ـ كما قلنا وفصّلنا فى حلقات سبقت ـ هى لتزكية النفس للفوز بالجنة ، لذا لا بد أن تكون بدافع ذاتى من ذلك الذى يؤمن بالله جل وعلا و اليوم الآخر ، ويؤمن بيوم الحساب ويستعد له بتزكية نفسه بالأخلاق الحميدة وبتزكية ماله بالصدقة التى  يقدمها عن طيب خاطر ليفوز بالجنة .   نحن هنا نتكلم عن حق الله جل وعلا الذى سيسائلنا عليه يوم القيامة . أما حقوق البشر وحق المجتمع فإن للمجتمع أن يفرض فريضة وأن يأخذ الزكاة الرسمية ـ وتكون قرارته شرعية اسلامية إذا كانت الدولة اسلامية ،اى تقوم من البداية على عقد اتفاق بين الأفراد وعلى أساسه يقوم نظام حقوقى يحصر وظيفة الدولة فى حفظ حقوق الفرد فى الحياة وحقه المطلق فى الدين والفكر والمعتقد وحقه فى حرية السعى فى الرزق وفى الأمن وفى العدل ، دون ضرر أو إضرار بالآخرين أو إفتئات على حقوق المجتمع الذى يعنى بقية الأفراد. هذه الدولة الاسلامية من حقها أن تفرض ضرائب عبر ممثلى الشعب ، لكى تقوم بالأعباء المطلوبة منها . ولكن فرض ضرائب لا يكون إلا بموافقة ممثلى الشعب ، وهم الذين يكونون امناء على موارد الدولة أو بيت المال ، ومنه يعطون التمويل للسلطة التنفيذية ويراقبون أداءها ويحاسيبون أفرادها وقد يعزلونهم او يحاكمونهم لو إقتضى الأمر. وبالموافقة على هذا القرار بفرض ضريبة أو غيره يكون ملزما وقانوا واجب الاتباع ، ويعطى للدولة حق انتزاع حقوق المجتمع ممن يرفض دفعها ، ويعطيها حق عقوبة من يسرق حق الدولة .

لم يحدث هذا فى الدولة الاسلامية فى عهد خاتم النبيين عليهم السلام ـ إذ كان السائد هو التطوع بلا إلزام ، وكان بعض المنافقين يمسك يده عن اعطاء الصدقة وبعضهم يعطيها رياء ، وبعضهم يعطى مرة و يبخل مرة ومرات ، وكانت عقوبتهم سلبية ، هى حرمانهم من حق التبرع،أو عدم قبول تبرعاتهم وصدقاتهم ، يقول جل وعلا : ( قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) ( التوبة53 : 54  ).

3 ـ وفى كل ما نزل فى القرآن من عتاب للنبى محمد عليه السلام ، لم يحدث على الاطلاق أى عتاب له يخص المعاملات المالية ، ولقد كان القائد الذى يأخذ الصدقات التطوعية ممن أذنب ويريد التوبة : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ( التوبة 102 ـ 104 ). وقد حذّره ربه جل وعلا مقدما فقال:( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )( آل عمران  161)، وكان عليه السلام مع المؤمنين الصادقين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله ، عكس المنافقين ، وشهد رب العزة له عليه السلام ولأصحابه المؤمنين الحقيقيين فقال:(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( التوبة 88 ).

اجمالي القراءات 22378