أئمة السّلفيين هم سبب تأخر المسلمين

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٥ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

أولا : حتى نهاية العصر الأموى لم تكن هناك حركة علمية تذكر؛ كانت هناك مجالس علم متفرقة تروى شفهيا تاريخ النبى عليه السلام ووقائع الفتوحات والفتنة الكبرى بين على ومعاوية وما تلاها. فى الفتنة الكبرى الحروب الأهلية استخدم معاوية أبا هريرة فى التشنيع على (على بن أبى طالب ) بصنع أحاديث ينسبها للنبى عليه السلام. واستحدث معاوية وظيفة القصّاص (مثل وزارة الاعلام فى عصرنا )،فكان يجلس القاصّ بعد الصلاة ليحكى للناس ويخلط اقاصيصه بالتشنيع على (على ) وشيعته ومدح معاوية وآله ، بل إن معاوية فرض لعن (على ) فى خطبة الجمعة وصارت تقليدا استمر طيلة العصر الأموى لم ينقطع إلا فى خلافة عمر بن عبد العزيز. هذه الدعاية الأموية ضد (على ) والتى واكبت الحروب المسلحة بينهما قوبلت من الشيعة بحرب دعائية أخرى من خلال السبئية الأولى التى زعمت تأليه (على ) وأرست تقديس (على ) وبنيه وعصمتهم وحقهم المقدس فى الخلافة والامامة ، مع تكفير أبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو والزبير و أبى هريرة وفق معتقد الشيعة حتى الآن فى (التولى) لعلى وبنيه و(التبرى) من خصومه السياسيين من كبار الصحابة.إذن دارت بدايات الحركة العلمية فى العصر الأموى على الروايات الشفهية ووضع أحاديث لأغراض سياسية صاحبت الحروب الأهلية بين الصحابة ،أو ما يعرف بالفتنة الكبرى.  أى إنه منذ البداية تأسس الفكر السّنى على محورين خلط الدين بالسياسة و الكذب على خاتم النبيين ، وجعل تلك الأكاذيب ـ فيما بعد ـ وحيا الاهيا تحت اسم السّنة ، والتى أرست فيما بعد ما يعرف بالثقافة السمعية،   أى إن فلانا سمع هذا الحديث من فلان  ويروى هذا الحديث عن فلان .

 

ثانيا : توطيد الخلافة العباسية أتاح للمسلمين التعرف على منهج علمى جديد يعتمد على الفكر ثم التجربة .  فقد إنفتح  العرب والمسلمون على مدارس الفكر اليونانى فى مدن انطاكية والرها و نصيبين وحران والاسكندرية . وتم تعريب المصادر اليونانية وقامت عليها حركة علمية حقيقية احترفت التدوين وركزت على الفلسفة بمفهومها العام وقتئذ ، اى الفلسفة العقلية والطب والعلوم الطبيعية وماوراء الطبيعة مع علوم الشرع. وانتجت هذه الحركة العلمية علماء تفخر بهم الحضارة الاسلامية، نذكر منهم :

1 ـ جابر بن حيان ( 117 هـ/ 737م ).إشتهر بالإيمان والورع وقد أطلق عليه  ألقاب "الأستاذ الكبير" و"شيخ الكيميائيين المسلمين" و"أبو الكيمياء" و"القديس السامي التصوف" و"ملك الهند". وعرف عند الأوربيين في القرون الوسطىباسم Geber.  مارس جابر الطب في بداية حياته تحت رعاية الوزير جعفر البرمكي أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد.

2 ـ الكندي(185 هـ- 256 هـ/ 805- 873) ويعرف عند اللاتينيين باسم Alkindus. فيلسوف عراقي عربي قحطاني مسلم. وعالم موسوعي في الفلك و الكيمياء و الفيزياء و الطب و الرياضيات و الموسيقى و علم النفس و المنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام آنذاك. كان من أول الفلاسفة المسلمين المتجولين. أشتهر بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية والفارسية. كان رائدا في الكيمياء والفيزياء والموسيقى والرياضيات وعلم النفس .

3 ـ الفارابي (874ـ  950م )  إشتهر بإتقان العلوم الفلسفة والموسيقى وصناعة الطب. يعود الفضل اليه في ادخال مفهوم الفراغإلى علم الفيزياء. تأثر به كل من ابن سيناوابن رشد.

4 ـ وقد عاش موسى بن شاكر في بغداد زمن الخليفة العباسي المأمون، وكان من المقربين من الخليفة، وقد اهتم بالفلك والتنجيم. وعندما توفي موسى بن شاكر، ترك أولاده الثلاثة صغاراً فرعاهم المأمون، ونشأ بنو موسى في هذا الوسط العلمي وأصبحوا أبرز علماء بيت الحكمة. اشتهر أبناء موسى بن شاكر( محمد وأحمد والحسن ) بتكوين فريق علمى ، وقد كان أكبرهم محمد عالماً بالهندسة والنجوم و"المجسطي"؛ وكان أحمد متعمقاً في صناعة الحيل (الهندسة الميكانيكية) وأجاد فيها، وتمكن من الابتكار فيه؛ أما الحسن فكان متعمقاً في الهندسة.كتب بنو موسى في الهندسة والمساحةوالمخروطات، والفلك، والميكانيكا، والرياضيات. ومن مؤلفاتهم: "كتاب الحيل"، وهو أشهر كتبهم، جمعوا فيه علم الميكانيكا القديمة، وتجاربهم الخاصة.

5 ـ ومثلهم الأطباء من آل بختيشوع ، وهم أسرةنبغ أفرادها فى الطب  وخدموا الخلفاء العباسيين ثلاثة قرون. أولهم جورجيوس بن بختيشوع، اشتغل في التصنيف في الطب، ورأس بيمارستانجنديسابور، وقد استقدمه الخليفة المنصور عام 765 م إلى بغداد لمعالجته وجعله طبيباً له، ثم خلفه ابنه بختيشوعفي رئاسة بيمارستانجنديسابور، واشتهر أيضاً جبرائيل وبختيشوعوابنه عبدالله بن بختيشوع، ثم جبرائيل بن عبد الله، وهم من الطائفة المسيحية العربية(السريانية) المهاجرة إلى فارس قبيل الفتح الإسلامي، هرباً من اضطهاد بيزنطة.

6 ـ وحُنَيْن بن إسحق العِبَادي عالم ومترجم وعالم لغات وطبيب مسيحينسطوري. أصله من الحيرةولد عام 194 هـ/ 810م، لأب مسيحي يشتغل بالصيدلة. وهو مؤرخ ومترجم ويعد من كبار المترجمين في ذلك العصر، وكان يجيد - بالإضافة للعربية - السريانية والفارسية واليونانية. قام بترجمة أعمال جالينوسوأبقراطوأرسطووالعهد القديممن اليونانية، وقد حفظت بعض ترجماته أعمال جالينوسوغيره من الضياع.ينتمي حنين إلى قبيلة العبادي النصرانية. تعلم اليونانية والبيزنطية ودرس الطب في بغداد، وبرز حنين بشكل خاص في الترجمة حيث استطاع ترجمة كتب جالينوسوتعليقاته على كتب أبقراط،كما قام بتصحيح الكثير من الترجمات المعيوبة والخاطئة.وقد عينه الخليفة العباسيالمأمونمسؤولا عن بيت الحكمةوديوان الترجمة، وكان يعطيه بعض الذهب مقابل ما يترجمه إلى العربية من الكتب. ورحل كثيرًا إلى فارس وبلاد الروم وعاصر تسعة من الخلفاء، وله العديد من الكتب والمترجمات التي تزيد عن المائة، وأصبح المرجع الأكبر للمترجمين جميعًا ورئيسًا لطب العيون، حتى أصبحت مقالاته العشرة في العين، أقدم مؤلف على الطريقة العلمية في طب العيون وأقدم كتاب مدرسي منتظم عرفه تاريخ البحث العلمي في أمراض العين. توفي في سامراء عام 260 هـ/873م. ساعده ابنه إسحاق بن حنينوابن أخته حبيش بن الأعسم.

7 ـ والبيروني في خوارزم(أوزبكستان) عاش بين (973  ـ  1048) وأطلق عليه المستشرقونتسمية بطليموس العرب. تعلم اللغة اليونانيةوالسنسكريتيةخلال رحلاته وكتب باللغة العربيةوالفارسية. كتب البيروني العديد من المؤلفات في مسائل علمية وتاريخية وفلكية وله مساهمات في حساب المثلثات والدائرةوخطوط الطول والعرض، ودوران الأرضوالفرق بين سرعة الضوءوسرعة الصوت، هذا بالإضافة إلى ما كتبه في تاريخ الهند  .اشتهر أيضا بكتاباته عن الصيدلة والأدوية كتب في أواخر حياته كتاباً أسماه "الصيدلة في الطب" وكان الكتاب عن ماهيات الأدوية ومعرفة أسمائها.

8 ـ وبرز ابن سينا (980  ـ  1037م) فى الطبوالفلسفة،عرف باسم الشيخ الرئيس وسماه الغربيون بأمير الأطباء وأبو الطب الحديث ، وقد ألّف 200 كتاب في مواضيع مختلفة، العديد منها يركّز على الفلسفة والطب. ويعد ابن سينا من أول من كتب عن الطبّ في العالم ولقد اتبع نهج أو أسلوب أبقراطوجالينوس. وأشهر أعماله كتاب الشفاءوكتاب القانون في الطب..

9 ـ وابن الهيثم ( 965م1040م) إشتهرباسهاماته الكبيرة في الرياضياتوالبصرياتوالفيزياءوعلم التشريحوعلم الفلكوالهندسةوالطبوطب العيونوالفلسفةوعلم النفسوالإدراك البصري.

10 ـ والرازي (864- 923م)،  هو أحد أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق كما وصفته زجريد هونكهفي كتابها شمس العرب تسطع على الغربحيث ألف كتاب الحاوي في الطبكان يضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925موظل المرجع الرئيس في أوروبا لمدة 400 عام بعد ذلك التاريخ . ودرس الرياضياتوالطبوالفلسفةوالفلكوالكيمياءوالمنطقوالأدب.

11 ـ والخوارزمي عالم الرياضياتوالفلكوالجغرافيا(780 ـ 850م )،اتصل بالخليفة العباسي المأمونورأس بيت الحكمة في بغدادوعهد اليه المأمون برسم خارطة للأرض عمل فيها أكثر من 70 جغرافيا، وله مؤلفات في ، وأهم مؤلفاته كتاب الجبر والمقابلة وقد ترجم الكتاب إلى اللغة اللاتينيةفي سنة 1135موقد دخلت على إثر ذلك كلمات مثل الجبر Algebraوالصفر Zeroإلى اللغات اللاتينية.

12 ـ وابن رشد (1126م- 1198م) هو فيلسوف، وطبيب، وفقيه، وقاضي، وفلكي، وفيزيائي. دافع عن الفلسفة ضد الفقهاء المتعصبين وصحح لفلاسفة سابقين له كابن سيناوالفارابيفي فهم بعض نظريات أفلاطونوأرسطو، وحاول التوفيق بين ارسطو وافلاطون. عمل طبيبا لأبي يعقوبخليفة الموحدينثم قاضياً في قرطبة وفى أشبيلية،وتعرض في آخر حياته لاضطهاد الفقهاء المتعصبين فاتهموه بالكفر فهرب الى مراكشوتوفي فيها.

13 ـ والإدريسي (1100  ـ 1166م). أحد كبار الجغرافيين وصاحب الخريطة المشهورة فى أوربا ، كما أنه كتب في التاريخ والأدب والشعر والنبات. 

14 ـ والزهراوي (936- 1013م)، اسمه في اللغات الأوروبية "Alzahravius" وكنيته إلى Abulcasis. ويعتبر أشهر جراح مسلم في العصور الوسطى، والذي ضمت كتبه خبرات الحضارة الإسلامية وكذلك الحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية من قبله.  وما كتبه الزهراوي في التوليد والجراحة النسائية يعتبر كنزاً ثميناً في علم الطب، إضافة إلى وصف طرق التوليد، وطرق تدبير الولادات العسيرة، وكيفية إخراج المشيمة الملتصقة والحمل خارج الرحم وطرق علاج الإجهاض وابتكر آلة خاصة لاستخراج الجنين الميت، وسبق د. فالشر بنحو 900 سنة في وصف ومعالجة الولادة الحوضية، وهو أول من استعمل آلات خاصة لتوسيع عنق الرحم، وأول من ابتكر آلة خاصة للفحص النسائي لا تزال إلى يومنا هذا.وقبل أن يطوِّر العالم الحديث الحقل الطبي كان كتاب الزهراوي الطبي إلى جانب كتاب ابن سينا، يُعتبر مرجعاً في أوروبا على مدى خمسة قرون، وهي فترة طويلة في تاريخ الطب.

15 ـ وابن النفيس ( 1213 ـ 1288م) عالمموسوعيوطبيبله إسهامات كثيرة في الطب، وهومكتشف الدورة الدموية الصغرى، وأحد رواد علم وظائف الأعضاء في تاريخ الإنسان، حيث وضع نظريات يعتمد عليها العلماء إلى الآن. وعين رئيسًا لأطباءمصر.  ويعتبره كثيرون أعظم فيزيولوجييّالعصور الوسطى.  ظل الغرب يعتمدون على نظريته حول الدورة الدموية، حتى اكتشف ويليام هارفيالدورة الدموية الكبرى.  وقد درس ابن النفيس أيضًا الفقهالشافعي، كما كتب العديد من الأعمال في الفلسفة، وكان مهتما بشكل خاص بالتفسير العقلانيللوحي. وخلافًا لبعض معاصريه والسلف، اعتمد ابن النفيس على العقل في تفسير نصوص القرآن  كما درس اللغةوالمنطقوالأدب.

16 ـ وموسى بن ميمون ( 1135–  1204) اشتهر عند العرب بلقب الرئيس موسى.  وُلِد في قرطبةتوفى في القاهرة، واشتهر بأنه أهم شخصية يهوديةخلال العصور الوسطى. وله تصانيف شهيرة مكتوبة باللغة العبرانية. وله في اللغة العربيةكتاب "دلالة الحائرين"  وكتاب الشرائع ومقالة في تدبير الصحة وكتاب فصول في علم الطب .وهرب موسى بن ميمون من تعصب سلاطين الموحدين فيالأندلس، إلى القاهرة حيث إحتضنه صلاح الدينالايوبى  فعمل طبيبا له وأستاذاً في المدرسة التي أنشأها يهود مصر في الفسطاط لتعليم الديانة اليهودية والفلسفة والرياضيات والطب.

ثالثا : هذه مجرد أمثلة لتلك الحركة العلمية يتضح منها:

1 ـ إن علماءها انفتحوا على العالم يترجمون المعرفة الانسانية ويضيفون لها ، وكانوا حلقة فى التطور العلمى فى التاريخ العالمى لأنه على جهودهم قامت النهضة الاوربية التى ترجمت اعمالهم وتأسست عليها وطورتها الى ما نعيش عليه اليوم .ـ

2ـ إن حركتهم العلمية كانت بعيدة فى مجملها عن الانغماس فى السياسة.

3ـ  شمولية المعرفة لدي بعضهم من طب وطبيعيات وفلسفة الى  العلوم الشرعية.

4 ـ إنها كانت حركة علمية انسانية شارك فيها العرب وغير العرب واليهود والنصارى .

5 ـ إعتمادهم على العقل والتجربة ـ أحيانا خصوصا فى مجالات الطب والعلوم الطبيعية ، عكس الفقهاء الذين كانوا يحشون عقولهم بالروايات التى تزعم أن فلانا ( سمع ) من فلان وفق الثقافة السمعية المتخلفة و التلقينية . ولذلك اشتهر فقهاء السنة باسم ( الحشوية ) أى الذين يحشون رءوسهم بروايات دون عقل أو فهم .

5 ـ والمسلمون من أصحاب المنهج العقلى العلمى التجريبى آمنوا باكتمال الاسلام بالقرآن ، وقوله جل وعلا :(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة 3 ). لذا فقد رفضوا نسبة آرائهم الدينية للرسول عليه السلام ، بل نسبوها لأنفسهم لتكون قابلة للنقد والنقاش.

هذا عكس أئمة الفقه الذين نسبوا آراءهم للنبى وجعلوها أحاديث نبوية وسنّة زعموا أنها وحى الاهى ـ بل تطرف الشافعى فى (الرسالة ) وجعل تلك الأكاذيب التى نسبوها للرسول عليه السلام تنسخ أى تلغى القرآن الكريم . وبهذا ندخل على الجانب الاخر من الحركة العلمية ، وهم الفقهاء المحليون المحافظون الذين كانوا ينسبون آراءهم للنبى ويجعلونها أحاديث وسنّة . وأفظع خطأ وقعوا فيه هو ( الاسناد ) أى إسناد أقوالهم وآرائهم للنبى عليه السلام بعد قرنين وأكثر ، يزعمون أن فلانا رواها عن فلان عن فلان عن فلان...الى الصحابى فلان عن النبى . وهذا الاسناد ينافى العلم والمنهج القرآن و المنهج القضائى والطبيعة الانسانية . والتفصيل فى بحث ( الاسناد ).

رابعا :  ونعطى لمحة سريعة عن تطور الحركة الفقهيةالسّنية.

1 ـ فقد استفادت من حركة التدوين فى العصر العباسى فتحولت من الرواية الشفهية الى كتابتها فى كتب ، وبينما كان أبوحنيفة رافضا لرواية الحديث و يفتى بعقله فقد أسس مالك منهج الاسناد أى نسبة الرأى الى   الرسول ، حيث كان موطأ مالك هو أقدم كتاب مدون فى الحديث والفقه ، كما كان محمد بن اسحاق أول من كتب السيرة . وقد نشأ كلاهما فى المدينة كل منهما يعادى الآخر ، فمالك عربى ينتمى للانصار وقد ناصر ثورة محمد النفس الزكية ضد ابى جعفر المنصور العباسى مما عرضه للتعذيب على يد السلطة العباسية بعد هزيمة ثورة محمد النفس الزكية ، هذا بينما كان محمد بن اسحاق من الموالى الذين عانوا من الاحتقار من السادة العرب ، لذا أسرع ابن اسحاق بتأييد الدولة العباسية وترك المدينة ليعمل فى خدمة العباسيين ، وقد كتب من ذاكرته السيرة النبوية بتكليف من الخليفة المهدى يرسم فيها صورة للنبى عليه السلام تخالف حقيقته  فى القرآن الكريم ، وينسب له قتل الأسرى وسبى النساء والولع بالنساء وارسال فرق الاغتيال ، بنفس ما كان عليه الحال فى بداية الدولة العباسية . كما كتب مالك من ذاكرته أيضا الموطأ .

2 ـ وكلاهما ( مالك و ابن اسحاق ) زعم أنه سمع الروايات التى تم تدوينها من محمد بن شهاب الزهرى أشهر الرواة فى العصر الأموى ، حين كان الزهرى فى المدينة. وهذا كذب من مالك ومن ابن اسحاق معا . أى اختلفا وتعاديا ولكنهما معا اشتركا فى الكذب حين زعما أنهما رويا عن ابن شهاب الزهرى . ابن اسحاق لم يلتق بالزهرى ، فابن اسحاق مولود فى المدينة فى حدود 86 وهو نفس العام تقريبا الذى غادر فيه الزهرى المدينة ولحق ببلاط الخليفة الأموى عبد الملك بن مروان فى دمشق يعلم اولاده ، وظل هناك يعلم أولاد الخلفاء الأمويين ولم يزر المدينة إلا زيارة خاطفة عام 106 مرافقا للخليفة هشام فى الحج ، وظل فى دمشق الى أن مات عام 124 . ومالك مولود عام 93 ، ووقتها كان الزهرى فى دمشق يعمل متفرغا فى خدمة الخليفة عبد الملك بن مروان قبل مولد مالك بنحو ثمانى سنوات. فمتى واين لقى مالك بالزهرى وروى عنه أحاديث الموطأ ؟ . إن الزهرى لم يعش فى المدينة سوى فترة طفولته ومراهقتها حين كان يأخذ العلم عن العلماء التابعين من القرشيين والأنصار، أما فترة تألقه كعالم فلم تكن فى المدينة ولكن فى دمشق ـ ولم تكن بين عوام الناس ومجالس العلم المتاحة للجميع ـ ولكن فى قصور الخلافة الأموية مستشارا ومعلما لأولاد الخلفاء، بعيدا عن عوام الناس ومجالس العلم . وفى عصر الزهرى لم يكن قد بدأ التدوين حيث سادت الرواية الشفهية للتاريخ والحديث و السيرة ثم تم تسجيلها فى العصر العباسى وكان من السابقين فى التدوين محمد بن اسحاق ( 85 : 151 ) ومالك (93 : 179 ) .وجاءت الجيل التالى ( جيل ابن اسحاق ومالك ) من العلماء فى اوائل العصر العباسى وقد تأسست شهرة الزهرى كالشأن فى كل علماء السلطة الذين يتمتعون بنفوذها و سلطانها ، مما جعل إسم الزهرى مشهورا  للعلماء اللاحقين فى عصر التدوين الذين كان يحلو لهم أن يزعموا أنهم سمعوا تلك الروايات عن الزهرى، وجاء هذا الزعم بعد موت الزهرى بعشرات السنين .

3 ـ بعد مالك نتوقف مع كتابه (الموطأ ) : مالك بن انس لم يكتب الموطأ ، ولكن مالك كان يروي الاحاديث ويسمعها منه تلاميذه ، ثم يكتبونها ، ولذا تعددت روايات الموطأ حتي بلغت نحو عشرين نسخة مختلفه ، ومنها نسخة او رواية محمد بن الحسن الشيباني التى نستشهد بها هنا ، وهى منشورة بتحقيق الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف استاذ علم الحديث ورئيس قسم السّنة بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر .

محمد بن الحسن الشيبانى مع رفيقه أبى يوسف هما أشهر تلميذين لأبى حنيفة ، ولكن تنكبا طريق ابى حنيفة ، فلقد إشتهر ابو حنيفة برفض الأحاديث ورفض العمل لدى السلطة. ولكن أبا يوسف والشيبانى عملا قضاة للعباسيين والتزما بسياستها فى رواية الأحاديث ، ونعما بالثراء و السلطة بينما تعرض شيخهما أبو حنيفة للتعذيب ثم القتل بالسم  عام 150 على يد الخليفة أبى جعفر المنصور ..

ومنهج محمد بن الحسن الشيباني في روايته وكتابته لكتاب الموطأ ان يقول ( اخبرنا مالك ) ثم يذكر الرواة نقلا عن مالك. و محقق كتاب الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني يدافع عن الشيباني، يقول الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف :( وكل ما وجه من الطعون في محمد بن الحسن ( الشيباني ) مردود . وقد طعن ابن معين والعجلي في الشافعي : بأنه ليس ثقة . وابن عدى في ابي حنيفة ، وابو زرعة في البخاري لقوله بخلق القرآن . ويحي بن سعيد في ابراهيم بن سعد ، والنسائي في احمد بن صالح ، واحمد بن صالح في حرملة ، ومالك في ابن اسحاق … وما من عالم من العلماء الا وقيل فيه شئ من ذلك ) ( مقدمة الموطأ ص 24 ) ونكتفي بهذا الاعتراف في اتهام ائمة الحديث والفقه لبعضهم البعض بالكذب مما ينفي عنهم العصمة والتقديس التي اضافها عليهم المتأخرون في عصور التخلف .

ومجموع احاديث الموطأ كلها ( 1008) في رواية الشيباني . و(الموطأ )هو أول كتاب فى الحديث والفقه. وقد تكاثر صنع الأحاديث بمرور الزمن حتى إن البخارى المتوفى عام 256 يقول إنه إختار أحاديث كتابه (صحيح البخارى)   من بين 700 الف حديث رائجة تمت صناعتها بعد موت مالك بسبع وسبعين عاما فقط . ثم  تضاعف عدد  الاحاديث بتوالى القرون ليصل الى ملايين فى عهد السيوطى فى القرن العاشر الهجرى.  وكلها أخذت منهج مالك فى الموطأ من حيث الاسناد للنبى عليه السلام كذبا وزورا ، ومن حيث تناقض الاحاديث مع بعضها . ونرى التناقض فى الموطأ خلال الموضوع الواحد ، ونكتفي هنا بمثال محدد : تحت عنوان ( باب الوضوء من مسّ الذكر ) أي عورة الرجل ، روى مالك 18 حديثا ، بدأ بحديثين يؤكدان علي ان مس الذكر ينقض الوضوء ، ثم 16 حديثا بعدها تؤكد كلها ان مس الذكر لا ينقض الوضوء. وهناك رواية في (الرجم) في الموطأ تحت رقم 697 ، وهي رواية كاذبة بكل المقاييس لأن مالك يرويها عن ابن شهاب ( الزهري ) الذي يروي الحديث عن النبى بنفسه ، مع ان ابن شهاب الزهري كان من التابعين ولم يدرك عصر النبي عليه السلام ، ومع ذلك نقرأ في الموطأ الاتي ( اخبرنا مالك ، اخبرنا ابن شهاب ( الزهرى ) ان رجلا اعترف علي نفسه بالزنا علي عهد رسول الله ( ص) وشهد علي نفسه اربع شهادات ، فأمر به فحدّ. قال ابن شهاب : فمن اجل ذلك يؤخذ المرء باعترافه علي نفسه .) . إن ملامح الحركة الفقهية من بدايتها تتلخص فى الكذب على الرسول ، والانغماس فى السياسة والتناقض فيما بينهم وحتى التناقض فى الكتاب الواحد . وتلا كتاب الموطأ مؤلفات الشافعى ( 150 : 204 ) :(الأم ) و ( الرسالة ) ثم مؤلفات ابن حنبل والبخارى ..وملا تلاهم فى القرنين الثالث والرابع من الهجرة ، وبعدها كتب اللاحقون على نفس النسق لتتكون المذاهب الفقهية الأربعة ، و بسبب ظروف سياسية فقد سادت الأحاديث واكتسبت لقب الٍسّنة ـ بدلا من لقب الحشوية ـ  بدءا من عصر الخليفة المتوكل الذى تولى الحكم عام 232،واشتهر بالتعصب للفقهاء وأصحاب الحديث ضد المعتزلة والشيعة الصوفية وأهل الكتاب، وخبت   بدءا من أيامه جذوة الحركة العلمية الفلسفية التجريبية.  

خامسا : انتصار الجهل الفقهى على العلم، ثم الصراع بين الجهل السنى والجهل الصوفى

1 ـ وكان طبيعيا ان يحدث التصادم بين الاتجاه العلمى الفلسفى التجريبى الذى انجب نخبة من أعظم العلماء فى التاريخ الانسانى وبين الاتجاه الفقهى القائم على الكذب والتناقض . وتدخلت السياسة بسبب حاجة الحاكم المستبد الى رجال دين فقربت اليهم فى العصور التالية الفقهاء السنيين واضطهدت من أجلهم الجميع . وعلا شأن الفقهاء الحنابلة وسيطروا على الشارع العباسى بحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره ...) والذى اخترعوه ليعطوا لأنفسهم سلطة دينية تجعلهم متحكمين فى الناس ، وعانى منهم الجميع حتى أئمة السنيين غير الحنابلة ، ومشهور اضطهادهم للامام الطبرى بسبب خلافه معهم فى موضوع الاستواء على العرش ، وقد كتبنا فى هذا من قبل. أدى تطرف الحنابلة وتعصبهم وتدخلهم فى شئون الحكم الى تفضيل الحكام اللاحقين للتصوف ورجاله ، حيث اشتهر الصوفية بتأييد الحاكم وعدم الاعتراض عليه ورقصهم فى مواكبه ، وواكب هذا عقد الغزالى ت 505 الصلح بين السّنة و التصوف ، وقد كان زعيما للتارين معا ، ووقف ممثلا لهما ضد التيار العلمى و العقلى الذى كان يمثله ابن رشد . وأد هذا الى تقرير التصوف تحت اسم ( التصوف السنى ) وسقوط التيار العقلى العلمى .

 ثم تسيد التصوف وعلا شأن المتصوفة على الفقه والفقهاء مع بداية العصر المملوكى فى القرن السابع الهجرى، وأدى هذا الى نتيجتين : * تطور الكذب من طريقة الاسناد وروى فلان عن فلان عن النبى الى علم لدنى يزعم فيه الولى الصوفى أنه يروى مباشرة عن الله تعالى وعن النبى بزعم الكرامات والعلم اللدنى وانه يأتيه الهاتف والوحى قائلا حدثنى قلبلى عن ربى ، أو أنه يرى النبى فى المنام أو يرى رب العزة فى المنام. * أنتقام الصوفية من الفقهاء المعترضين عليهم ، أى كما اضطهد السنيون الصوفية فى القرن الثالث الهجرى اصبح الصوفية يضطهدون الفقهاء الثائرين فى القرن الثامن الهجرى كما حدث فى اضطهاد ابن تيمية ومدرسته.

2 ـ وفى العصر العثمانى إنحدر مستوى الفقهاء السّنيين فامتلآت كتبهم بتفصيلات مضحكة مؤذية كنا ندرسها فى الازهر فى المرحلتين الاعدادية و الثانوية ، مثل ( حكم من يزنى بأمه فى نهار رمضان فى جوف الكعبة ماذا عليه من الإثم ، وحكم من لعضوه الذكرى فرعان وزنى بإمرأة فى فرجها ودبرها فهل عليه حدّ واحد أم حدان ، ومن أصابه الجوع وهو فى صحراء فهل له ان يأكل لحم نبى من الأنبياء ، ومن حمل قربة مليئة بالفساء هل ينتقض وضوؤه ام لا ، ومن كان نائما على سطح فسقط على أمه فزنا بها وهو لا يعلم هل عليه حدّ أم لا ومن أدخل اصبعه فى دبر صديقه وهو صائم فهل يبطل صومه ام لا .!!؟ ). وأضحي التصوف السنى أكثر تسيدا وسيطرة فى العصر العثماني، فتأكد الاعتقاد فى كرامات الأولياء حتى المجاذيب و المتخلفين عقليا ، وارتد المسلمون الى جهل سحيق يصدقون كل خرافات الاولياء الصوفية . وتشجع شيوخ الصوفية فى العصر العثمانى فكتبوا ما شاءوا من اساطير كراماتهم وكرامات شيوخهم واثقين من ايمان العصر بهم . حدث هذا مع غياب تام للمدرسة العلمية العقلية الفلسفية التى انجبت ابن سينا و الرازى وابن الهيثم ..الخ ..!!

3 ـ ونأخذ أمثلة من كتاب (لطائف المنن) للامام الشعرانى أشهر شيوخ الصوفية فى العصر العثمانى ـ يقول ( ومما انعم الله تبارك وتعالى به على  مساعدتى أصحاب النوبة (أى الأولياء الذين يتناوبون حفظ الأرض والسيطرة عليها وفق زعم الصوفية )فى سائر اقطار الارض فى حفظ أدراكهم من برارى ومدائن وبحار وقرى و جبال ، فأطوف بقلبى على جميع اقطار الارض ... وصورة طوافى كل ليلة على مصر وجميع اقاليم الارض اننى اشير باصبعى الى أزقة جميع المدائن والقرى والبرارى والبحار وأنا أقول : الله الله الله ، فأبدا بمصر العتيقة ثم بالقاهرة ثم بقراها حتى أصل الى مدينة غزة ثم الى القدس ثم الى الشام ثم الى حلب ثم الى بلاد العجم ثم الى البلاد التركية ثم الى بلاد الروم ، ثم أعدّى من البحر المحيط الى بلاد المغرب، فاطوف عليها بلدا بلدا حتى أجىء الى اسكندرية ، ثم اعطف منها الى دمياط ثم منها الى اقصى الصعيد ثم الى اقصى بلاد العبيد ثم الى بلاد الرجر 81 وهى اقطاع جدى الخامس ، ثم اعطف الى بلاد  التكرور وبلاد السكوت ، ومنها الى بلاد النجاشى ، ثم الى اقصى بلاد الحبشة ، وهى سفر عشر سنين ، ثم منها الى بلاد  الهند ثم منها الى بلاد السند ، ثم الى بلاد الصين ، ثم ارجع الى بلاد اليمن ، ثم الى مكة ، ثم اخرج الى من باب المعلى الى الدرب الحجازى الى بدر ثم الى الصفراء ، ثم الى مدينة النبى صلى الله عليه وسلم ، فاستاذنه عند باب السور، ثم ادخل حتى اقف بين يديه صلى الله عليه وسلم فاصلى واسلم عليه وعلى صاحبيه، وأزور من فى البقيع ، ثم اقول سبحان رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين . وما ارجع الى دارى بمصر إلا وانا الهث من شدة التعب ، كانى  كنت حاملا جبلا عظيما . ولا اعلم ان أحدا سبقنى الى مثل هذا الطواف. وكان ابتداء حصول هذا المقام لى فى سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة، فرأيت نفسى فى محفّة طائرة فطافت بى سائر اقطار الارض فى لحظة ، وكانت تطوف بى على قبور المشايخ من فوق اضرحتهم ، إلا ضريح سيدى احمد البدوى وضريح سيدى ابراهيم الدسوقى رضى الله تبارك وتعالى عنهما ،فان المحفة نزلت بى من تحت عتبة كل من احدهما ومرت من تحت قبره. ولم اعرف الى الان الحكمة فى تخصيص هذين الشيخين بذلك .نفعنا الله تعالى بهما. والحمد لله رب العالمين )   (لطائف المنن والاخلاق  173 174 نشر عالم الفكر ميدان الحسين القاهرة  ).

4 ـ وفى الوقت الذى خيم فيه الجهل فى العصر العثمانى كانت اوربا تقوم بترجمة كتب ابن سينا و الخوارزمى والرازى وابن النفيس وابن رشد وغيرهم وتنشىء نهضتها على علمهم، ثم تقوم بالكشوف الجغرافية معتمدة على خرائط الادريسى و مهارة البحارة العرب ومنهم إبن ماجد وتحتل العالم الجديد ثم تلتفت الى بلاد المسلمين تحتل بلادهم . وعندما جاءت حملة نابليون تدك بمدافعها القاهرة اجتمع شيوخ الازهر فى حلقة يرتلون (صحيح البخارى ) السّنى و( دلائل الخيرات) الصوفى ، ليهزموا نابليون .

5 ـ وبدأ التفكير فى اصلاح حال المسلمين . وجاء أسوأ الحلول من نجد بالوهابية السعودية التى أحيت سبب الجهل و التخلف وسفك الدماء ، وهو الفقه الحنبلى؛ أردأ فكر للمسلمين . وجاء الاتجاه الآخر للنهضة والاصلاح بالأخذ عن أوربا وهو ما فعله محمد على ثم الخديوى اسماعيل . وقد أسفر التحديث المدنى فى مصر عن تحديث الفكر الدينى فى مدرسة الامام محمد عبده ، ولكن أطفأ سراجها تسلل السلفية الى مصر تنشر الوهابية ، ونحن الان نشقى بانتشار الوهابية ونستعيد خرافاتها الفقهية من رضاع الكبير الى التداوى ببول الابل و التبرك ببول النبى .فالحمد لله جل وعلا الذى لا يحمد على مكروه سواه .

6 ـ وفق الثقافة السمعية التى نشرها الفقهاء و الصوفية تعود المصريون تصديق كل مزاعم وخرافات السلفيين دون نقد ، لأن النقد يعنى الاتهام بالكفر والاعتراض على ما وجدنا عليه آباءنا من ثوابت ،  ووفق الثقافة السمعية التى يقوم عليها دين السّنة تعود المصريون تصديق الاتهامات  الباطلة التى يطلقها السلفيون على المفكرين المسلمين الأحرار . وخلال أربعين عاما ـ ومنذ عصر السادات ـ أرسى القائمون على نشر الثقافة السلفية الوهابية تلك الثقافة السمعية التى تصدق كل ما يقال لها دون نقد أو تمحيص .  وهم الآن يبركبون الموجة ليحكموا البلاد وليتحكموا فى العباد ..

أخيرا

أفيقوا ايها الناس  ..

اجمالي القراءات 37630