يحدثنا التاريخ عن علاقة خاصة ووثيقة وذات طابع ومذاق خاص بين العسكر ورجل الدين. تفاوتت قوتها بين زمن وآخر ، بل وتساويا واختلفا نسبيا فى تحكمهما معا فى العامة. وعندما نشير الى العامة هنا نخص بالذكر هؤلاء الذين قبعوا فى قوقعة الجهل المجهزة لهم والتى تم تهياتها بحنكة شديدة حتى يتسنى للمطرقة (العسكر) والسندان (رجال الدين) تحريك العوام بسهولة ويسر لأغراضهما. وصلت تلك العلاقة لقمتها فى بعض الأحيان مثلما حدث فى أوروبا إبان توحش الكنيسة الكاثوليكية وتقسيم الحكم بين الملك وعسكره من ناحية ، ورجال الدين من ناحية أخرى. ولطالما فى غالب الاحيان عندما لا يشارك رجل الدين فعليا فى الحكم فإنه يصبح اداة يسيرة وسهلة فى أيدى الحاكم تتحرك فى كل الاتجاهات كلما ارتأى فى الافق منفعة. وعليه فيكون ، على الأقل ، رجل الدين ذا ثروة وسعة فى السمعة مقابل خدمات دينية تصب فى مصلحة الحكم والعسكر بالتحديد.
ورغم إنسياب الإندهاش فى سلاسة ويسر على جبهات البعض وهم كثر ممتزجة بعلامات تعجب لا نهاية لها من تلك المغازلة الفريدة بين العسكر والإسلاميين فى المشهد السياسى المصرى الآن ، والتى قد يراها البعض حالة من محاولة ركوب الحدث والقفز على الموقف فى تحركات أشبه بالصفقات بينهما (أى الجيش وما يطلق عليهم مجازا بالإسلاميين) ، بل وذهب البعض لربطها بالمشهد الشهير فى عام 1952. أقول رغم كل تلك الأفكار ذات الأجنحة الاكثر خفقا على رؤوس المشاهدين والمتعجبين والمتخوفين ، فإنها على مرأى التاريخ الطويل هى شئ من أكثر الأشياء عادة واعتيادية. ولنأخذ أنفسنا لتاريخ فرض نفسه على المشهد المصرى فى فترات ما يطلق عليه البعض مجازا "التاريخ الإسلامى" بتاريخها الذى احتوى حكما استبداديا لم يخف على أى قارئ عادى للتاريخ وامتلا ايضا بمشايخ ورجال الدين تناثرت اسمائهم تملأ الكتب التاريخية والغير تاريخية المنتسبة لتلك الحقبة.
يحدثنا التاريخ ان تلك الحقبة المسماة بالـ "التاريخ الإسلامى" لم تكن ذات صبغة خارجة عن المألوف فى تلك العلاقة سالفة الذكر. ولنأخذ دولة الملك العضود كمثال ، وهى دولة معاوية ابن سفيان مرسخ الدولة الأموية وأحد عباقرة السياسة والداهية فى عصره. ودولة الملك العضود تلك ، او بداية البداية للحكم الأموى الذى استمر ما يقرب من مائتى عام الا قليلا ، هى دولة ترسخت وقامت على وراثة لحكم بدا قبل الرسالة بشكل يخصها ، ثم عادت مرة أخرى فى هيئتها الاستبدادية التوريثية. ورغم القوة التى اكتسبها معاوية بعد مقتل على واعتلاء الحكم على جوانبه كلها ، ورغم المال والعتد والجيوش والقوة المتناهية ، إلا ان تلك القوة احتاجت لشرعية ما أقواها عندما تكون الهية مباركة تجعلهم يحكمون ويتحكمون فى الرعية دون اعتراض او تأفف ، علنى على الأقل. وهنا جاء الجانب الآخر من العلاقة الحميمة ، فأتى دور الفقهاء بفتاويهم واحكامهم المحفوفة بالصبغة الالهية والتى أدركها الحكام والملوك وادركوا قوتها فتناثرت حول عروشهم فتاوى تحريم الخروج عن الحاكم ولم يجدوا غضاضة ولا ايسر من الخروج بالادلة الشرعية والنصوص السماوية والتى تبرر تصرفات الحكام وتحميهم من المسائلة.
ولأن الجهل له باع كبير كأرض خصبة تنمو فيها بغزارة تلك المؤامرات ، فكان من السهل ان نجد تسهيلا وسماحا من الحكام والعسكر لرجال الدين بأن يسيطروا على المجتمع تحت امرة الحكم ، وأن يشكلوه كيفما ارتأوا وكيفما اقتنعوا ، فى اتفاق على قمع المعارضين لأى من الطرفين وتخريجهم وتكفيرهم واستباحة دمائهم. وانطلق رجال الدين يأخذون مكانة راقية مرتفعة عن العوام تتلخص رحاها فى كلمة (سيدنا الشيخ) ومثيلاتها فى الاديان الاخرى.
يحدثنا التاريخ عن فترات استثنائية فى تلك الحقبة كفترتى المأمون والمعتصم والتى شوهد فيها (تاريخا مكتوبا) انتشى فيها فكرا ذا اتجاه معارض كفكر المعتزلة فى فترتى هاذين الحاكمين. ورغم تلك الإستثناءات شديدة الندرة ، فقد ساد المعيار فى خلافها وانتشر النموذج المتحالف بتنويعات اختلفت نسبيا واتفقت وارتبطت ارتباطا شديدا فى الجوهر. وكما أشرنا سالفا ، هذا النموذج لم يكن حكرا على ما يطلق عليه الحقبة "الإسلامية" ولم يكن من اختراعها ، وانما امتدادا لما قبلها وتمديدا لما بعدها. ففى تاريخنا المصرى تحدثنا اوراق البردى عن الكهنة والفراعنة ، ومثلها فى اوروبا كما اشرنا آنفا ، وفى غيرهما تتسع واتسعت كما اتساع الأرض. بل ويسرت علينا الأقدار فى ان ساقت لنا الجارة المسماة بالسعودية والتى يقوم نظامها السياسى منذ نشاتها على تحالف شديد وطيد بين آل سعود النجدية الحاكمة وبين أتباع "الشيخ" محمد بن عبد الوهاب ، احترم فى هذا التحالف صراحته المتناهية من البداية بلا لبس "ولا لف ولا دوران" ، تحالفا تكون فيه سلطة اقتصادية وسياسية مطلقة لسعود وآله ، يتم المقايضة فيه – أى هذا التحالف – لصالح الوهابيين بترك لهم الساحة الاجتماعية والاعلامية والمنابر والقضاء والشارع نفسه يبقى فى أيديهم يشكلوا فيه كل ما سبق كيفما يتراءى ويحلو لهم باستخدام الذراع الشهير بـ (الامر بالمعروف والنهى عن المنكر) والتى تطبق احكامه على العامة ومن يعارض سعود والوهابيين قمعا وارهابا ، عدلا وظلما (قانون ساكسونيا الدينى).
هذا التحالف هو فى نهاية المطاف ذو طابع اغرائى يتلاعب بغرائز "الاسلاميين" وفئات كبعض السلفيين ، اوتحديدا السلفية العلمية وليست الجهادية العنيفة كما يحلو لهم تمييز انفسهم عنها ، يسع هؤلاء بكل جهدهم لتكراره على المشهد السياسى فى مصر يعاضد هذا الحلم تاريخ "اسلامى" تتدلى منه مرجعيتهم رأوا فيه هذا المشهد مرارا وتكرارا. وقد كان منهم الكثير يتحالف كما شاهدنا مع نظام مبارك ومنهم الكثير من كان يتفادى التصادم مع نفس النظام على مدار العشرين عاما الماضية. وقد منحهم النظام مساحة عريضة فى خضم الجهل العارم والأمية التى كانت بيئة صالحة لنمو هذا التحالف وتفعيله ، وبقمع قطاع من الشعب وخصوصا الشباب الذى تراءى اليه فى الدين قوة يعاند بها النظام شاهدنا خيل له ان من مثل او يمثل هذا الدين هم هؤلاء ، مع ضعف مؤسسات كالازهر وخفت اصوات وسطية وقمع المعارضين ظهر هذا الفكر على السطح بغزارة فى قنوات كثيرة ، وتمادى الشعب فى عنده وظهر جليا هذا العند ويصل الى اوجه ابان انتخابات المرحلة الاولى 2005 وانضمام قطاع ليس بالكثير ولكن كان له ملمح من الشعب الى تلك الايديولوجيات والتى ظهرت واضحة معارضة لا مجاهرة تغرى ولا تتفوه ، تقول دينا ولا تعارض حاكما.
نقول انتشرت لذلك ، وبسبب المساحة المتاحة من النظام جراء هذا التحالف ، افكارهم من خلال الزوايا وبعض المساجد والشرائط والقنوات التليفزيونية ، وكان التعرض من النظام لشيوخهم شديد الندرة ، وضرب بعضهم ببعض كما ضرب بالسلفيين الاخوان لسحب البساط من تحت اقدامهم فى لعبة توازن سياسية تخدم النظام وكان النتاج الشامل من هذا الاخذ والرد ضحية تلك الاطراف المتحالفة وهى القوى المدنية والتى انفض الناس من حولها تباعا حتى خروا تحت اقدام هذا التحالف.
كانت الثورة الفرنسية علامة بارزة فى التاريخ بأفكارها وتوجهاتها ، وجيش من الأدباء والمفكرين والفلاسفة ، وانتشار مفاهيم الديموقراطية والحرية والعدالة والتنوير بداية النهاية للتحالف المقدس بين رجال الدين والسلطة الاستبدادية واستبدالها بعلاقة مباشرة بين شعب حر سيد وحاكم يعمل موظفا لدى هذا الشعب مع استبعاد طبقة رجال الدين من المشهد وتفكيك سيطرتها على المجتمع وحصر دورها في الكنائس والأديرة ومن ورائهم شعبا سرى فيه العلم والمعرفة والثقافة بسرعة هائلة حائط يصد كل التحكمات الميتافيزيقية وجدار هائل يمنع ظهور مطرقة اخرى وسندان اخر ليكون الغلبة والحكم للشعب.
ثورة يناير مثل الثورة الفرنسية فى بداياتها بمفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والتوحد خلف القيم المصرية بغض النظر عن الدين او العرق ، رأينا بين جنباتها يوما بعد يوم فى الثمانية عشر يوما سريان القيم فى مجراها الطبيعى لأنها قيما خالصة من كل سوء وعيب لا تجارة فيها بمشاعر ولا بأديان ، وقفت كل الفئات والطوائف تجتمع تحت راية واحدة هى مصر وكلنا متساوون لا فرق بيننا. كانت ثورة ليس فقط على نظام فاسد قمعى ولكنها كانت ثورة على قيم مقلوبة وتفكك وطائفية تزرع مودة وترابط كل المصريين نساءا ورجالا ، كانت ثورة على كل تحالفات النظام المتسخة المتآمرة على شعب ظل يُجَهٌل على مدار ثلاثة عقود تتلقفه امن الدولة فى انتهاك لأدميته ومن ورائها شرطة قمعية عمياء وكأنهم ولدوا من بطون لا تنتمى لهذا الشعب ، وتتلقفه ايضا ذقون متحالفة تقمع عقولهم وتنتهك افكارهم وتشوه فى عقولهم كما شوه النظام اجسادهم وسرطنها.
تلك الثورة مثلت عقبة مهمة وكبيرة وضربة لمجهود من تحالف النظام والذقون في سبيل تنفيذ مخطط الدولة السلطانية واستكمال اركانه في مصر، ومن هنا كان تخوف السلفيين منها ورفضهم لها في البداية باعتراف مشايخهم ، إلا أن انحراف الثورة عن مسارها واستلام العسكريين - عوضا عن الثوار - مقاليد الحكم قد منح السلفيين فرصة ذهبية لاستعادة مشروعهم القديم الجديد، مشروع الدولة الدينية السلطانية (دولة الخلافة : دولة السلطان مطلق السلطات والرعية التي لا تملك من أمرها شيئا وبينهما طبقة رجال الدين تسوق المجتمع وتمنح شرعية للاستبداد)، ولذا سارعوا للتحالف مع المجلس العسكري ودعموه بكل طاقتهم وهاجموا كل من ينتقد تراخيه في تنفيذ مطالب الثورة في الدولة المدنية والحرية والعدالة، بل وطالب بعضهم بأن يظل الجيش أطول مدة في السلطة قطعا للطريق على القوى المدنية وإجهاضا للثورة التي - ولا شك - تتعارض مع مشروعهم.
مسلسل لا تنتهى فيه علاقة العسكر ورجل الدين. يظل يذهب هنا وهناك ، ويحكى التاريخ ان الدول التى تخلصت من مهانة تلك العلاقة المنتهكة للشعوب تقدمت وتحررت وانطلقت فى عالم التحضر والعلم والتقدم تحبو ، تحبو بعيدا عن تلك العلاقة المتآمرة على الشعوب وعلى قيمها وعلى آدميتها ، والمتصارعة ايديها تعبث بالكعكة التى بذل فيها شباب مصرى حياتهم وهم يحتفون (عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية) لم يهتفوا بها اسلامية ولا عسكرية ، بل هتفوا بها مدنية. وانظروا فى صور الشهداء ، لا نتحرج ان قلنا ان مظاهرهم كلها لا علاقة لها لا بسلفيين ولا اخوان ولا "دياوله". كانت مصرية لا جلباب فيها ولا ذقن ولا عمة ، ولا حتى لا مؤاخذة صليب.