يقول تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }التحريم11
منذ عصر ما قبل الأسرات كما جاء بالبحث الذي بين أيديكم والمرأة المصرية كانت رمزا ومثلاً للإيمان كما ورد ذلك بالقرآن الكريم . في الآية الحادية عشر من سورة التحريم، وإن كان الاسم بالقرآن الكريم لا يعني قيمة بعينها ولكن المضمون والهدف والموعظة هو الأساس الذي يكون من أجله ضُرِبَ المثل وذكر الموعظة ..
وتبقى الأسماء في النسق القرآن أقل قيمة من الأحداث والموعظة ..!!حتى ولو كان الأسم لشخصية مؤمنة سواء كانت رجلا أو إمراة ... أو كانت لشخصية كافرة أيضاً
وهذا منهج قرآني يجب ان نتبعه فلا نركز على الأشخاص دون التركيز على المغزى والمضمون والموعظة والمثل سواء بالايمان او بالكفر.
ومن هذا المنطلق في هذا المقال فإسم الشخصية لا يعنيني بالقدر الذي يعنيني ما قامت به هذه الشخصية من مواقف سواء كانت خيراً أم شرا للإعتبار والاتعاظ..
(إمرأة فرعون) صارت مثلاً للذين آمنوا على مر الأزمان يتعبد بدراسته وبتدبره في آيات القرآن
ومن روعة القرآن أنه لم يذكر إسم المرأة المؤمنة ولا إسم زوجها الكافر المتغطرس المدعي الألوهية المطلقة.. وصار كلا منهما مثلاً في سلوكه لمن أراد الذكرى أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولتحديد العصر التي عاشت فيه هذه المرأة المؤمنة من خلال الأبحاث التاريخية ومن خلال الومضات التي جاءت في قصصهم بالقرآن الكريم يمكن ان نتتبع الأحداث.
إن قصة الصراع بين موسى وفرعون قد وردت بالكتب السماوية التي كان خاتمها القرآن الكريم. ولذلك يجب أن نعتبر أن المدخل الأساسي لهذا المقال هو المدخل الديني.
والدراسة دينية تاريخية أثرية مقارنة للدكتور "سعيد ثابت" أستند إليها في هذا المقال، وتتناول مراجعة وتجميع النصوص القرآنية التي وردت في شأن موسى عليه السلام ، وفي فرعون ، وبني إسرائيل.. ثم مقارنة القصة كاملة بما ورد في التوراة من تفاصيل، وبعد استبعاد الأحداث والتفاصيل غير المتطابقة والمشكوك فيها وغير المنطقية.
ويتناول الجزء الأول من الدراسة: الحقبة التاريخية تحديد زمان فرعون وموسى.. ومتى كان ..
أما الجزء الثاني فيتناول: تحديد من هو هذا الفرعون وبالتالي من هى زوجته الملكية؟
"قالت التوراة " أن الملك رمسيس الثاني هو فرعون موسى ! الفرعون الذي اضطهد اليهود وطارد بني اسرائيل في مصر..
لكن القرآن الكريم لا يقول أنه الملك رمسيس الثاني.. ورواية القرآن الكريم عن فرعون موسى لا تشير إلى الملك رمسيس ولا تنطبق عليه!
إذن فمن هو هذا الفرعون؟ من يكون؟
هذا هو السؤال بل اللغز الذي حير العلماء والباحثين على طول التاريخ، منذ تلك المواجهة التي جرت بين موسى وفرعون والتي انتهت بخروج بني اسرائيل من مصر ، وغرق فرعون!
لقد اختلفت الآراء والاجتهادات ، والافتراضات التي قال بها العلماء والباحثون..
قالوا: أنه أحمس الأول..
الفرعون الذي طارد الهكسوس من مصر حوالي عام 1575 قبل الميلاد .. وأن خروج بني اسرائيل من مصر حدث مع قيام الأسرة الثامنة عشرة، وأن مؤسس هذه الدولة أحمس الأول هو فرعون موسى!
والغريب أن الذي روج لهذا الإدعاء قديماً هو مؤرخ يهودي إسمه يوسف اليهودي وكان هدفه من ذلك هو رفع شأن اليهود الذين كان يحتقرهم الاغريق ويحطون من قدرهم ! أراد أن يقول أن اليهود والهكسوس من عنصر واحد!
غير أن الباحثين ينكرون الصلة بين اليهود والهكسوس بدليل أن الهكسوس لم يتركوا أي أثر في قصص العبرانيين كما روتها التوراة! وأن مدينة "بي _ رعمسيس" التي أنشأها رمسيس الثاني والتي تدخل في قصة بني اسرائيل في مصر حسب رواية التوراة التي تقول أن رمسيس الثاني قد سخر بني اسرائيل في بنائها وأن خروج بني اسرائيل قد بدأ منها ... هذه المدينة لم تنشأ إلا بعد طرد الهكسوس بحوالي ثلاثة قرون!
وقالوا: إنه تحتمس الثالث..
والذين يقولون بذلك يرون أن الصورة التي تقدم لتحتمس الثالث كفرعون لموسى مقبولة تماماً لأنه أقام العديد من المنشآت العظيمة واستخدم الأسرى الآسيويين في مشروعاته الانشائية.
وأصحاب هذه الافتراضات يقولون أن موسى ولد على أيام تحتمس الأول وأن إبنة فرعون التي سحبته من الماء هى حتشبسوت.. وأن اضطهاد بني اسرائيل قد بدأ بعد أن نشب
النزاع بين حتشبسوت وتحتمس الثالث ثم وصول الأخير إلى الحكم!
لكن الرد على هذا الافتراض يقول أن تحتمس الثالث كانت مشاريعه الانشائية كلها في الصعيد، أي في طيبة (الأقصر حالياً) بينما رواية التوراة تتكلم عن مدينة "بي _ رعمسيس) التي بناها اليهود لرمسيس الثاني وهذه في الدلتا وليست في الصعيد.
والذين يقولون بأن هروب موسى من مصر كان بعد وفاة حتشبسوت وجلوس عدوها تحتمس على العرش ، ثم خروج بني اسرائيل في أخريات عهده.. الذين يقولون بذلك يتناقضون مع ما جاء في التوارة وفي القرآن من أن موسى قد خرج من مصر إلى مدين لأنه قتل مصرياً على سبيل الخطأ!
وقالوا: إنه توت عنح آمون..
والذين يفترضون أن توت عنخ آمون هو فرعون موسى يتناقضون مع رواية القرآن الكريم عن فرعون موسى التي تقول أنه ادعى الألوهية، كما تتناقض مع الحقائق التاريخية المعروفة عن الملك توت عنخ آمون الذي تولى العرش وهو صبي في التاسعة ومات وعمره ثمانية عشر عاماً!
وقد ثبت من فحص جثته أنه لم يمت غريقاً! وهو الأمر المؤكد في وفاة فرعون موسى كما أشارات إلى ذلك التوراة والقرآن، فقد مات بسبب حادث وأثبت الفحص أن هناك اثراً غائراً في مؤخرة الرأس وهو ما جعل الباحثين يرجحون أن تكون الوفاة نتيجة اغتيال!
فمن البداية يجب ان نرد على علماء الآثار الذين يرددون الافتراضات اليهودية نقلاً عن "التوراة" وهى أن الملك رمسيس الثاني هو فرعون موسى..
لكن الدكتور سعيد ثابت أستاذ أمراض النساء والتوليد بطب القاهرة وعالم المصريات الكبير يقول : إنني أرى أن هذا الافتراض لايقوم نهائياً استناداً إلى القصة الدينية التي أوردها القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. والذي هو الفيصل في هذا الموضوع.. فماذا يقول النص القرآني؟
أولاً : يقول النص القرآني إن فرعون ادعّى الألوهية المطلقة لنفسه .. فقد ورد في القرآن الكريم:(وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمتُ لكم من إله غيري).
والواقع التاريخي للملك رمسيس الثاني يقول إنه كان هناك العديد من الآلهة في عصره..
وقد حارب رمسيس تحت ألوية الآلهة في معركة قادش .. وكل الصور والرسوم التي ظهر فيها الملك رمسيس فوق معابده ... كان فيها بجوار آلهة... ولذلك وطبقاً للنص القرآني فإن هذا الكلام لا ينطبق على رمسيس الثاني.
ثانـــياً: يقول النص القرآني إن فرعون وزوجته قد تبنيا موسى عليه السلام:
(وقالت إمرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا)
ومن هذا النص يتضح أن فرعون وإمرأته كانا عقيمين .. "وليس الزوجة فقط" .. بدليل قولها قرة عين (لي) .. و(لك) ..
ونحن نعرف أن رمسيس الثاني لم يكن عقيماً .. بل كان له ـ 111 ولداً و76 بنتاً أي ما يزيد على مائة وثمانين ولدا وبنتاً وليس من المعقول لمن عنده هذا العدد من الأولاد والبنات أن تقول له زوجته أو إحدى زوجاته نريد طفلاً عسى أن ينفعنا عندما نكبر! غير معقول طبعاً.
ثـــالثــــاً: إن النص القرآني يقول (ودمرنا ما كان صنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون).
أي لم يبق لهم من آثار لأنها دمرت..
ولكننا نعرف أن رمسيس الثاني لا تزال آثاره قائمة حتى الآن .. وهذا يعني أنه ليس فرعون موسى.
ويتناول الدكتور سعيد ثابت تفسير معنى كلمة "فرعون" ويقول أنه يختلف أيضاً مع كل الأثريين الذين يفسرون الكلمة على أنها"لقب" أو "صفة" لكنه يعتقد أنها إسم "عَلَم" أي أن هناك ملكاً اسمه "فرعون" وصاحب هذا الاسم هو المقصود في النص القرآني.
ويقول في توضيحه لوجهة نظره : إن كل الأثريين _ وأعني الأثريين المصريين أولاً _ يقولون إن كلمة فرعون مشتقة من الكلمة المصرية القديمة"برعا" أي البيت الكبير ويقصد به "القصر الملكي" أو الباب العالي أو الادارة الحكومية".
ويقولون أيضا أنه "لقب" مثل كسرى وقيصر والنجاشي.
ونحن نختلف معهم أيضاً في هذا التفسير .. استناداً إلى النص القرآني . فكلمة فرعون لم تأت في اي من الآيات القرآنية معرفة بـ "الـ" مما يدل على أنها إسم "علم" اسم لشخص وليست صفة أو لقباً ..
وشئ آخر هو أن الألقاب كانت تقترن بأسماء الملوك بغرض التفخيم والتعظيم.. ولما كان النص القرآني قد وصف هذا الملك بكل عيب ونقيصة.. فليس من المعقول أن يأتي النص القرآني بعد ذلك معظماً له ومفخماً .. فيناديه بلقبه وليس باسمه.
وبناءاً على ذلك فلابد أن تكون كلمة "فرعون" اسم الملك..
فمن يكون هذا الملـــــــك؟
هذا هو السؤال الكبير الذي نحاول الاجابة عليه.
من هو فرعون موسى؟
ولتحديد من يكون.. علينا أن نحدد أولاً .. زمان فرعون موسى تلك الحقبة التاريخية ومتى كانت؟ فتحديد الزمان والحقبة التاريخية التي شهدت تلك الأحداث.. هو الخطوة الأولى التي تقربنا من حل اللغز.. وتحديد شخصية هذا الفرعون.
وهذا ما سوف نتناوله في المقال القادم إن شاء الله