ومقالي هذا مكمل للمقال الذي سبقه ، ليزداد القارئ إيماناً بما نعرضه له، وهو أن الانسان إذا ما ترك نفسه للمعرفة التي حصلها طوال طفولته وصباه وما تلاهما، دون أن يراجع تلك المعرفة مراجعة نقدية عارضاً ذلك على عقله مستعينا بكتاب الله تعالى القرآن العظيم وهو خير معين، ومراجعاً مراجعة نقدية تميز له ما كان صواباً في مراحل الطفولة والصبا وما بعدهما وما كان باطلاً..
أصبح هذا الانسان وكأنه يقضي حياته في كهف مغلق معتم معزول، أقامه له من تولوا تزويده بتلك المعرفة على امتداد حياته، ثم تركوه حبيس ظنونه، التي قد يصدق منها ما يصدق ويُكَذِّب منها ما يكذب.
والسؤال الذي يجوز طرحه بالنسبة إلى ما يفعله الانسان مدفوعاً بما لقنوه (المجتمع والقائمون على أمره) لذلك الانسان منذ بدأ يلثغ بالتحدث مع أقرانه ومن يحيطون بها جميعاً
وكان الغزالي أبو حامد الذي قال قولته الشهيرة "أنا أوريد فأنا موجود" ثم ديكارت بعده بخمسة قرون قائلاً "أنا أفكر فأنا موجود" كانا على حق حين أراد كل منهما :
أن يحذر الناس من عدم التفرقة بين ما هو معرفة ظنية تحتمل الخطأ، ومعرفة أخرى أقيمت على منهج يؤدي بصاحبه إلى معرفة صحيحة لا يأتيها شك من أي جهة من جهاتها، وكتاب الله هو المثال الحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
المنهج الذي يطالب به هذان الفيلسوفان إذا كان صعب المنال في معظم الأوقات، لأنه إذا تيسر تحقيقه في المجال العلمي، فليس هو بذلك اليسر في المجالات الأخرى، التي يُكْتَفى فيها بدرجة من الدقة أقل، وأقول حتى إذا كان ذلك المنهج عسير المنال بكل دقته فلنقنع منه بما اسطتعناه، (وما لا يدرك كله لا يترك كله) والدكتور طه حسين في كتابه عن الأدب الجاهلي، رسم لنفسه طريقا يعالج به موضوعه منتهجاً منهج ديكارت .
بدأ بالشك فيما يعرفه وما يعرفه في تلك الحالة هو أن شعراء الجاهلية الذين روي عنهم التاريخ ــ كإمرئ القيس مثلاً ــ كان لهم وجود فعلي في الفترة التي نسبوا إليها، فبدأ طه حسين بالشك في هذه الحقيقة حتى يثبت صدقها على المنهج الذي فصله ديكارت.
هذا الأسلوب الذي انتهجه حسين ، كان سببا في معاداة الشيوخ له في الأزهر وخارجه من السلفيين واتهامه بالكفر والزندقة رابطين منهجه الديكارتي بالإساءة إلى التراث الديني والعربي لأنه تعرض إلى ثوابت التاريخ العربي والتدين لديهم..!
وتم غسل "المخ" للعقل الجمعي للغالبية الكبيرة من المسلمين المصريين والعرب بإشاعة أن الدكتور طه أساء للقرآن الكريم زاعمين أنه قال " لو كان معي قلم أحمر لصححت القرآن".! ونحن نتلقى هذه المعرفة منذ أيام الطفولة والصبا ولم نفرق بين ما هو الصحيح منها وما هو الزائف.
ولو كان لدى العقل الجمعي للمصريين المسلمين منهج في التفريق بين المعرفة الظنية والمعرفة الصحيحة ، لاستطاعوا أن يستخلصوا أن طه حسين كان لا يقرأ بطريقتنا نحن المبصرين وبالتالي هو لا يقرأ بطريقتنا ولايكتب بها وربما لايدرك حقيقة اللون في القلم الأحمر الذي يستخدم في التصحيح لدى المدرس أو المصحح..
لكن غالبية المصريين المسلمين لم يلتزموا بتحري الحق والصدق في المعرفة التي شربوها من شيوخ الأزهر والسلفية.. وظلموا طه حسين وأمثاله من رواد المعرفة والفكر والاصلاح في مصر في العصر الحديث.
"غسل المخ" ــ إذن ــ إسم جديد ومستحدث لحقيقة قائمة منذ أن أقام الانسان نظمه الاجتماعية، وذاب الفرد ليكون عضوا في جماعة، ويستلزم أن يُعد بالتربية إعدادا يتنازل به عن كثير من مقوماته الشخصية الخاصة لكي يتجانس مع الآخرين في عرف مشترك، فكل فرد ــ آخر الأمر ــ هو بمثابة من ألبسوه منظاراً ملوناً باللون الذي تقرره الجماعة، فإذا كان المنظار أزرق أو أخضر ، لم يسع حامله إلا أن يرى الأشياء زرقاء أو خضراء أو ما كان من لون المنظار، والمثل الأعلى في مجتمع ما هو أن يتجانس لون المناظير عند الأفراد.
كثيرا ما يحدث لمجتمع معين ان ينقسم على نفسه في الرؤية العامة، نتيجة انقسامه في الثقافات التي يتشربها، وذلك هو ما حدث لنا في ــ مصر وفي الوطن العربي بصفة عامة ــ حين اصطدمنا حضاريا بحضارة الغرب التي هى حضارة العصر .
منا من كاد يتحول كله تحولا غربيا خالصا في رؤيته ومنا في الطرف الآخر من كاد ألا يذوق قطرة واحدة من إناء الغرب، وبين الطرفين تدرجت الظلال، ولهذا حياتنا الثقافية والفكرية قد شطرت شعبتين، لكل منهما رؤية شديدة الاخنلاف مع الشعبة الأخرى، فإحداهما سلفية تقيس الحاضر بمقاييس الماضي، والأخرى عصرية مستقبلية تجعل حضارة العصر وأسس ثقافته معياراً لها.
في الشعوب الحرة لا يحرم الأفراد من هامش عريض يترك الفرد ليحيا في رحابه مطلقا من القيود ، فيكون حرا في فكره ، حرا في توجيه مشاعره ، حراً في إرادته فيفعل ما يحلو له،فهو إن تجانس مع سائر الأفراد في أمور حيوية تقتضيها الوحدة القومية، يظل له جانب من حياته ينفرد بنفسه فيه وبعاطفته وبطرائق سلوكه،حتى أخرج لنا هذا العصر هذا السيل من الأجهزة التكنولوجية الحديثة التي هى نعمة ونقمة في الوقت ذاته.
ونخص بالذكر منها التلفزيون والراديو ولحق بهما شبكة الانترنت، لو تركا يسيران في طريقهما بلا وعي منا، لأجهزا على كثير جدا من من حرية الانسان.
هما نعمة أنعم الله بهما على بني آدم، فمن ذا في العصور السابقة كانت أحلامه تستطيع أن تشطح في تهاويم الخيال، حتى تبلغ بها حدا يظن عنده الانسان ــ كل إنسان ــ سيمسك بين أصابعه بجهاز صغير، فإذا العالم كله في قبضة يده، يغمزه بطرف أصابعه هنا، فهو في أمريكا يستمع إلى أهلها ويشاهدهم في نفس اللحظة، ثم يغمزه أخرى فهو في روسيا أو اليابان أو ما شاء من أطراف الأرض.
أين من هذا خاتم سليمان أو مصباح علاء الدين... هى نعمة أنعم الله بها على بني آدم في هذا العصر، عن طريقه علمائه، ثم زادت الأعجوبة عجباً بعد التلفزيون وألونه وظهور الشبكة العنكبوتية (الانترنت) .
اللون .. اللون ونؤكد على ذلك ! إن اللون ينتقل إليك عابراًً آلاف الأميال، لترى ما نراه جميعا ملونا باللون الأخضر والأحمر والأزرق! فلماذا ــ إذن ــ نستكثر من (أولد هكسلي) أن يتنبأ بيوم تنتقل فيه الرائحة فتجيئك الزهور بأريجها0(عطرها وعبيرها)؟
ولنقل ما نشاء فيما نتج عن هذين الجهازين من معلومات تكدست بها رؤوس الناس ، من القابع في خيمته في جوف الصحراء، إلى ساكن المدينة.
لكنها نعمة لم يشأ لها الإنسان أن تكون له نعمة خالصة، يزداد بها الناس علماً ومعرفة وثقافة وتهذيباً، فمزجها بشرور من طبعه حتى صارت هذه النعمة على يديه في الكثير من حالاتها ــ نقمة ــ تضيع معها تلك البقية التي كانت بقيت للفرد من حرية، ليفكر كيف شاء، ويشعر كيف أراد،ويسلك كيف استطاب.
فإذا كان للعلم في عصرنا فضل النعمة، فقد كان للسياسة في عصرنا أيضاً إثم النقمة، وذلك حين تخطط السياسة لنا ما تريدنا أن نراه وأن نسمعه، يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام، وإذا إرادات الناس قد "صنعت" لهم، وإذا أفكار الناس قد حفظت في علب جاهزة، وإذا مشاعر الناس قد رُسِم لها الطريق، وإذا الجميع آلات تدور كما يُرادُ لها ان تدور.
هل هى محض صدفة عمياء أن نرى في هذا العصر ما لم يشهده التاريخ كله، ولا شهد مثقال ذرة منه، أن يشهد هذا التقارب الذي جمع أطراف الدنيا في جهاز صغير بين يدي كل إنسان ، وأن يشهد التقارب بين شعوب الأرض جميعاً وهى مجتمعة في هيئة الأمم المتحدة وفروعها، وفي مؤتمرات تعقد هنا وهناك، على قمم الجبال تارة وفوق السفوح طوراً، لقد قيل بحق أن الكوكب الأرضي أصبح "قرية ذرية" أو "قرية كونية".
أهى محض صدفة عمياء أن يشهد عصرنا هذا التقارب الشديد بين أجزائه وأطرافه، ثم يشهد في الوقت نفسه، ما لم يشهده في أي عصر من عصور التاريخ. من التنافر بين أبنائه؟
يحدث كل يوم أن تفتك جماعات الناس بعضها ببعضها الآخر، غيلة وغدراً بالقنابل وبالحرائق وبالخطف والاعتقال وبكل ما يسع الخيال أن يتصوره من وسائل، لماذا؟.. لأن السياسة قد أرادت، أو لأن ألوان الجلود قد اختلفت، أو لأن العقائد الدينية قد تباينت. ومن يدري لعل يوماً قريباً سيأتي لتفتك جماعات الناس بعضها ببعض الآخر، لأنهم لم يتفقوا مزاجاً في ألوان الثياب، وصنوف الطعام.!
لم يكن اجتماع هذين النقيضين في عصر واحد مصادفة عمياء، وإنما هى أجهزة الإعلام وما تفعله بالرؤوس.!
فإذا كان التقارب المعاصر بين شعوب الأرض ظاهرة أملاها "العقل" ويرحب بها العقل، ويتمنى لها المزيد، فإن التنافر الذي يَبُثُ كل تلك العداوة بين الشعوب، بل وبين أجزاء الشعب الواحد أحياناً كثيرة، إنما هو ظاهرة اخرى تمليها النزوات والأهواء والغرائز الحيواينة.
جاءت أجهزة الإعلام ــ الراديو والتلفزيون والفضائيات والنت ــ لتخدم هذه النزوات والأهواء والغرائز بتوجيه من رجال السياسة، فهذه الأجهزة تعبأ بمواد مختارة، لتعبئ بدورها أدمغة الناس بما يشعل فيهم التحزب والتعصب وضيق الأفق.!
القابض على هذه الأجهزة قابضٍ في الوقت نفسه على عقول الناس وقلوبهم وعزائمهم وكل ما هو حيوي في كيانهم، لذلك أنه إذا ما حدث انقلاب في بلد ما كالانقلاب العسكري في مصر اخيراً بعد إنتفاضة الشعب المصري المشهود لها ، أول ما يفكرفيه المنتصرون هو أن يحتلوا الإذاعة والتليفزيون، لأن ذلك معناه الامساك بزمام الجمهور فكراً ووجداناً.
لا حيــــلة للمتلقي من هذين الجهازين ــ الاذاعة والتلفزيون ــ إلاأن يتلقى، فالآذان مفتوحة لتسمع والأعين مفتوحة لترى، إنه لا مناقشة ولا حوار؟
فحركة مرور الأفكار والمؤثرات النفسية تشبه حركة المرور في إتجاه واحد، فالإتجاه واحد من الجهاز إلى العين أو إلى الأذٌن، ثم لا رجوع أو مراجعة، بل ولا مهلة للتفكير أو للتدبر، الأصوات والألوان، تنزل على المتلقي كما ينزل المطر على السائر في الفلاة أو الخلاء، ليس هناك ما يحميه من شجر او جدران أو أي ضرب من ضروب العمران.
أول أركـــان الحــــرية هو النقد، أن تكون أمام المتلقي فرصة الفحص والتمحيص لما يتلقاه، لتكون له ــ بالتالي ــ مبررات القبول ومبررات الرفض، أما أن تجيئنا البضاعة مغلفة بأغلفة عازلة ، تحول وتمنع دون التحليل والتركيب والتقليب، لنتبين الجيد من الردئ، فمعناه اننا لا نلبث أن نكون كالدمى في مسرح العرائس، يحركها من يحركها وهو في الخفاء.
الفرق كبير نلحظه في تكوين الانسان، بين أن يكون هذا التكوين مصدره الكتاب ، وأن يكون مصدره هذه الأجهزة.
القارئ يتفاعل مع الكاتب، يسرع تقليب الصفحات، أو يقف ويتمهل عند جملة واحدة بضع ساعات يناقش محتواها،إنه في الكتاب يملك زمام فكره وشعوره، أما ومصدر تكوين الانسان جهاز من هذه الأجهزة، يصب في أذنيك الصوت، وفي عينيك الضوء، صباً متلاحقاً لا تملك له إيقافاً ولا إسراعاً ولا إبطاء،ومحتوم عليك أن تقبل الجَمل بما حمل، جيده مع رديئه ، فمصير ذلك تبعية وعبودية ، وتمزق وفراغ.
الأثر المتروك في مخ مغسول يشبه الأثر المتروك في حالات المُتلقيِ من الإذاعة والتلفزيون وسيلهما المنهمر، دون أن يكون لهذا المخ فيما يتلقاه حول ولا قوة، فالنتيجة واحدة.
وربما سائل سائل: لماذا جعلت المتلقي أمام الراديو والتلفزيون مفقود الإرادة وفي وسعه أن يبدل قناة بقناة، وموجة بموجة، أو أن يغلق الجهاز ويستريح؟
الجواب: على ذلك أن الانتقال من قناة إلى قناة ومن موجة إلى موجة، إنما هو بمثابة استبدال سيد بسيد آخر، وأما إغلاق الجهاز فليس شبيهاً بإغلاق الكتاب، لأنك تُغلق الكتاب لتأتي بكتاب آخر، على أنه لا آخر نلوذ به في حالة الإذاعة والتلفزيون.
ما هو الحل؟ الحل:
1- هو ان نبقي لهذه الأجهزة على نعمتها وأن نلتمس وجهاً للخلاص من نقمتها، ونقمتها أساساً هى تلك الحرية السلبية،
طريق الخلاص موجود، يتلخص في أن نسمح لكل ضروب الفكر والاتجاه أن تعلن عن نفسها، فبدل أن تكون الخطة مرسومة على أساس وحدانية الهدف، ترسم على أساس تعدد الخطوط وتعدد الأهداف القريبة، التي تلتقي جميعاً عند هدف قومي واحد بعيد المرمى.
2- أن يكون المجلس الأعلى المشرف على هيئة الإذاعة والتلفزيون مستقلاً في قرارته استقلالاً حقيقياً لا استقلالاً شكلياً يُكتفى فيه بأنه مكتوب على ورق، إذا هو استقل على هذا النحو كانت هناك فرصة
3- أن يكون محايداً في شتى مجالات الرأي وعندئذٍ لا يكون للحكومة حق استخدام تلك الأجهزة أكثر مما يكون لأي مواطن ذي رأي فيه رجاحة العقل التي تبرر أن يظفر بحق التعبير عن رأيه عن طريق الاذاع والتلفزيون.
4- أن المبدأ الأساسي التي تقام أو ينبغي أن تقام عليه هذه الأجهزة الاعلامية هو : ألا تعرض المادة التي تقدم في تلك الأجهزة على أنها وحدها الاتجاه الفكري الصحيح وأما ماعداها فضلال وباطل، لأنها لو عرضت بهذه الروح وتلك الطريقة، كانت بمثابة غسل لمخ المتلقي.
5- الطريقة الصحيحة والعادلة هى: أن تُعرض المادة التي تقدمها أجهزة الإعلام عرضاً لا يوحي إلى المتلقي بأن يقول هذا صحيح، بل يوحي له أن يقول : هل هذا صحيح؟
أجهزة الإعلام في هذا العصر أدوات سلطانها على الناس جبار، والأنظمة الحاكمة هى التي تصنع من ذلك السلطان شيطاناً يُحيل المستقبلين بضرباته عبيـــداً، أو يمكن ان تصنع منه رسولاً يبشر بالحريـــــة، بل ويزرعها في عقول الناس وقلوبـــــــهم.