لم تتخيل النمساوية "انجا بورج" أن أحدا سيطرق بابها في مدينة "جراتس"، ليزف إليها بشرى العثور على ابنتها "نادية" في مدينة الاسكندرية المصرية بواسطة محرك البحث "غوغل" على الانترنت بعد أن اختفت أثارها تماما من العاصمة "فيينا" في الرابعة من عمرها عندما كانت تقيم معها قبل 22 عاما.
في عام 2005، أوقفت "انجا" البحث تماما، وغادرت "فيينا" إلى مدينتها ومسقط رأسها "جراتس" لتقضي بقية عمرها على المهدئات والحبوب المنومة بعد اصابتها بصدمة عصبية. فقدت الأمل تماما في أنها ستقابل يوما ما "نادية"، وستتلقى منها اتصالا هاتفيا تعلنها فيه أنها ما زالت على قيد الحياة.
نادية محمد السيد الحسيني (26 عاما ومتزوجة) لم تتوقع هي الأخرى العثور على أمها بعد أن أخبرتها السفارة النمساوية باستحالة مساعدتها بأوراق قديمة أعطاها لها أبوها قبل سنتين عقب زواجها من شاب انتقلت من القاهرة لتعيش معه في الاسكندرية.
ابرة في كوم "قش"
تقول نادية التي تحمل بكالوريوس كلية التجارة من جامعة حلوان – جنوب القاهرة - لـ"العربية.نت": بدا الأمر بالنسبة لهم في السفارة بحثا عن ابرة في كوم من "القش". قدمت لهم كل أملكه عن أمي.. شهادتين قديمتين، الأولى بشأن زواجها من أبي وتتضمن اسمها وتاريخ ميلادها، والثانية شهادة حضانتها لي صادرة من أحد المحاكم في فيينا بعد طلاقها من أبي عام 1984، وصورة لها بثوب زفافها إلى أبي.
لجأت نادية إلى وسيلة لم تنتظر منها أي نتيجة على حد قولها " اهتديت إلى محرك البحث "غوغل" على الانترنت للوصول إلى مصريين أو عرب يعيشون في النمسا. عثرت على اسم المصري الأصل والنمساوي الجنسية "حمدي سليمان" الذي يعيش مع زوجته وأولاده في فيينا منذ سنوات طويلة. في نفس الليلة استطعت أن أحدثه على (الماسنجر) وأطلب منه مساعدتي في حل مشكلتي".
تضيف: لم أشعر في كلامه بأي أمل. أرسلت له الشهادتين والصورة فازداد يأسا. بعد يومين قال لي إن لديه أخبارا هامة، فقد توصل إلى المدينة التي انتقلت إليها أمي. لم أعرف هل أفرح أم أبكي، فقد وعدني بأنه سيسافر ويبحث عنها في العنوان الذي لديه. خشيت أن تكون قد ماتت، فأفقد حتى الأمل الضعيف في مقابلتها يوما والنوم في أحضانها.
لحظات عصيبة
تواصل نادية الحسيني: في اليوم التالي اتصل بي حمدي سليمان على الانترنت من بيت أمي في "جراتس" واعطاها لي. ورأيتها ورأتني بواسطة "الفيديو كونفرنس". يعجز لساني أن يصف تلك اللحظات. بدأنا نتحدث بالانجليزية فأنا لا أعرف الألمانية بالطبع وهي لا تعرف العربية. وعندما عجزت حصيلتنا اللغوية أن تنقل تعبيراتنا وأشواقنا ونبضات قلب أمي ونحيبها ودموعها الغزيرة، تكفل سليمان بترجمة مشاعرها لي ونقل مشاعري إليها.
لم تضيع وزارة الخارجية النمساوية وقتا بعد أن جاءهم اتصال من برنامج "تيمة" الذي تقدمه القناة الثانية بالتليفزيون النمساوي وكان يتابع هذه القضية المثيرة أولا بأول منذ العثور على مكان الأم "انجا بورج" في مدينة "جراتس" وابنتها نادية الحسيني في مدينة الاسكندرية.
تم على الفور استخراج جواز سفر نمساوي مؤقت لنادية باعتبارها نمساوية، استلمته بالفعل من السفارة بالقاهرة، وستسافر خلال عشرة أيام لتلحق بأمها بعد 22 عاما من الفراق حسبما تقول لـ"العربية.نت".
"نادية" تسافر لأمها
وتضيف: سأقيم معها وقد أخبرت زوجي بذلك فوافق رغم ارتباطه بوظيفة جيدة في الاسكندرية، وسأرى حجم تأقلمي مع الحياة هناك وبعدها سأرسل له ليلحق بي. ومع هذا تتمنى نادية لو أن أمها هي التي تنتقل للعيش معها في مصر.. "سيكون الأمر حينئذ أسهل كثيرا خصوصا لزوجي ولي، ومع هذا فان زواجنا لن يتأثر وحتما سنجد حلا لأي مصاعب تواجهنا ونحن نعيد ترتيب حياتنا بعد ظهور هذه المفاجأة".
لا تذكر نادية أي شيء عن تفاصيل حياتها في النمسا "كنت في الرابعة من عمري، كل الذكريات طمست تماما. لا أتذكر حتى ملامح أمي أو أختى غير الشقيقة (كاميلا) التي كانت تكبرني بحوالي سبع سنوات. عندما أتيح لي أن أرى أمي على الانترنت بواسطة (الفيديو كونفرنس)، وجدتني اشبهها تماما، كأني هي الخالق الناطق".
تحكي نادية لـ"العربية.نت" عن مشاعر أبيها: فرح وبكي. أسعده العثور على أمي، وأبكاه أنني سأتركه بعد تمسكه بي طوال أكثر من عقدين، وعدم السماح بوصول أي معلومة لي عنها قبل زواجي".
الأم: اخذها واختفى
الأم النمساوية انجا بورج (57 عاما) تقول لـ"العربية.نت": طلقت من والد نادية عام 1984 بعد زواج استمر 3 سنوات. حصلت على حكم بحضانتها وظلت تعيش معي ومع أختها "كاميلا" في فيينا وكنت أعطيها لأبيها بضع ساعات أسبوعيا، لكنه في يوم 5-5-1985 أخذها ولم يعيدها.
تضيف: بحثت عنهما في كل مكان وطلبت من كل الجهات المختصة في النمسا ومصر المساعدة في ارجاعها لي دون فائدة. ساءت أحوالي الصحية وتركت فيينا لأقيم في مدينتي "جراتس" وعشت على المهدئات لأنسى، ولكن صورتها وهي طفلة جميلة في الرابعة من عمرها لم تتركني لحظة واحدة".
وتتابع بورج: جاءتني جارتي في جراتس وسلمتني ورقة صغيرة بها الهاتف المتحرك لشخص حضر أثناء غيابي عن المنزل، يقول إنه عثر على أوراق هامة فقدتها قبل سنوات. ارتبت في الأمر لأنني لا أذكر أني فقدت شيئا. طلبته وتحدثت معه فطلب أن يزورني خلال دقائق وقال زيادة في طمأنينتي إن زوجته برفقته.
وتصف أجمل لحظات حياتها " أخرج صورة قديمة لي يعود عمرها لعام 1981 عندما تزوجت بوالد نادية، فقلت له إنني لا أعرف التي بالصورة لكنها تشبهني، ثم أخرج صورة حديثة لابنتي.
وتقول انجا بورج: لم أصدق نفسي أو أصدق اللحظة عندما أتيح لنا أن نتحدث ونرى نفسينا عبر الانترنت. بدا لي هذا العالم الضخم المترامي الأطراف مكانا صغيرا محدودا. أنا الآن أسابق الزمن لكي التقي بها بعد هذا العمر الطويل.
لا تريد انجا اى علاقه جديدة مع والد نادية ولا حتى حديث الذكرى الموجعة لها التى اضاعت منها سنوات تمنت أن ترى خلالها ابنتها تكبر امام عينيها، وأضافت بأن حرمانها من طفلتها 22 سنه لن تعوضه اى اعتذارات او تبريرات.
لكنها تشكر عائلة الزوج على عنايتهم بنادية، ولا تريد اقامة علاقات معهم حتى لا تعود الى الذكريات الحزينة.
أما "كاميلا" أخت نادية من الأم فتقول لـ"العربية.نت" بأنها عاشت سنوات قليلة من طفولتها مع نادية، وبعد غيابها الطويل ايقنت أنها لن تلتقي بها مرة أخرى، وهي الآن تترقب هذه العودة بلهفة وشوق.
رحلة البحث عن الأم
بطل هذه القصة حمدي سليمان يقول لـ"العربية.نت": ارتبت في أمر نادية عندما كلمتني على الانترنت، لكن الاسم الذي ذكرته لأمها جعلني أصدق بعض الشيء فهو اسم نمساوي غير دارج في مصر مثل اسم كريستينا مثلا. ثم أرسلت لي بعض الأوراق وصورة قديمة لأمها في ثوب زفافها من والدها.
يتابع: بحثت عن اسم "انجا" في دليل هاتف للمشتركين في أوروبا اسمه (هارولد) يشمل المسجلين فقط فلم أجده. في اليوم التالي ذهبت إلى بلدية فيينا وبحثت عنه في قسم خاص بالمواطنين والمقيمين، فأخبرتني الموظفة بوجود الاسم وأنها من مواليد مدينة "جراتس" وحصلت على العنوان بعد أن قدمت بياناتي الشخصية لهم.
يستطرد حمدي سليمان: اتصلت ببرنامج "تيمة" في القناة الثانية النمساوية ليكون شاهدا على هذه اللحظة فارسل معي مجموعة من صحفييه ومصوريه، وذهبت الى منزلها فلم أجدها فتركت رقم هاتفي عند جارتها وهكذا جرت الأحداث، التي لم تستغرق الخارجية النمساوية بعدها سوى وقت قصير لتمنحها جواز سفر مؤقت بحكم أن القانون يمنح الجنسية لأبناء الأم أو الأب إذا كان أي منهما يحمل الجنسية النمساوية.
ويرى حمدي سليمان أن هناك حالات كثيرة ضحية للزواج المختلط بين جنسيات أوروبية وعربية، ولكن هذه الحالة تحديدا تكمن مأساتها في ان الأب استطاع ان يخفي أثره تماما عن الأم، فقد ضمها لجواز سفره ثم سافر بها إلى القاهرة، ورفض أي محاولة منها لمعرفة مكان أمها، والأخيرة فقدت كل اتصال به، سيما أنه تزوج وترك نادية في حضانة جدها لسنوات طويلة.