سؤال محدد يطرح نفسه علينا لكن سرعان ما يجد، القارئ مجال التفكير قد اتسع حتى شمل جوانب أخري كثيرة في حياة الناس العملية والنظرية على حد سواء.
وهذا السؤال هو : ما مدى التبعية الأخلاقية التي يتحملها انسان، إذا كان ذلك الانسان قد تعرض للعملية التي يطلقون عليها اسم"غسل المخ" على أيدي أعدائه وهو أسير،و(المخ المغسول) ــ كما هو معلوم لنا ــ عبارة يشار بها إلى الحالة العقلية والوجدانية والارادية ، التي تبث في الانسان بوسائل علمية، لتحل محل ما كان قائما عنده من قبل؟.
فإذا كان الفرد المعين يفكر على نحو ما تربى في بيته وأمته الأصلية، وإذا كان ذا مشاعر خاصة نحو أشياء بعينها ، بحيث يؤدي به ذلك كله إلى أن يسلك في حياته سلوكاً ذا صورة معينة، جاءت عملية "الغسل" فغيرت له هذا كله، لتضع مكانه أي شيئاً آخر يريد صاحب الشأن أو المسيطر أن يضعه؟
ويخرج المسكين ـ دون أن يدري ـ وإذا هو قد إتخذ نفسه"وجهة نظر" أخرى، فتكونت له ــ بالتالي ــ أفكار أخرى ومشاعر أخرى، فيحب ما كان يكرهه قبل غسل المخ، ويكره ما كان يحبه، ويمكن أن نضرب مثلين أحدهما دولي والآخر محلي ، الأول: في حالة الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب فيتنام، على عقيدة داخلهم بانهم ذهبوا ليحاربوا باطلاً ووقع الكثير منهم في الأسر وتعرضوا لغسل المخ بالطرق العلمية، انتهى بهم الأمر إلى يقين آخر فيما يختص بالحق والباطل،وإنما ذكرت ذلك المثل لأنه مأخوذ من الواقع الفعلي، فكثيرون هم أولئك الذين قرأنا عنهم وعما قالوه بعد عودتهم إلى وطنهم الأمريكي من حرب فيتنام وما أصابهم فيها من أسر، وكيف تغير إطارهم الفكري والشعوري كله، نتيجة مباشرة لما أجرى عليهم من عمليات سيكولوجية.
المثل الثاني هو ما يصيب الكثير من الشباب والشيوخ المصريين من تغير في العقيدة والايديولوجيا ، فنجد الشاب المصري أو الفتاة المصرية بعد أن كان متناغما مع مجتمعه ويلبس بطريقتهم ويفكر بطريقتهم ويحب ما يحبونه ويكره ما يكرهونه من ثوابت عامة لدى الجميع، فبعد ان يتعرض لعملية غسل المخ من جانب نظام دكتاتوري مضلل أو من جانب تيار ديني وهابي غزا عقول الشباب والفتيات والكثير من الشيوخ تغير إطارهم الفكري والشعوري نحو المجتمع ونحوالآخر المختلف في العقيدة والثقافة بداخل الوطن او خارجه (المجتمع الدولي).
فالسؤال الذي يطرحه هذا المقال هو ــ كما أشرنا ــ على أي أساس تقام التبعية الأخلاقية، إذا كان الانسان قد أصبح في حالة تجعله يريد إرادة غيره، إذ هو يريد ما أراده له غيره أن يريد، ويظن هذا الانسان أنه حر الاختيار لما يفعله، مع أنه في حقيقة الأمر، يفعل ما أُرِيدَ له.
التنويم المغناطيسي مثال يوضح لما نبحثه هنا فالذي يتم تنويمه مغناطيسياً بهذه الطريقة يُؤمر بفعل أشياء، فينفذها وكأنما هو ينفذ ما أراده لنفسه، إلى أن تزول عنه آثار التنويم فيعود إلى وعيه.
فلسفة الأخلاق وباحيثيها يطرحون السؤال الآتي: هل الانسان ذو المخ المغسول أو المُنَوّم مغناطيسياً في هذه الحالات يُعدُ مسئولاً عما يفعل؟
صحيح أنه مع التقدم الذي حققه علم النفس في العصر الحديث، أصبح في حدود المستطاع بدرجة أكبر جدا مما كان في مقدور الانسان ــ قبل ذلك ــ أن يشكل سلوك من أراد تشكيل سلوكه، وعلى الصورة التي يريدها له، والتجارب على الحيوان في هذا المجال كثيرة وناجحة وأبرزها ما قام به العالم الروسي بافلوف منذ أكثر من أربعين عاما على الكلاب ، فقد جعل لعاب الكلاب يسيل في الوقت الذي يحدده هذا العالم لها، وكذلك يمكن أن نذكر في هذا الصدد ما يستطيعه مدرب الحيوان في "السيرك" فلا الأسد يصبح بين يديه أسداً ولا الفيل يظل فيلاً بل كل يفعل ما رسم له المدرب أن يفعله.
وهذا ما يفعله أي نظام مستبد ديكتاوتوري ومضلل لشعبه مستخدما سذاجة العامة وحبها لحياة العبودية والخنوع أو عشقها للتدين المرسوم لها من جانب رجال وكهنوت الدين من شيوخ وآباء!!
ويتعجب الباحث في مجال فلسفة الأخلاق من أن نقصر الحديث على المخ المغسول في في ظروف سياسية أو عسكرية فقط مما يتكرر حدوثه في عصرنا.! ... إذ ماذا تكون الثقافة الخاصة بأي شعب من الشعوب إذ لم تكن نوعاً من صب النشء في قالب فكري وشعوري وإرادي ، يضمن لذلك النشء أن يشبوا على غرار آبائهم، فيتجانسون معهم فكراً وشعوراً وسلوكاً ...
وهذا ما وصفه القرآن الكريم عن تتبع غالبية المجتمع بشبابه وشيوخه وفتيانه وفتياته لما وجدوا عليه آباءهم السابقين حتى ليعد الخارج عن النمط المألوف الموروث "منحرفاً" يستحق العقاب والتقويم.. فيقول تعالى في هذا {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }الزخرف فإذا ما بل23
فإذا ما بلغت "التربية" بناشئ حد كمالها ، رأيته يفكر كما يفكر الآخرون، ويشعر كما يشعر الآخرون، ويسلك كما يسلك الآخررون، وهو في كل ذلك يظن انه حر الإرادة يختار لنفسه بنفسه فكره ووجدانه وسلوكه، وهذا يذكرنا بما قاله "اسبينوزا" عن الحجر الملقى لو كان ذا شعور ونطق ، لقال إنه قد سار في مساره، وسقط على الأرض في المكان الذي حدده الحجر لنفسه، بحر إراداته وبمحض إختياره..!
ولو عرف الحجر حقيقة أمره لعرف أن اليد التي قذفت به،هي التي قد رسمت مساره وبقوة الدفع التي لابد معها أن يسقط حيث سقط.
الثقافة الإقليمية في مجموعها ــ ومعظمها الثقافة السلفية الوهابية ــ تُكون غلافاً يحيط بعقل الانسان العربي والمصري ووجدانه وإرادته ، حماية له في مواجهة المؤثرات الخارجية، التي قد تفتت هذه الثقافة فتمحو معالمها، وهى في الوقت نفسه غلاف يقيد حركة العقل ويكتم أنفاسه، فيحرم الانسان الحبيس انطلاقة الادراك وحرية الارادة.
إذا كانت الثقافة الإقليمية ــ التدين السلفي الوهابي ــ تصنع ذلك الصنيع في أبنائها، فإن خطورة الانغلاق تزداد فداحة، حين يحتفر الانسان لنفسه، داخل ذلك المعتقل الثقافي الايديولوجي جحراً يلوذ به، فعندئذٍ تزداد الظلمة ظلاماً، ويزداد الغطاء كثافة، فيحجب عن ذلك الانسان كل قبس من ضياء.!
فيعيش الحبيس في أوهام كهفه وهو يظن أنه يواجه الحق الذي لا ريب فيه،فالطريقة التي يربى بها الناشئ، والأشياء التي يعاقب عليها أو يثاب ، والمقارنات والمفاضلات التي تجري أمامه والتي تجعل شيئاً أفضل من شئ ــ وفكرة أصح من فكرة وعقيدة أصح من عقيدة ــ وهكذا هذه الطريقة تنتهي بذلك الناشئ إلى "وجهة نظر" على أساسها يصدر بعد ذلك احكامه ، بحيث يصعب جداً أن تقنعه بأن ما عنده إنما هو "وجهة نظر" نشا عليها، وكان يمكن أن ينشأ في ظروف أخرى فتتكون له "وجهة نظر" أخرى.
الانسان هو حصيلة ما يراه ويسمعه ممن يحيطون به، وذلك هو ما جعل ديكارت يتساءل ــ عندما أراد أن يكون على يقين من من صحة المعرفة التي جمعها على مدار أيامه ــ يتساءل: من ذا أدراني بأن المعرفة التي جمعتها معرفة صحيحة؟ إن مقداراً كبيراً منها قد جمعته حين كنت لا أملك القدرة الناقدة التي أمحص بها تلك المعرفة كلما تلقيت شيئاً منها .
ومن هنا أخذ يفرغ رأسه من كل ما يحتويه، باحثاً عن ركيزة يقينية يستند إلى إليها فيما يعود إلى قبوله أو تركه من تلك المعرفة التي جعلها موضع شـــك حتى يثبت له صوابها على أساس مكين.
فقال د يكارت مبدأه المشهور:أنا أفكر فأنا موجود"
إلى هنا نقف عند هذا الحد في هذا الموضوع وإلى لقاء في الجزء الثاني.