أرسل لى الدكتور محمد السعيد مشتهرى، مدير مركز دراسات القرآن الكريم، دراسة مهمة عن رأيه فيما يقال عن الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية وهو معترض على هذه التسمية من منطلق حرصه على الدين، وسنحاول عرض وجهة نظره التى من الممكن أن تثير الجدل، ولكنها حتماً ستزيد الفكر السياسى والدينى ثراء. يقول د. مشتهرى «إنه من الخطر الكبير أن نرفع شعار (الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية)، مستغلين عاطفة الشعب الدينية، التى دفعته لأن يقول «نعم» للإسلام، وليس لهذه المرجعيات الدينية المذهبية، التى لا يعلم عن تاريخ صراعها الدينى والسياسى شيئا»!! إن ظاهرة تفرق المسلمين وتشرب قلوبهم ثقافة التخاصم المذهبى تنذر بخطر عظيم يهدد مستقبلهم، وفاعلية رسالتهم فى مواجهة التحديات المعاصرة. وإن تفرق المسلمين إلى مذاهب عقدية وتشريعية، ترمى بعضها بالفسق والضلال، يُعدّ مخالفة صريحة لسنة النبى فى إقامة «الشهادة على الناس». فما حدث من تفرق وتخاصم بين المسلمين، بسبب أحداث «الفتن الكبرى» قد مزق وحدتهم، وجعلهم يعيشون داخل دوائر مذهبية مغلقة، لكل مذهب منابره، و«مرجعياته الدينية»، التى يستقى منها فهمه للدين، ولنصوص «السنة النبوية»، التى إن صحت عند مذهب لم تصح عند آخر!! ويستكمل مشتهرى قائلاً: «هذا ما بدأت به حديثى عن (أزمة المصطلح الدينى)، فى كتابى الرابع، من سلسلة (نحو تأصيل الفكر الإسلامى)، وفيه ناقشت كيف وظّفت الفرق والمذاهب الإسلامية المصطلحات الدينية توظيفا دينيا وسياسيا، حسب ما ورثته من (مرجعيات دينية) مذهبية، انفردت بها كل فرقة، بل وانفرد بها كل مذهب من مذاهب الفرقة الواحدة، بعد (عصر التدوين).. لقد ورث المسلمون، بعد عصر التدوين، كتاب الله تعالى، ومعه (مرجعيات دينية) متعددة، كلٌّ حسب مذهبه الذى ولد فيه، وحسب المؤسسة الدينية التى تأهل فيها، ليصبح عالما مقلدا، يستقى علمه من (مرجعية المذهب) الذى ينتمى إليه، وتفاعل علماء سلفه معها.. وهو ما عليه معظم المسلمين اليوم»! والسؤال: هل جعل الله تعالى كتابه الخاتم «آية قرآنية» [أى معجزة قرآنية] تشهد بصدق «نبوة» رسوله محمد فى كل عصر، كى يهجرها المسلمون، ويتبعوا «مرجعياتهم» السلفية المذهبية، التى ظهرت بعد الفتن الكبرى، وبعد تفرقهم إلى فرق ومذاهب متخاصمة؟! وأجيب عن هذا السؤال فى نقطتين: أولا: إن «الإسلام» الذى يتحدث عنه أتباع «المرجعيات الدينية» المذهبية، ليس هو الدين الذى ارتضاه الله تعالى للناس كافة، الذى يقوم على فاعلية نصوص «الآية القرآنية» فى كل عصر، وإنما هو الفهم التاريخى للتراث الدينى، الذى دوّنه أئمة السلف بعد تفرق المسلمين إلى فرق ومذاهب مختلفة، وأصبحت لكل فرقة مرجعيتها، التى تستقى منها فهمها لنصوص الكتاب حسب توجهها المذهبى، ولنصوص «السنة النبوية»، حسب شروط علماء الحديث، فى التصحيح والتضعيف، والجرح والتعديل. لذلك لا يصح أن يتحدث باسم «الإسلام»، كل من ينتمى إلى فرقة من الفرق الإسلامية، أو إلى مذهب من مذاهبها، وإنما عليه أن يتحدث باسم الفرقة أو المذهب الذى ينتمى إليه، حتى لا ينسب إلى «الإسلام» ما ليس منه، إنه يجب ألا نرفع راية «الإسلام»، أو نتحدث عن شرعته، إلا إذا كنا نتحدث عن نصوص «الآية القرآنية» وفاعليتها فى هذا العصر. ثانيا: لقد تمكن «فقه التخاصم والتكفير» من قلوب كثير من علماء الفرق والمذاهب المختلفة بعد أن غاب تفعيل «فقه الآية القرآنية» عن ساحة التقدم الحضارى. لذلك كان من الطبيعى أن يتخوف العالم من اقتراب الإسلاميين، أو من صعودهم إلى دائرة الحكم، وهم محقون فى ذلك تماما، ولكن لماذا؟!.. لأن معظم «المرجعيات الدينية» المذهبية، التى يستقى منها المسلمون دينهم، تحمل فى نصوصها، وفتاواها، قنابل فكرية موقوتة، تنتظر الوقت المناسب للتفجير!! لذلك يجب ألا تنخدع الشعوب بالمناورات السياسية، ولا بمبدأ «التقية»، الذى اعتاد أنصار هذه «المرجعيات المذهبية» أن يستخدموه على مر العصور، لإرضاء الشعوب، وإشاعة روح الطمأنينة بين أفرادها. فإذا وصلوا إلى الحكم، كشفوا عن هويتهم، وأعادوا البلاد إلى عصور «الفتن الكبرى»، وجعلوا مرجعياتهم التخاصمية حاكمة على نصوص «الآية القرآنية»!! ونستكمل غدا.. |