شاهدت أمس لقاءاً على موقعكم الطيب أدارته الاعلامية منى الشاذلي بين الدكتور / خالد منتصر عن التيار الليبرالي والشيخ صبحي صالح عن التيار السلفي.. وكلا منهما أدلى بدلوه ودافع باستماتة وببسالة وبكل ما أوتى من قوة عن وجهة نظره وعن ايديولوجيته.. وكأنه هو وقبيله المنقذون لمصر..! وهذا ما شجعني على كتابة هذا المقال..
وإنه لا ضرر أن تتعدد الاهتمامات والاتجاهات بين الأفراد، بل لا بد لها أن تتعدد ، وإلا انقلب هؤلاء الأفراد كالمصنوعات التي تخرجها المصانع مصبوبة في قالب واحد، كالسيارات والطائرات والجوارب والأقلام وهى من ظراز واحد، فكل واحد منهما يغني عن أي واحد، لكن اهتمامات الأفراد واتجاهاتهم مهما تنوعت وتباينت، فلابد لها ـــ إذا كان المجتمع سوياً ـــ أن تلتقي عند نقطة بعيدة،وتلك النقطة هى التي قد نطلق عليها روح العصر، أو هدفه أو فلسفته.
أو غير ذلك من الرباط الخفي الذي يربط الكثرة الكثيرة التي تراها عائمة على سطح الحياة اليومية الجارية، ولولا ذلك الرباط الذي يجمع الكثرة البادية من اهتمامات الأفراد واتجاهاتهم في قالب واحد ووحدة واحدة، لما استطاع مؤرخ ان يؤرخ لأمة من الأمم.
إذ كيف يؤرخ ما لم يجد في العصور المتلاحقة ما يميز بعضها عن بعض؟ بل كيف يتاح له ان يشير إلى مرحلة زمنية معينة على أنها "عصر" من عصور التاريخ في حياة تلك الأمة، فالعصر المعين إنما يكون عصراً قائما بذاته، متميزا بصفاته، بالنسبة إلى ما سبقه وما لحقه، لكون قد اشتملعلى مبدأ تلتقي عنده مختلف الاتجاهات والاهتمامات والأفكار والمذاهب.
في العصر الواحد المعين، هناك ساسة ينشطون اتفاقاً واختلافاً بعضهم مع بعض ، وهناك رجال فكر يتجانسون أو يتعارضون، وهناك رجال فن يبدعون فنا كل في مجاله ، وهناك عمارات تقام وتجارة وصناعة وخدمات، هنالك تلك الأنشطة التي يأخذ كل فرد من أفراد الشعب بطرف منها، مما يوهم الرائي أن الأمر كله إنما هو أفراد لكل منهما حياته وشواغله وعمله ومزاجه وفكره. وليس ثمة ما يربط بينهم إلا رقعة جغرافية واحدة تجمعهم على أرضها ..
لكـــــــــــــن لا، إن ذلك التنوع الشديد من شأنه في الحالات السوية السليمة ــ أن يلتقي عند ينبوع واحد ومبدأ واحد ــ برغم أنه يكون هدفا بعيداً يجاوز الأهداف القريبة التي تختلف باختلاف الأفراد.
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف تسنى للمؤرخين أن يقولوا عن اوروبا في عمومها ، أنها في عصر النهضة إبان القرن السادس عشر، وفي عصر الإعلاء من العقل إبان القرن السابع عشر، وفي عصر التنوير بنشر المعرفة إبان القرن الثامن عشر، وفي عصر سادته النزعة التطورية الدينامية إبان القرن التاسع عشر، وفي عصر تغلب عليه نزعة التحليل في القرن العشرين.
بل أنظر إلى مصر في خلال القرون العشرة الأخيرة ألا تستطيع أن تميز في وضوح ثلاث مراحل كبرى، لكل منها طابعها واتجاهها ــ المرحلة الأولى: وهى مرحلة دار نشاط العلماء فيها حول تجميع التراث وتبويبه وتنسيقه، وكانت نهاية هذه المرحلة مع نهاية القرن الخامس عشر.
المرحلة الثانية: مرحلة حفظ لما هو وارد في كتب الأقدمين وشرحه وتلخيصه وتعليمه وهى مرحلة انتهت مع بداية القرن التاسع عشر.
المرحلة الثالثة: هى التي امتدت خلال القرنين الأخيرين التاسع عشر والعشرين، وهى التي نحياها اليوم..
وفيها نلحظ التصدع الذي جعلنا اشتاتاً تكاد لا تجد رابطاً ثقافياً يربطنا في كيان واحد ذي رؤية واحدة. على أن هذه المرحلة قد جاءت في موجات تتفاوت فيها ظاهرة التصدع الثقافي قوة وضعفاً ..
وكانت الوحدة الثقافية على أقواها في النصف الأول من هذا القرن، برغم الازدواجية التي كانت تكمن فيها، بين إتجاه سلفي من ناحية ، وإتجاه غربي من ناحية اخرى.
وأما تلك الوحدة الثقافية او ما يشبه أن يكون وحدة ثقافية فهى على أضعف صورة لها في الفترة الراهنة التي نجتازها فبعد أن كان الاختلاف في الجيل الماضي لا يعدو إلا أن يكون ازدواجية في الاتجاه والرؤية ، أصبحنا اليوم موزعين على جميع اطياف الضوء أو قل ألسنة النيران.
إذ تشقق كل فرع من ازدواجية الجيل الماضي قنوات وكل قناة خرجت منها ترع، وكل ترعة انبثقت منها جداول، فالاتجاه السلفي اليوم عدة أشكال، والاتجاه الغربي عدة صنوف.
الحـــــــلول:
إن أول ما تمليه علينا البديهة والذكاء في هذا الصدد، هو أن نخطط لتربية أبنائنا خطة تجمع ناشئة الأمة جميعاً ــ تحت مظلة ثقافية واحدة ــ لفترة من اعمارهم تطول أوتقصر بحسب قدرتنا المالية، ولنفترض أننا قادرون على إقامة هذه التربية المشتركة حتى يبلغ أبناؤنا وبناتنا سن الخامسة عشر من أعمارهم.
فإلى تلك السن يستقي كل الدارسين من ينبوع واحد وبطريقة واحدة، ثم بعد ذلك تتفرع الدراسة بمن أردنا له أن يتابع دراسته، فروعاً مختلفة في المرحلة الثانوية، يكون بينها فرع يؤدي بأصحابه إلى الجامعات، وفرع يتخصص استعداداً لجامعة الأزهر، وفروع للدراسة الثانوية التجارية أو الصناعية أو الزراعية.
فمهما تنوعت بهم سبل الدراسة الجامعية، أو سبل العمل فقد ضمنوا قبل ذلك اشتراكهم في جانب هام من مكونات الرؤية الثقافية الواحـــــــدة الموحدة.
ذلك كان ينبغي أن يكون .. أما ما هو قائم بيننا اليوم في نظم التعليم.. ففيه ما يعمق الفجوات بين أبناء الشعب ومن ذلك: ان الخط الدراسي المؤدي إلى الأزهر يبدأ استقلاله منذ اللحظة الأولى في حياة الدارس.
بمعنى أن يخرج الشقيقان من بيت واحد ، وهما بعد على الدرجة الأولى من سلم التعليم، فإذا كان مقصوداً باحدهما أن يدرس آخر الشوط بالأزهر ومقصوداً بالآخر أن ينتهي به طريق الدراسة إلى إحدى الجامعات الأخرى.
فإن الشقيقين منذ اللحظة الأولى يختلفان اتجاهاً، فأولهما إلى مدرسة اولية تبدأ منها سلسلة المعاهد الدينية، وثانيهما إلى مدرسة أولية من صنف آخر تبدأ منها سلسلة أخرى من حلقات التعليم.
ماذا نتوقع بعد ذلك، سوى أن يصبحا رجلين مختلفين في طريقة النظر إلى الأشياء والأفكاروأنماط الحياة؟
واكرر السؤال الآن: أليس أول ما تمليه علينا البديهة في هذا الشأن، هو أن يتحد جميع أبناء الأمة وبناتها في تعليم واحد، إلى أن نصل بهم إلى نقطة يحدث عندها التفريع، فتختلف بينهم التخصصات دون أن تختلف عندهم الأصول الأولى في تكوين وجهة النظر؟
إذا كانت الدراسة على برامج المعاهد الدينية هى الأصلح ــ في رأي رجال التربية ــ فلتكن تلك الدراسة للجميع، وإذا كانت الدراسة في الخط التعليمي العام هى الأصلح ــ فلتكن كذلك هى الدراسة للجميع.
وأما أن نشق شعبنا وجمهورنا شقين من بداية الطريق إلى نهايتها، فذلك بمثابة من يشير إلى كل من الطائفتين ــ قائلا لها ــ أنتِ طائفة مختلفة عن الطائفة الأخرى، وكان الأصوب أن نقدم إلى الناشئة جميعاً، ما يوحي لهم بقوة أنهم أبناء أمة واحدة، لابد ان تكون لها رؤية ثقافية واحدة.
ومع ذلك ــ فيا ليت الازدواجية الثقافية التي نخلقها بأيدينا خلقاً، تظل ازدواجية ولا يتسع الانشقاق والشقاق والمخالفة والاختلاف، فكما يحدث لقطرة الحبر (المداد) تلقي بها في إناء الماء فلا تظل محددة بحدودها، بل إنها لتتسع وتتسع حتى تتناول بأثرها كل الإناء وما فيه
كذلك يحدث في الازدواجية الثقافية حين تلقي بها في صفوف الجماهير، فتأخذ في التفرع والتوسع حتى يكون لكل مجموعة من الناس رأيها واعتقادها..
وتُنْتِجُ لنا حالة كالتي نحياها اليوم، ولولا عروق ممتدة في حياتنا من تاريخ مشترك طويل ، لرأينا ما قد استحدث فينا من أضداد ومتناقضات أِشـــــــد وضــــــــــــــوحاً.