آحمد صبحي منصور
في
الأحد ٠٦ - أغسطس - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً
السائد فى الفقه التراثى ولدى المتطرفين تقسيم العالم الى معسكرين متصارعين : معسكر الايمان والسلام والاسلام ، وهو دار الاسلام ، وخصمه وهو الغرب ؛ معسكر الكفر ويسمونه دار الحرب. وفى هذا التقسيم يوضع غير المسلمين من الأقليات الدينية موضع الشبهة والاضطهاد ، وينظر اليهم باعتبارهم خونة ينتمون للعدو الخارجى فى معسكر الاعداء أو (دار الحرب )
للانصاف فان ذلك التقسيم لم يكن قاصرا على العرب والمسلمين وحدهم بل كان ثقافة العصور الوسطى فى أوروبا وبلاد المسلمين ، وقامت تلك الثقافة على تدين مبنى على التعصب الدينى المذهبى فى الداخل والحروب الدينية مع المعسكر الآخر فى الخارج. ويدفع الثمن الأقليات الدينية فى المعسكرين هنا وهناك ، كما يدفعها الطرف المهزوم ، ولا ننسى المذابح التى أقامها الأسبان للعرب المسلمين بعد سقوط غرناطة ؛ آخر معقل للمسلمين فى شبه جزيرة ايبريا ، فاذا كان المسلمون يعاملون الطرف المسيحى المنهزم على أنه الأقل شأنا وعليه دفع الجزية ، فان الأسبان قاموا باستئصال المسلمين واليهود تماما، وأفرغوا البلاد منهم . الواقع انه كلما تحمس أحدهم لدينه وفق هذه الثقافة العصرأوسطية ازداد كراهية للآخر ورغبة فى استئصاله. وكان الأسبان هم الأكثر تعصبا و الأكثر قربا للعرب والمسلمين.
الأساس العقيدى لهذا التصنيف هو تقسيم المسلمين الى " أمة محمد " وتقسيم المسيحيين الى "أمة المسيح ". المسيحيون يعتقدون ان المسيح عليه السلام هو المخلّص ، ومعظمهم يؤلهه، وفى غمار الحروب الصليبية والاكتشافات الجغرافية والابادة الجماعية للسكان الأصليين كان الأسبان يرتكبون تلك الفظائع باسم المسيح ، وعموما تم الاستعمار فى العصر الحديث لمعظم العالم الاسلامى وبقية العالم تحت سفن تحمل الصليب، وتتغنى بالمسيحية. هذا بينما المسيحية فى اخلاقياتهت تقوم على الحب والتسامح. والتسامح المسيحى المقترن بالصبر والتضحية نراه تاريخا ناصعا فى حياة أجدادنا المصريين الأقباط. وفى هذا تختلف المسيحية المصرية عن المسيحية الغربية الأوربية ، وخصوصا الأسبانية.
معظم المسلمين فى تدينهم الواقعى يؤلهون محمدا ، يعتقدون بحياته الأزلية فى قبره ، ويحجون اليه ، ويصلون له " السنن" ويعتقدون أنه سيشفع فيهم ويدخلهم الجنة ، ومع أن شهادة الاسلام واحدة ، هى " لا اله الا الله "، يقول تعالى لخاتم النبيين محمد (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ) محمد 19 ) ، الا أن المسلمين جعلوا شهادة الاسلام الواحدة شهادتين ،لا تتم الأولى بدون الثانية ، فيقولون ايضا " ومحمد رسول الله "، وبذلك يعصون الله تعالى الذى أمرهم أربع مرات فى القرآن الكريم بألا يفرقوا بين الرسل ، والمفهوم انك حين تشهد أنه لا اله الا الله فقد آمنت بكل الرسالات السماوية التى نزلت لتؤكد هذه الحقيقة :أنه لا اله الا الله ، وتكون قد آمنت بكل رسل الله تعالى وأنبيائه بدون تفريق بين أحد منهم لأن كل واحد منهم جاهد وناضل وأوذى فى سبيل هذه الحقيقة . بل ان الله تعالى أمر خاتم النبيين أن يعلن أنه ليس بدعا من الرسل وليس مميزا عن أحد منهم ، بل لا يعلم الغيب الذى كان يعلم بعضه بعض الرسل السابقين وانه مجرد متبع للوحى ومجرد نذير مبين( الأحقاف 9 )، ولكن المسلمين يرفعونه الى مستوى الله تعالى ، ففى المساجد تجد اسمه مساويا ومناظرا لاسم الله تعالى ، وفى الأذان تجد الشهادة له وحده بالنبوة والصلاة عليه وحده ، واذا قلت النبى فليس فى الذاكرة والقلب غير( محمد )وحده ، واذا قلت الرسول فهو وحده الرسول مع تجاهل تام لبقية الانبياء والرسل ، اللهم الا فى معرض تفضيل محمد عليهم حمد عليهم فهو " سيد المرسلين " أى الاههم ، وهو"أشرف المرسلين" ، وهو "خير ولد آدم ولا فخر" ، وقد تم تفضيله "على الأنبياء بسبع" ، وان الله تعالى قد خلقه من نوره جل وعلا، وأنه أول خلق الله ، وانه مخلوق قبل آدم ، وكان "نبيا وآدم بين الماء والطين" ، أو و" آدم لا ماء ولا طين " كما تقول الأحاديث و الأساطير الصوفية فيما يسمى بالحقيقة المحمدية . و فى الصلاة يقولون التحيات تعظيما لمحمد ، ويجعلون هذه التحيات مكان التشهد المذكور فى قوله تعالى " شهد الله أنه لا اله الا هو ، والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ، لا اله الا هو العزيز الحكيم " آل عمران 18 )
النهاية أنهم يعتقدون أنهم " أمة محمد " ويعتبرون أنفسهم الأفضل حظا بهذا قائلين " يا بختنا بالنبى ".
كل ذلك التفضيل لمحمد على من سبقه من الأنبياء والمرسلين مخالف للاسلام وللعقيدة التى ناضل محمد طيلة حياته من أجلها . كل هذا التأليه لمحمد وتمييزه عمن سبقه من الأنبياء والمرسلين انما هو خيانة لدعوة محمد ودينه ، وعصيان للاسلام العظيم الذى لا مجال فيه لتقديس بشر أو حجر.
ولكن هذا التقديس لمحمد هو الأساس لجعل المسلمين أمة مختلفة عن الباقين وومتفوقة عليهم ، بل وهى الاساس فى تقسيم العالم الى معسكرين ، احدهما معسكر محمد ـ معسكر الايمان ـ والآخر معسكر الكفر والعصيان، أو دار الحرب.
ولكن هل مصطلح " أمة محمد " ينطبق مع القرآن الكريم ؟
بالطبع هو ينطبق مع الأحاديث التى افتراها المسلمون ، خصوصا أحاديث الشفاعة ، وفى بعضها يزعمون أن النبى محمدا ينادى ربه يوم القيامة قائلا ( أمتى أمتى ) فيرد عليه رب العزة قائلا ( بنفس النغمة والوزن ) : ( رحمتى رحمتى ) ، وبالطبع يتحيز رب العزة ـ بزعمهم ـ الى أمة محمد وفق هذا الافتراء المناقض للاسلام.
مصطلح " أمة محمد " يناقض الاسلام ويجعله دينا لبعض الناس أو لمعسكر ضد معسكر آخرن كما يناقض ( لااله الا الله ) حين يجعل محمدا الاها مع الله . ويناقض القرآن الكريم الذى تحدث عن الأنبياء السابقين أكثر مما تحدث عن محمد، بل وامره باتباع هدى السابقين من الأنبياء ، بل جعله تابعا لملة ابراهيم عليه السلام ، وأكّد ان تشريعاته فى العبادة من صلاة وصيام وصدقة وحج انما هى امتداد لملة ابراهيم ، وقد جاء محمد رسولا لاصلاح التحريف الذى لحق بهذه الملة. والتفصيلات فى كتابنا القادم ( الصلاة فى القرآن الكريم ).
مصطلح " أمة " يأتى فى القرآن الكريم بمعانى شتى كلها تدل على مجموعة أشياء ، فقد يدل مصطلح أمة على مجموعة سنوات ( هود 8 يوسف 45) أو مجموعة خصال حميدة ( النحل 120) أو مجموعة من العادات والتقاليد والثوابت الشركية ( الزخرف 22 ، 23 ) أو مجموعة من البشر فى زمان محدد ومكان محدد ( البقرة 128 ، 134 )ولا محل لتفصيل ذلك كله الآن . ولكن ما يخص المعنى المراد هنا فان القرآن الكريم استعمل كلمة أمة لتدل على دعوة كل الأنبياء فى كل عصر، يقول تعالى مخبرا عن وحيه لكل الأنبياء فى كل زمان (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ . فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) المؤمنون 52 ـ ) اذن كل الأنبياء أمة واحدة لهم رب واحد يجب أن نتقيه وحده . هذا هو ما يجب أن يكون ، ولكن الذى يحدث هو تدخل السياسة والصراع على حطام الدنيا فيتفرق الأتباع الى أحزاب وملل ونحل وطوائف. وهذا هو مجمل التاريخ الدينى بعد كل نبى قبل محمد وبعده. ويقول تعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ . وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) الأنبياء : 92ـ ) هذه الآيات جاءت فى سورة الأنبياء بعد ان قًصّ الله تعالى قصص الكثيرين منهم ثم قال معقبا ان أولئك الأنبياء أمة واحدة لهم رب واحد يجب عبادته وحده ، ولكن الذى حدث هو الشقاق ، ومرجع الحكم على هذا الشقاق والاختلاف العقيدى هو يوم القيامة عندما يرجع الجميع الى الله تعالى. أن الدين الحقيقى لكل الأنبياء هو الاسلام ـ بمعنى السلام فى التعامل مع البشر والانقياد والطاعة لله تعالى وتأليهه وحده ، وكل نبى أرسله الله تعالى بلسان قومه (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) ابراهيم 4 ) ، اى ان كل نبى كان يعبر عن الاسلام بلغة قومه .وكل نبى كان يؤكد انه لا اله الا الله (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء 25 ) واذن فأمة الاسلام. ليس الا مجموعة من المبادىء والمثل العليا تتركز فى التقوى فى العقيدة بالتمسك بلا اله الا الله والتقوى فى السلوك بالتزام العمل الصالح واجتناب الشرور والآثام والظلم والبغى والمعاصى ، وهذه المبادىء تبدأ بنوح وتنتهى بمحمد عليهما وعلى جميع الأنبياء السلام،.
يعزز ذلك ان مصطلح أمة جاء بمعنى مجموعة من الأخلاق الحميدة تركزت فى أبى الأنبياء ابراهيم عليه السلام ، الذى مدحه رب العزة بما لم يمدح به نبيا من الأنبياء ،وضمن سياق مدحه قال عنه رب العزة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) النحل 120 ) أى كان أمة من الأخلاق الحميدة السامية. وابراهيم عليه السلام من أعلام الأنبياء فى الاسلام ( اقرأ الآيات من 127 الى 137 من سورة البقرة). وعليه فان ابراهيم ـ وما يتمسك به من قيم وسلوكيات وعقيدة دينية حنيفية مخلصة لله تعالى ـ يقع فى واسطة العقد فى أمة الاسلام التى تعنى نفس القيم والسلوكيات التى تمسك بها كل الأنبياء عليهم جميعا السلام .
وفى المقابل فان ثوابت الشرك وتقديس الأسلاف وما وجدنا عليه آباءنا " وما أجمعت عليه الأمة " يعتبر فى مصطلح القرآن ( أمة). فالأمة هنا هى مجموعة من التقاليد المتوارثة التى يدافع عنها المترفون المتحكمون فى المجتمع مع أعوانهم من رجال الدين والمثقفين المستفيدين من بقاء الحال الظالم على ما هو عليه. اقرأ فى ذلك قوله تعالى يؤكد حقيقة اجتماعية انسانية : (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) الزخرف 22 ـ )
اذن " أمة الاسلام " هى قيم الاسلام فى العقيدة والسلوك. وهى قيم مطروحة أمام البشر جميعا للتمسك بها مهما اختلفت الزمان والمكان واللغة والثقافة والعنصر والسلالة والذكورة والأنوثة والوضع الاجتماعى والاقتصادى. باختصار: هى قيم عالمية انسانية انزلها الله تعالى لكل البشر فى كل الرسالات السماوية ، وقالها كل الأنبياء ، وتمناها كل المصلحين الحقيقيين ، ويتبعها كل الأبرار من البشر فى كل زمان ومكان ، مع وجود الأغلبية التى تختلف و تتنازع فى الدين وتجعله شيعا وأحزابا. وحتى لا ينسى الناس الأصل القديم لتلك القيم السامية فقد نزلت الرسالة الالهية الخاتمة توضح الحقائق لكل البشر.
فالله تعالى يخاطب بهذه القيم كل البشر. فالحديث فى القرآن لا يتوجه للعرب او لقريش او للعصر الذى عاش فيه خاتم الأنبياء ، ولكنه حديث يتوجه للناس قائلا ( يأ أيها الناس ) ( يا بنى آدم ) وحتى حين يتحدث الى طائفة أو مجموعة فانه يخلصها من محلية الزمان والمكان ليصبح الخطاب عاما لكل من يتصف بهذه الصفة فى كل زمان ومكان قيقول مثلا ( يا أيها الذين ) كذا ..وهذا منطقى فى دين الله تعالى ، فالله تعالى هو رب الجميع ، وهو خالق الجميع ، واليه وحده المرجع يوم القيامة حيث سيحاسب الجميع ، وسيبدا الحساب بحساب الرسل جميعا وهم حملة "أمة الاسلام ": أو القيم العظمى للاسلام (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) المائدة 109 ) (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) الزمر69 ).
لذلك منذ البداية يقول تعالى للبشر جميعا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات 13 ) أى انه خلقهم جميعا من أب واحد وأم واحدة ، أى هم أخوة ينتمون لنفس الأب والأم ، وقد جعلهم أجناسا مختلفة وشعوبا مختلفة لا ليتنازعوا ويتقاتلوا ولكن ليتعارفوا ، والتعارف لا يكون الا بالعلاقات السلمية والتلاقى الحضارى وقبول الآخر والاستفادة من تجربته الانسانية وتراثه الحضارى ، والانفتاح على ثقافته والتسامح فى الاختلاف معه ايمانا بأن التنوع مطلوب لازدهار الحضارة العالمية الانسانية، اما من ناحية التدين فان أكرم الناس عند الله تعالى هو الأكثر تقوى ، وليس الاكثر ثروة او جاها او ذكاءا أو علما او حسبا ونسبا اوجمالا أو صحة او شبابا. وهذه التقوى سيكون مرجع الحكم عليها لله تعالى وحده يوم القيامة ، ومن يزعم تزكية نفسه الآن فقد عصى الله تعالى الذى قال (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) النجم 32 )
يبقى سؤال : اذن ليس فى الاسلام مقولة المعسكرين السلفية التى يرفعها المتطرفون ودعاتهم الآن ، فماذا عن الآخر فى الاسلام فى ضوء ما ذكره القرآن الكريم عن الكفار والمشركين وقتالهم والجهاد ضدهم ؟
الآخر فى الاسلام هو كل معتد ظالم ، و كل ارهابى يقتل الأبرياء والمسالمين .
هنا نؤكد ما سبق قوله من أن معنى الاسلام فى السلوك هو السلام فى الأرض وهو فى العقيدة الاستسلام والانقياد لله تعالى وحده. المسلم فى العقيدة هو من يسلم لله تعالى وجهه وقلبه وجوارحه ، وذلك هو معنى الاسلام العقيدى القلبى الذى يرجع الحكم فيه لله تعالى وحده يوم القيامة ، و ليس لمخلوق أن يحكم فيه والا كان مدعيا للالوهية متقمصا لدور الله تعالى رب العزة ومالك يوم الدين.المسلم فى السلوك هو كل انسان مسالم لا يعتدى على أحد ولا يسفك دماء الناس ظلما وعدوانا. وهذا هو المجال الذى نستطيع أن نحكم عليه ، فكل انسان مسالم مأمون الجانب هو مسلم بغض النظر عن عقيدته واتجاهه ومذهبه وفكره ودينه الرسمى.
الشرك والكفر بمعنى واحد فى مصطلحات القرآن ، وهما معا لهما معنيان حسب العقيدة والسلوك ن وكلا المعنيين يناقضان معنى الاسلام فى العقيدة والسلوك. الكفر ـ أو الشرك ـ فى العقيدة يعنى اتخاذ آلهة أو أولياء مع الله . والتدين العملى للبشر ـ خصوصا المسلمين ـ ممتلىء بتقديس البشر والحجر ، مع اعلانهم أنه لا اله الا الله. ولكن بغض النظر فان كل فريق يعتقد أنه على الحق ويتهم الآخرين بأنهم على الباطل. لذا فمرجع الحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون انما يكون لله تعالى يوم القيامة ، فهو جل وعلا القاضى الأعظم ، وقد اختلف الناس فى ذاته وصفاته ونسبوا له كذا وكذا ، لذا فهو الذى سيحكم فى هذا الأمر ، وليس لأحد أن يتدخل فى هذا الدور الالهى المؤجل الى يوم الدين الا فى معرض النصح والارشاد والعظة طلبا للهداية.
الشرك ـ والكفر ـ بمعناه السلوكى هو الاعتداء والظلم والبغى والطغيان والاجرام ، وهذه كلها مفردات الشرك والكفروالمشركين والكافرين فى القرآن الكريم . هذا الشرك السلوكى نستطيع أن نحكم عليه بسهوله طبقا للأعمال الاجرامية التى يقوم بها المجرم . نحن هنا لا نحكم على قلبه أو على ما يدعيه من عقائد ، وانما نحكم على أفعاله الاجرامية ، على سفكه للدماء وانتهاكه للحرمات ، وافساده فى الأرض ، نحكم على سرقته ونهبه وهتكه للأعراض،وتعذيبه للابرياء. ودائما ما يكون الأبرياء ضحايا لهذا الكافر المشرك بالسلوك .
مشكلتنا أننا نحكم بالعكس تماما. من ينطق بشهادة الاسلام نجعله مسلما مهما ارتكب من جرائم . وقد يكون هناك زعماء مصلحون مسالمون يعملون الصالحات النافعات ينتمون للمسيحيين أو الاسرائيليين أو البوذييين أو العلمانيين ، اولئك هم مسلمون حسب معنى الاسلام السلوكى الذى يعنى السلم ، ولكننا نعتبرهم مشركين كافرين ونحكم على عقائدهم متناسين أن الأولى ان نصلح عقائدنا نحن وهى مليئة بتقديس الأضرحة والأئمة بأكثر مما يفعله غير المسلمين.طبقا للسلوك وحده فكل دعاة السلام فى الأمم المتحدة وخارجها هم أعظم المسلمين وان لم ينطقوا بشهادة الاسلام . غاندى ومارتن لوثر كنج و مانديلا وكل دعاة حقوق الانسان من الغربيين هم المسلمون الحقيقيون فى مجال السلوك. طبقا للسلوك وحده فان مجرمى الحرب هم أشد الناس كفرا وظلما وعدوانا ، ليسوا فقط هتلر وموسولينى و ستالين بل يضاف اليهم صدام حسين وابن لادن والظواهرى وبقية سفاكى الدماء الذين حولوا العراق الى سلخانة . والقائمة طويلة ولا داعى لذكر أسماء أخرى فبعضها لا يزال يتمتع بالتقديس والتحميد مع أنه بغى على الآخرين واحتل أراضيهم وأذل شعوبهم ، لمجرد أنهم مسالمون لا يقوون على الدفاع عن أنفسهم .
ليس فى الاسلام تقسيم العالم الى معسكرين ، وليس من الاسلام الاعتداء على الآخرين واحتلال أراضيهم مثلما فعلت قريش فى دولة الخلفاء الراشدين ودول الخلفاء غير الراشدين . قريش كانت المقصودة بوصف الكفر والشرك حين نزل القرآن ، فقد مارست الكفر والشرك العقيدى بعبادة الأولياء والأوثان على أنها تقربهم الى الله تعالى زلفا. ومارست قريش الكفر السلوكى والشرك السلوكى بمعنى الاعتداء واضطهاد المسلمين المستضعفين واكراههم فى الدين مما اضطرهم الى الهجرة الى الحبشة مرنين ، ثم هاجروا أخيرا الى المدينة. قريش لم تتركهم فى حالهم فتابعتهم بالغزو والقتل والقتال فى وقت صبر المسلمون كعادتهم لأنهم كانوا ممنوعين من رد العدوان. ثم جاءهم الاذن بالقتال فتغير الموقف تدريجيا الى أن صار لصالح المسلمين حربيا ودينيا ، وأصبحت قريش منعزلة فى وقت انتشر فيه الاسلام وأدركت فيه جماهيرالعرب سخافة عبادة الأوثان والقبور، رأت قريش فى النهاية أن مصلحتها تحتم عليها الدخول فى الاسلام فدخلت فيه متأخرا بعد تاريخ طويل من عداء الاسلام. أسلمت قريش قبيل موت النبى ، وبعد موته استعادت سيطرتها على دولة النبى بعد موت النبى ، منتهزة فرصة حرب الردة ، فحوّلت الانتصارعلى المرتدين الى استمرار فى الغزو فاعتدوا على الروم ومستعمراتهم فى الشام ، وقضوا على الدولة الفارسية ، وبدأ ما يعرف بالفتوحات الاسلامية التى تناقض الاسلام، والتى بسببها اقتتل الصحابة ، ونتج عن الخلاف السياسى اختلاف فى التدين ، وانقسام المسلمين الى أحزاب كل حزب بما لديهم فرحون ، ونسوا تحذير رب العزة من الاتقسام الدينى وكونه دليلا على الوقوع فى الشرك العقيدى والشرك السلوكى أيضا (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (الأنعام 153 ، 159 ) (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) الروم31 ـ 32 )
لتبرير الاعتداء ولتسويغه باسم الاسلام افتروا حديثا نسبوه للنبى محمد يقول ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله ..) وجعلوا هذا الاعتداء على الغير جهادا . وباعتداء المسلمين على دولة الروم بدأت الحرب بين الامبراطوريتين ، ولكل منهما دين مختلف فى الظاهر ، وان كان نفس التدين فى الواقع ؛ التدين القائم على التسلط والظلم والاعتداء والاكراه فى الدين واستخدام الدين فى ظلم الناس ونشر الفساد فى الأرض. كان هذا هو منطق التدين فى العصور الوسطى ، وبه تم سفك دماء الملايين من الفريقين ، وكل منهم يحسب أنه يحسن صنعا ، وكل منهم يتهم المعسكر الآخر بالكفر ويرى نفسه محتكرا للحق.
ثم صحت أوربا وتخلصت من سيطرة الكنيسة والكهنوت والاكليروس ، وبدأت طريق الاصلاح العلمانى العقلى والاكتشاف العلمى . ثم حاولت مصر أن تنهج نفس الطريق مع باية القرن التاسع عشر، وحققت خطوات لولا أن عادت خرافات وأساطير وتشريعات العصور الوسطى تحملها الوهابية التى تمثل أردأ فكر أنتجه المسلمون فى القرون الوسطى. وبفضل البترول تم نشر هذا الفكر السلفى المناقض للاسلام تحت اسم الاسلام فى أكبر خديعة تعرض لها المسلمون طوال تاريخهم. وفى اطار هذه الخديعة الكبرى جرى استدعاء كل مظاهر التعصب الدينى واستئصال المخالف فى المذهب وفى الدين وفقا لحد الردة او الجهاد ضد دار الحرب أى الغرب.
هذا هو الأساس التاريخى لأكذوبة دار الاسلام ودار الحرب.