مصر: من استبداد الدولة الى استبداد الفوضى!

د. شاكر النابلسي في الأربعاء ٢٥ - مايو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

لا يفزعنأحدٌ مما يجري الآن في مصر وتونس، بعد نجاح هاتين الثورتين. ففيزياء وكيمياءالثورات في التاريخ، تؤكد لنا أن "استبداد الفوضى" يأتي عادة بعد سقوط استبدادالدولة. وقانون الثورات، يؤكد أن "استبداد الفوضى" يتبع استبداد الدولة. بل إن"استبداد الفوضى" يأتي كرد، أو كرجع الصدى لاستبداد الدولة.

-2-

ولو أخذناأشهر ثورة في التاريخ، وهي الثورة الفرنسية 1789 ، لوجدنا أن سقوط دولة الاستبدادلآل البوربون، قد أقام دولة استبداد الرعاع. فتحوَّلت ثورة1789 إلى حكم الإرهاب، ثم حلَّ بعده انقلاب ترميدور، وقيام الإمبراطورية التي أدّىسقوطها إلى عودة الملكية. وكان على الفرنسيين أن ينتظروا حتى نهاية القرن التاسععشر كي تقوم الجمهورية الثالثة التي أسقطتها الهزيمة العسكرية لفرنسا في 1940. وقامت حكومة "فيشي"، التي دعمها النازيون، وأسقطتها المقاومة الفرنسية بقيادةديجول.

-3-

وعلينا أننفهم، ونتقبَّل كذلك، بوعي وإدراك، بعد تأمل عميق للتاريخ، أن الثورة لا تنتج لنادائماً الديمقراطية. وأن الديمقراطية ليست دائماً وليدة الثورة. بل على العكس منذلك. فالثورة، يمكن لها أن تلد لنا دكتاتورية جديدة. ولعل الثورة البلشفية 1917 ،أكبر مثال على ذلك، حين أدت هذه الثورة الى دكتاتورية الحزب الواحد، وهو الحزبالشيوعي. وكانت نتيجة ذلك، انهيار الاتحاد السوفيتي 1989 ، بعد أن أصبح إحدىالقوتين العظميين في التاريخ الحديث، وإمبراطورية عظمى، تسيطر على كل أوروباالشرقية. كذلك كان الأمر في اسبانيا 1936. أما في العالم العربي فأكبر مثال علىولادة الثورة للدكتاتورية، هو الثورة المصرية 1952 ، التي أدَّت الى قيام دكتاتوريةعبد الناصر، والتي كان لها آثارها المدمرة، ليس على مصر وحدها، ولكن على معظم أنحاءالعالم العربي، وخاصة السودان، وليبيا، وسوريا، واليمن، التي قامت فيها دكتاتورياتمروِّعة، جعلت الشعوب تطلق شآبيب الرحمة على العهود الملكية، أو العهود السابقةللثورات، التي حصلت في هذه البلدان. وتذكر "أيام زمان" بالخير واليُمن والبركات. وعبَّر عن كل هذا الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، في مقاله، في جريدة"الأهرام"،17/5/2011، بعنوان: "صفاً واحداً في وجه الهكسوسالجُدد"،قالفيه:

"انقلابيوليو 1952، دمَّر كل الأسس، التي قام عليها الوعي الوطني. فقد حلَّ الأحزاب، التيقادت حركة النهضة، وألَّفت بين عناصر الأمة، ما عدا جماعة الإخوان المسلمين، التيتحالفت مع ضباط الانقلاب، وأرادت أن تقتسم معهم السلطة، فاصطدمت بهم. وأُوقف العملبالدستور. وفُرضت الرقابة على الصحف. وُجرد المثقفون من سلطتهم الفكرية والأخلاقيةبالترهيب، والترغيب."

-4-

ماذا يجري فيمصر الآن؟

وهل هذهالفوضى، هي من فيزياء وكيمياء الثورات في التاريخ.

والجواب: نعم،أن مصر في فوضى. لا أحد يستطيع إنكار ذلك، ومن ينكر ذلك، فهو إما أعمى، أو أصم. والدليل الجديد لهذه الفوضى،قرار محكمةجنايات القاهرة في 21/5/2011 تأجيل محاكمة وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، وستةمن قيادات وزارة الداخلية السابقين والحاليين إلى جلسة تُعقد في 26/6/2011.
وجاء قرار التأجيل في ضوء الفوضى العارمة، وعدم انضباط الجلسة، حيث اشتبك عددمن المحامين مع قوات الأمن، الذين منعوهم، ومنعوا الإعلاميين من دخول القاعة.

أما المظاهرالأخرى المختلفة لهذه الفوضى،فهي:

  1. غنيٌ عن القول،أن انفلات الشارع المصري، وانتشار البلطجة فيه، من علامات هذه الفوضى، بعد أن أصبحالمواطن المصري غير آمن على نفسه، ولا على أهله، ولا على بيته. ومن مظاهر عدمالأمان هذا، أن المواطن المصري، أصبح يخشى الفصل التعسفي، نتيجة لاتهامه بأنه كانعضواً في الحزب الوطني الحاكم سابقاً، أو على الأقل، كان يتعاطف مع هذه الحزب. وهوما اتبعته ثورة 1952 ، حين عزلت سياسياً كافة الأحزاب، وزعماء هذه الأحزاب، عنالحياة السياسية، بل سجنت قسماً منهم.
  2. فوضى وسائلالإعلام الرسمي والخاص والحزبي، الذي أخذ يكيل التهم بلا حساب لرجال عهد مباركالسابق، دون أن ينتظر نتائج التحقيقات والمحاكمات التي ستتم قريباً. مما أثار غضبوانفعال الكثير من الكتاب المصريين العقلاء، ومنهم لميس جابر، التي قالت في مقالهاالأخير ("عن الإدانة والإعلام.. وهيكل والأحلام"، في جريدة "المصري اليوم"،21/5/2011 ):

"نفسى أفوق شوية من التعذيب الإعلامي، الذي ينفجر فى صوت واحد، واتجاهواحد، وتأليف واحد.. تلطيش، وصراخ، وشتائم، وسباب، وقذف. بلا قانون، ولا حق، ولاضابط، ولا رابط، لأننا فى عصر الحرية. ارحمونا.. خلاص يا إخوانا أصحاب الصحافةوالإعلام والأقلام، تمَّ المطلوب وزيادة. كان المطلوب هو مرمطة رئيس الدولة،وزوجته، وأسرته، وباقي رجال ونساء المرحلة كلها، وليس المحاكمة، ولا الحساب."

3- استقواء السلفيين والإخوان المسلمين بالمجلسالعسكري الأعلى، الذي يشاهد أعمال البلطجة التي يقوم بها السلفيون، ولا يحرك ساكناًحازماً. وهم من وصفهم الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي بـ "الهكسوس الجُدد" فيمقاله السابق في جريدة الأهرام، 17/5/2011 ، في تعليقه على الفتنة الطائفية، فيأحداث إمبابة، قال فيه:

 "لا أظن أنالتسميات التي كنا نطلقها علي ما كان يقع بين المسلمين والمسيحيين المصريين منحوادث يصلح لأن نطلقه علي ما حدث أخيرا في إمبابة‏.‏ فالذي حدث في إمبابة ليس مجردفتنة، أو غزوة سلفية، أو جريمة مدبرة‏. وإنما هو دليل قاطع علي أن الكيان الوطنيالمصري كله أصبح ضعيفا متهافتا قابلا للتصدع والانهيار. و،الحل فيالتصدي لهذا الوعي الزائف وتطهير البلاد منه، والدفاع عن مدنية الدولة، والوقوفبحزم ضد خلط الدين بالسياسة، وإصلاح مناهج التعليم، وإعادة تأهيل أئمة المساجد، وأنتتحد القوى الديمقراطية، وتقف صفاً واحداً في وجه الهكسوسالجُدد!"

4- الثورةسهم مُنطلق. فنحن نعرف نقطة انطلاقه، ونتحكم بها، ولكننا لا نعرف نقطة نهايته ولانقدر التحكم بها. وهذا ما يخلق الفوضى واستبدادها. ومثال ذلك يكمن في أقوى وأوسعتنظيم سياسي مصري الآن وهو "جماعة الإخوان المسلمين" الذين يتغيرون ويتبدلون كل يوممتناقضين، ولاعبين سياسيين ماكرين. فيقولون بالدولة المدنية التي لا يؤمنون بها،ويتحدثون عن الحرية والديمقراطية، لكنهم يخططون لاستبداد ديني، بعد أن تنقشع غمامةاستبداد الفوضى الحالية، وبعد انهيار استبداد الدولة المدنية السابقة. 

 

 

اجمالي القراءات 10325