بين حين وآخر تطالعنا الأخبار أن جماعة من أنصار الرئيس المخلوع تظاهروا أو تضامنوا معه أو طالبوا بعودته , وهو أمر يبدو للوهلة الأولي مذهلا , فهل الخلاف حول مبارك من قبيل وجهات نظر؟
منذ تأسيس الدولة الحديثة في مصر علي يد محمد علي وحتي السادات لم يتفق المصريون علي كلمة سواء حول أحد حكامهم , والأمر طبيعي لأنه حتي ان نحينا الهوي والمصلحة الذاتية فان النظرة تختلف زاويتها من انسان لآخر .
ودعونا نستعرض أشهر حكام مصر في العصر الحديث بادئين بوقفة تطول أمام محمد علي .
تستطيع أن تضع في جانب الايجابيات واثقا أن محمد علي اهتم بالتعليم الحديث وأوفد البعثات الي أوربا وكان يتابع المبعوثين وتحصيلهم العلمي متابعة دقيقة , كما أنه أنشأ القناطر الخيرية وأدخل زراعة القطن في مصر وقضي علي المماليك وكانوا قد تحولوا في نهايات عصورهم الي عصابات منظمة للسرقة والترويع والقتل , وأنه اهتم بالصناعة خاصة النسيج والصناعات الحربية , وقضي علي حثالات بشرية من عسكر من كل لون وجنس كانوا أمثلة للانفلات الأخلاقي والديني من قتل الأبرياء الي فرض الاتاوات واحتلال الدور وطرد سكانها قهرا الي الاعتداء في أحط صوره علي أعراض النساء والأطفال كماذكر الجبرتي الذي علق في سخرية مريرة ” وهكذا تفعل المجاهدون !!” ثم قال ان المصريين بعد رحيل الحملة الفرنسية تمنوا عودة الاحتلال الفرنسي للخلاص من شر هؤلاء ” !
وتستطيع أن تتحدث عن الأمجاد الحربية لمحمد علي وابنه ابراهيم باشا الذي دخل الشام ووصل الي كوتاهية وهزم الجيش التركي واستولي علي أسطوله .
ولكنك تستطيع أن تقرأ محمد علي بعيون أخري فهو سفاك للدماء وقد قتل المماليك في القلعة غيلة وغدرا بعد أن تناول القهوة مع كبارهم , وكان في نظر بعض معاصريه “مغرور ظالم جاهل غشوم ” كماوصفه نصا أحد رجاله ويدعي “ديوان أفندي “وقد وصف الجبرتي محمد علي بأنه ” في طبعه الحسد والحقد والتطلع لما في أيدي الناس “!
وتسطيع أن تري الخديو اسماعيل مسرفا جرت يده النزقة للاقتراض علي مصر نزع سيادتها وتعيين وزيرين من انجلترا وفرنسا للمالية وللأشغال وانشاء محاكم قنصلية و مختلطة عدوانا علي السيادة المصرية , ولكنك أيضا تستطيع القول واثقا أن كل مابناه اسماعيل لازال ملكا مصريا خالصا لليوم وبعضه مفخرة معمارية , وأنه استزرع أكثر من نصف مليون فدان من الأرض الزراعية كانت مستنقعات , وجعل القاهرة في جمال لندن وباريس وأنشأ أكبر خطوط للسكك الحديدية في العالم ومصلحة البريد و صناعة السكر , وأنشأ المتحف المصري ودار الأوبرا ودار الكتب وأنهي تجارة الرقيق وأقام جيشا قويا وضم دارفور الي امبراطورية مصر والسودان و أنشأ حديقة حيوان الجيزة القائمة لليوم وأدخل اصلاحات قضائية ونيابية حيث أنشأ أول مجلس نيابي في تاريخ مصر وهو مجلس شوري النواب وأكمل مشروع حفر قناة السويس وكان عهده عهد تسامح ديني لايمانه بحرية العقيدة ايمانا حقيقيا منفتحا .
وحتي الملك فاروق تستطيع أن تنعي عليه فساده وضعفه ولكنك لاتستطيع تجاهل آراء تقول انه تعرض لظلم تاريخي وأن وطنيته لم تكن يوما مجالا لأي ادعاء فقد كان عدوا لدودا للانجليز وكانت اتصالاته بألمانيا زمن الحرب العالمية الثانية من أكبر دواعي حنق الانجليز عليه , ثم انه تنازل عن العرش ولم يظل متشبثا به ولو جلس علي عرش من دماء المصريين !
ومن بعد فاروق جاء عبد الناصر وهناك من ينظر اليه من زاوية السد العالي ونشر التعليم وحركة البناء والتصنيع وتأميم قناة السويس , ومن ينظر اليه من زاوية الاستبداد والحكم الفردي وغياب الديموقراطية , ولكل فريق حججه .
وهناك من ينظر للسادات من خلال حرب أكتوبر وشجاعة القرار , ومن ينظرون من زوايا التحالف مع الصهاينة علي حساب البعد العربي وفتح باب النهب العظيم لمصر , ولكل فريق حججه أيضا .
لكن مع مبارك فان الحال يختلف اختلافا جذريا , باختصار لأن كل سابقيه حكموا مصر لحساب أهلها فأصابوا وأخطأوا الا مبارك فقد حكم مصر لصالحه الشخصي وزمرة النهابين من حوله , واعتمد أسلوبا جهنميا في الحكم اذ تعامل باستراتيجية دفع الخطر عن الكرسي سواء كان الخطر خارجيا أو داخليا ووكان ذلك همه الأكبر , وقد اعتمد لكل من نوعي الخطر مايلائمه , ففي مواجهة الخطر الخارجي اعتمد سياسات الخضوع الكامل المذل للرغبات الصهيونية والأمريكيه , وفي هذا السياق نستطيع تفسير نكبات التحريض علي ضرب العراق وتمويل الانفصاليين في جنوب السودان بالسلاح واجهاض أي مخرج عربي مشرف لاحتلال العراق للكويت , وقدم كل العون لضرب العراق , و نجد تفسيرا للتحالف مع الصهاينة في حربهم علي لبنان وعلي غزة وقد أعلنت الحرب علي غزة من القاهرة امعانا في اذلال من عدم كرامته وانسحق أمام عدوه , ونفهم خنق غزة ومنع الصلح بين الفصائل الفلسطينية باملاء صهيوني , و بيع الغاز للصهاينة باقل من نفقات استخراجه , ونفهم في السياق ذاته استباحة سيناء للصهاينة بلا تأشيرة لنشر الايذر والمخدرات , ونفهم خروج مصر بوزنها التاريخي والانساني والحضاري من معادلة الصراع العربي الصهيوني , وخروجها كقوة اقليمية من دوائرها العربية والافريقية والأسيوية , ونفهم انكفاءها علي نفسها وانحصارها في ترتيب البيت من الداخل للوريث أحد أفراد التشكيل العصابي للنهب العام , بمباركة صهيونية !
وفي مواجهة الخطر الداخلي اعتمد مبارك ثلاثة محاور أولها الأمن الذي يحصي الأنفاس ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة بدءا من تعيين خفير الي تعيين وزير , ومرورا بالاعتقالات والتعذيب واهدار كرامة المصريين وترويعهم , وثاني المحاور الاعلام وقد تولي الالهاء وتزييف الوعي بانتظام , والمحور الثالث هو توزيع المنح والعطايا علي النافذين في كل مجال فكان راتب البعض يوازي راتب أكثر من الف موظف في نفس جهة العمل والهدف خلق الولاء , والشاهد أن الكثيرين من ضباط الشرطة كانوا يضربون ويقتلون لادفاعا عن مبارك الذي يستحي ابليس من سوء سياساته وانما يدافعون عن دخل شهري يفوق الخيال , ولنا أن نتخيل أن رواتب بعضهم كانت أضعاف راتب الرئيس أوباما نفسه !
أما مبارك وعائلته والدائرة القريبة فقد فعل أكثرهم فعل الجراد المتوحش واعتمدوا منطق استباحة الوطن كاملا , ولعل مايثير الحسرة والشعور بالاهانة الوطنية أن يصحو الناس علي حقيقة أن القاعدة في رجال السلطة العليا ودائرة الرئيس المخلوع كلها تحال الي الكسب غير المشروع وتظهر الأرقام التي لاتكذب ولاتتجمل أن مانهب يبلغ نحو تريليون ونصف تريليون جنيه وهو مبلغ يكفي لأن تعيش مصر بلا فقير ولا عاطل ولامريض بلا علاج ولامشرد ولاساكن قبور !
فهل الخلاف علي مبارك وجهة نظر ؟ اليست الاحصاءات الموثقة تتحدث عن ملايين العاطلين وملايين المشردين وملايين الجياع , وتشير الي أن ثلث مرضي الكبد في العالم مصريون ؟ كل هذا البلاء لكي يحكم مبارك ومن بعده ولده وليمتص هو وعائلته والدائرة المحيطة دم المصريين !
انني موقن أنه لاأحد في مصر أو خارجها يجهل كوارث حكم مبارك علي مصر .
ان التفسير الوحيد – حسب يقيني – أن هناك فئة أفلت منها الجاه وسيل المال برحيل المخلوع وهي فئة تمتلك المليارات و تسخر بعض المطحونين والمعدمين بدءا من موقعة الجمال الي التظاهر الي الشغب الي اتلاف الممتلكات الي ترويع الناس ليبدو وكأن المصريين مختلفون حول مبارك ومن خلف فئة كبار اللصوص تقف فئات متناثرة من معتادي العيش علي نفايات العطايا من مقاعد بمجالس صورية عبر التزوير .
ان التاريخ سوف يقف طويلا أمام مافعله مبارك بمصر والمصريين , وفي الحقيقة فان سؤالا يطاردني ولا أعرف اجابته تري لو حكم مصر بدلا من مبارك , السفاح ” شارون ” هل كان يفعل بها وبنا أكثر ممافعله مبارك وعصابته الاجرامية ؟!!