الفصل الثاني إسلام أهل المدينة 2
السيرة النبوية - الفترة المدنية

محمود علي مراد في الثلاثاء ٢٦ - أبريل - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

) السورة رقم 93 بترتيب بلاشير

(2– البقرة)

القرآن الكريم يقرر وجود الكفار المشركين في المدينة، في هذه السورة بثلاث طرق:

أ ) بوضعهم إلى جانب الذين كفروا من أهل الكتاب في عدائهم للإسلام:

مَّا يوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشرِكِينَ أَن يُنـزلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴿105﴾

ب) بالتنديد بهم في عدد من الآيات مثل:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَ&iute;لَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿6﴾خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴿7﴾

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون ﴿28﴾

مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِين ﴿98﴾وَلَقَدْ أَنـزلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ﴿99﴾

إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ ﴿161﴾خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴿162﴾

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿171﴾

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿212﴾

اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿257﴾

ﺟ ) بحظر الزواج بين المسلمين والكفار في الآية التالية:

وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿221﴾

ألا يمكن القول إن كفار المدينة، في كل هذه الآيات الكريمة، لم يذكروا صراحةً وأنهم بالتالي غير مقصودين بالخطاب القرآني؟ والإجابة هي بالنفي إذ أنهم لم يستثنوا صراحةً من حكمها وسياق الآيات المتكررة لا يستبعدهم من نطاق تطبيق هذا الخطاب. إذاً فقد كان لهم وجود فعلي في المدينة على الرغم من أن نص ابن إسحاق لا يتحدث عنهم. وكانوا مناهضين للإسلام وقد حمل عليهم القرآن الكريم بشدة.

2) السور 94 إلى 116 بترتيب بلاشير

ورد ذكر الكفار والمشركين في معظم السور المدنية. ونحن ننقل أدناه بعض الآيات التي تتحدث عنهم في هذه السور.

رقم 94: (98) البينة(*)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴿6﴾

رقم 95: (64) التغابن

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَلَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿7﴾

رقم 97: (8) الأنفال

قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ﴿38﴾

رقم 98: (47) محمد

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ﴿32﴾

رقم 99: (3) آل عمران

وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ  ﴿178﴾

رقم 100: (61) الصف

يُرِيدُونَ لِيُطْفئُِوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿8﴾

رقم 101: (57) الحديد

فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿15﴾

رقم 102: (4) النساء

وَقَدْ نـزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿140﴾

رقم 104: (59) الحشر

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿23﴾

رقم 105: (33) الأحزاب

وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴿48﴾

رقم 106: (63) المنافقون

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ﴿3﴾

رقم 107: (24) النور

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿39﴾

رقم 108: (58) المجادلة

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنـزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿5﴾

رقم 109: (22) الحج

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿72﴾

رقم 110: (48) الفتح

وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ﴿13﴾

رقم 111: (66) التحريم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿9﴾

رقم 112: (60) الممتحنة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴿1﴾إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴿2﴾.

رقم 115: (9) التوبة

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿23﴾

رقم 116: (5) المائدة

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿36﴾

وكما هو ظاهر فإن جميعالسور المدنية، باستثناء صغار السور رقم 96، وعدد آياتها 11، ورقم 103، وعدد آياتها 12، ورقم 113، وعدد آياتها 3، ورقم 114، وعدد آياتها 18، تتحدث عن الكفار أو المشركين. والآيات التي أوردناها تؤكد كذلك رأينا الذي فحواه أن الكفار كانوا يشكِّلون فئة قائمة بذاتها من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي الخلط بينها وبين أهل الكتاب [أنظر رقم 94: (98)، البينة: 6]، ولا بينها وبين المنافقين [أنظر رقم 101: (57)، الحديد: 15؛ ورقم 105: (33) الأحزاب: 48]. ويتضح من بعض الآيات الكريمة التي ذكرناها، كذلك، أن عداء الكفار للإسلام لم يكن سلبياً وأنه اتخذ شكل أعمال ملموسة. ذلك أنهم  صدُّوا عن سبيل الله [رقم 98: (47)، محمد: 32]، وكانوا يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم [رقم 100: (61)، الصف: 8]، ويستهزئون بآيات الله [رقم 102: (4)، النساء: 140]، ويحادّون الله ورسوله [رقم 108: (58)، المجادلة: 5]، وكانوا يؤذون الرسول صلى الله عليه وسلم [رقم 105: (33)، الأحزاب: 48]، وواقع الأمر أن نص ابن إسحاق لا يقول كلمة واحدة عن هذه الأفعال.

ومما تجدر ملاحظته أن الآيات التي سقناها أعلاه ليست إلا "عَيِّنة" صغيرة من الآيات المتعلقة بالكفار والمشركين في قرآن الفترة المدنية. وهي تعدُّ بالعشرات، وتستحق أن تدرس بالتفصيل في جميع السور المدنية لمعرفة الدور الذي لعبه الكفار إزاء تقدم الإسلام في المدينة والوسائل التي استخدموها لمحاربته. ونظراً إلى أن المجال في بحثنا هذا لا يتسع لهذه الدراسة، فسنكتفي بالتأمل في إحدى السور التي تكررت فيها الإشارة إلى الكفار، وهي في الوقت ذاته تصوِّر وضع هذه الفئة من الناس في مرحلة متأخرة من دعوة الإسلام في المدينة.

3) رقم 115: (9) التوبة

السورة التي اخترناها لهذا الغرض هي السورة قبل الأخيرة من القرآن الكريم. وميزة أخرى تحققها هذه السورة، هي كونها تتبع سورة تسجل ما يمكن وصفه بالحساب الختامي لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، المتمثل في دخول الناس في دين الإسلام بشكل جماعي، ألا وهي السورة رقم 113: (110) النصر - ويقول الله تعالى فيها:

إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴿1﴾وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ﴿2﴾فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴿3﴾

إن سورة التوبة تتحدث عن الكفار في العبارات التالية:

كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴿8﴾

–…إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ  …﴿12﴾

– …فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ …﴿37﴾

إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبكَ مُصيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴿50﴾

والسورة تنعي عليهم أعمالاً محددة اقترفوها:

اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ …﴿9﴾ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴿10﴾

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ…﴿61﴾

– …يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً …﴿36﴾

وفي هذه السورة آية تستحق اهتماماً خاصاً هي الآية (13) ونصها كالآتي:

أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ﴿13﴾

القوم الذين تتحدث عنهم هذه الآية الكريمة، هل هم قريش مكة؟ هذا ما قد يبدو للوهلة الأولى إذا سَلَّمنا بوجهة نظر المؤلف الذي يدعي أن كفار مكة هم وحدهم الذين آذوا المسلمين وعارضوا الرسول صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فإن الآية (36) من هذه السورة التي تقول إن الكفار يقاتلون المسلمين كافة تناقض ذلك. ثم إن ما تقوله "السيرة" عن الفترة المكية ليس فيه أي إشارة إلى أيمان نكثها أهل مكة، ومن الصعب تصور صدور مثل هذه الأيمان من جانبهم. وأخيراً فإن عبارة "هموا بإخراج الرسول" يفهم منها أن إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم، في اللحظة التي أنـزلت فيها الآية، كان لا يزال في حيز "المشروع" الذي لم يُنفَّذ. والحاصل أن إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة كان قد تم بالفعل. ثم إن القرآن الكريم يشير إلى هذا الإخراج المكي في السورة ذاتها باستخدام الفعل الماضي في قوله تعالى:

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنـزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿40﴾

إن كفار المدينة، كما قلنا في تعليقنا بشأن الهجرة، لم يكونوا راضين عن وصول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المكيين وإقامتهم بين ظهرانيهم. فلا غرابة إذاً في أن يضطهد من لم يسلموا منهم أعضاء قبائلهم المسلمين. كذلك فمن المتصور جداً أن يكونوا قد هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة. وأمثلة الثائرين الذين تطردهم البلدان التي يلجأون إليها، الواحد بعد الآخر، بعد أن نفتهم سلطات بلادهم، كثيرة، في التاريخ العام، أو في التاريخ الإسلامي، بحيث لا يُسْتَغْرَب تفكير كفار المدينة في إخراج الرسول من مدينتهم.

وسورة التوبة تتحدث كذلك عن:

– …الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا … ﴿4﴾

المشركون الذين تطلب الآية ذاتها من المسلمين أن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم. وهذه السورة تتحدث حتى عن مشركين لا تحظر آيتها (6) على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجيرهم إن استجاروه.

إن جميع هذه الإشارات إلى الكفار، وعشرات غيرها، المنتشرة في السور المدنية، لمن تشير؟ إلى كفار مكة وحدهم؟ هذا مؤدى ما توحي به "السيرة". ولكن، لو كان هذا صحيحاً لوجد القارئ نفسه، مرة أخرى، في حالة من حالات الطريق المسدود التي تعودها من المؤلف. والواقع أنه من غير المفهوم لماذا:

 أ ) مع أن المؤلف أدرج في حديث الفترة المكية الثالثة (التي تبدأ، في قول إسحاق، من جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة بعد فترة الاستخفاء التي استمرت ثلاث سنوات، وتنتهي بوفاة عمه أبي طالب قبل الهجرة بثلاث سنوات)، أربعين اقتباساً قرآنياً عن كفار مكة، وشرح أسباب نـزولها وذكر، في معظم الحالات، أسماء الكفار الذين يدعي أنها نـزلت فيهم، لم يذكر في حديث السنة الأولى من الفترة المدنية، أية حالة يشير فيها القرآن الكريم إلى كفار المدينة.   

ب) مع أن عدد المرات التي أشار فيها القرآن الكريم إلى الكفار والمشركين أكبر بكثير من تلك التي يشير فيها إلى المنافقين، لم يتحدث نص ابن إسحاق إلا عن المنافقين دون الكفار، ولم يعلق إلا على الاقتباسات القرآنية المتعلقة بالمنافقين.

ويلاحظ هنا أن الآيات المدنية، حين يكون المقصود بها كفار مكة، على وجه التحديد، تقول ذلك صراحةً. وهذا هو الحال في سورة التوبة، في قوله تعالى:

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴿7﴾

ومفاد هذا هو أنه، حين لا يكون هناك مثل هذا التحديد في الإشارة إلى الكفار والمشركين، كما في السورة رقم 115: (9) التوبة:

بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿1﴾

وفي الآية (3) من السورة ذاتها:

وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ …﴿3﴾

فإن من الممكن جداً أن يكون المقصود بالمشركين مشركي المدينة، مادام التنـزيل الذي ورد فيه ذكرهم تنـزيل مدني.

وأخيراً ، ففي سورة التوبة هذه الآية:

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴿17﴾

إن في هذه الآية حظراً مطلقاً بشأن مساجد الله(10)موجهاً ضد المشركين. وصيغة الجمع تعني أن المساجد المقصودة ليست فحسب المسجد الحرام في مكة، وإنما مسجد المدينة أيضاً. وهي تفترض كذلك أن من تعنيهم الآية مشركون يعلنون شركهم. إذاً فقد كان هناك، وفقاً لهذه الآية المتأخرة النـزول، مشركون لا في مكة وحدها بل في المدينة أيضاً.   

4) آيات ذات دلالة خاصة

هناك في السور المدنية آيات أخرى ستُفْرَغ من معناها لو صح - كما يدعي ابن إسحاق - أن المدينة خلت تقريباً من الكفار بعد انقضاء أحد عشر شهراً على الهجرة، وهي الآيات التي تشتمل على أوامر أو نواهٍ موجهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين فيما يتعلق بالكفار والمشركين. أوامر ونواهٍ موجهة إلى الرسول مثل:

رقم 97: (8) الأنفال

قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ﴿38﴾

رقم 99: (3) آل عمران

قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴿32﴾

وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿176﴾

رقم 105: (33) الأحزاب

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿1﴾

وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴿48﴾

رقم 109: (22) الحج

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿72﴾

وأوامر ونواهٍ موجهة إلى المؤمنين مثل:

رقم 99: (3) آل عمران

لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ﴿28﴾

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ﴿149﴾

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿156﴾

رقم 102: (4) النساء

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ﴿139﴾وَقَدْ نـزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿140﴾

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ﴿144﴾

إن تصديق مقولة أن المدينة أسلمت بالكامل خلال سنة من الهجرة معناه في الواقع أن آيات القرآن الكريم التي تأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة الكفار إلى الإيمان، والتي تنهاه عن طاعتهم، وتؤكد له أنهم غير معجزي الله، وتوصيه بألا يحزن عليهم وتخبره أنه يعرف في وجوه الذين كفروا المنكر حين يُتلى عليهم القرآن، إنما كانت تتحدث عن كفار ومشركين لم يكونوا يقيمون حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقيم ويباشر دعوته، وحيث نـزلت الآيات، أي في المدينة، بل كانوا يقيمون في مكة أو في غيرها من الأماكن. وهذا شيء غير معقول، خاصةً وأن كفار قريش سبق وأُنـزلت في حقهم آيات كثيرة بنفس المعنى خلال الفترة المكية.

وخداع نص ابن إسحاق يظهر بصورة أوضح في الآيات التي يتجه الخطاب القرآني فيها إلى المؤمنين والتي يحظر عليهم فيها أن يطيعوا الكافرين، وأن يقولوا مثلهم عن إخوانهم الذين ضربوا في الأرض أو خرجوا للحرب: "لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا" ، وأن يقعدوا معهم إذا سمعوهم وهم يكفرون ويستهزئون بآيات الله، كما يحظر عليهم على الأخص اتخاذ الكافرين أولياء. والواقع أنه إذا صح، كما يدعي النص، أن جميع مسلمي مكة قد هاجروا إلى المدينة وأن جميع مشركي هذه المدينة اعتنقوا الإسلام، فإن حالات الحظر التي نـزلت بها الآيات تصبح في غير موضع. إن افتراض أن يكون المشركون الذين تشير إليهم هذه الآيات هم مشركو مكة أو غيرها افتراض مستحيل، اللهم إلا إذا اعتبر أن الكفار المذكورين ليسوا مشركي المدينة ولكن يهودها، ولكن هذه المطابقة بين الكفار واليهود غير واردة في القرآن الكريم كما سنرى فيما بعد. 

المحصِّـلة

في وسعنا إذاً أن نقرر، ونحن مطمئنون، أن الشرك لم يكن قد استؤصل تماماً في المدينة عند ختام دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن الأمور ذات المغزى في هذا الصدد أن آخر سور القرآن، عند بلاشير، وهي سورة المائدة، التي تسجل نهاية الدعوة المحمدية بقوله تعالى في آيتها الثالثة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا". تقول أيضاً: "الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ".

الأمر الذي لا يترك أي مجال للشك في وجود مشركين في مكة، وفي أنحاء الجزيرة الأخرى، وأيضاً في المدينة في آخر مرحلة من مراحل التنـزيل القرآني، أي من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذاً فإن قول المؤلف أن الشرك قد قُضي عليه في الشهور الأحد عشر الأولى من وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قول لا يمكن أخذه مأخذ الجد.

ونود في الختام أن نضيف إلى الشهادة القرآنية الملحوظات الأربع التالية:

1- لما كان اعتناق الإسلام مسألة شخصية لا يقتضي تسجيلها بإجراء شكلي أو علني، فإن أحداً لم يكن بوسعه أن يعرف عن يقين نسبة المسلمين إلى أهل المدينة من غير اليهود في وقت من الأوقات. وكانت فرصة النص في الإقناع تزيد لو أنه ذكر العدد التقريبي للمسلمين الذين كانوا يصطفون وراء الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة في آخر الفترة التي نعكف على دراستها. ولكنه لا يعطي أي فكرة عن هذا العدد لا في أول ولا في منتصف ولا في آخر هذه الفترة. كما أنه لم يعط أي فكرة عن عدد المسلمين الذين كانوا يحضرون الصلاة الجامعة في أي وقت من أوقات الفترة المكية. لهذا فإن كل الشكوك لها ما يسوغها فيما يتعلق بدعواه بصدد إسلام أهل المدينة إسلاماً تاماً وكاملاً في نهاية السنة الأولى من الهجرة.

2- دخول أهل المدينة قاطبة في الإسلام كان يقتضي بالضرورة تحطيم كل ما كان في المدينة من أصنام منـزلية يعبدها المشركون. والحاصل أن النص لا يذكر في حديث الفترة المدنية إلا مثلاً واحداً لذلك هو قيام سهل بن حنيف، في جوف الليل، بتحطيم أصنام مشركي قبيلته، وذلك في بداية الهجرة، حين كان عليٌ لا يزال في قباء.(11)

3- هناك في الصحيفة، التي سيأتي ذكرها في الجزء الثاني من هذه الدراسة، والتي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما يقول النص، لبيان حقوق والتزامات يهود المدينة، نص يشير صراحةً إلى المشركين باعتبارهم أحد مكونات أهل المدينة.

4- تحت عنوان: "تاريخ الهجرة"، في الفترة التي تختم حديث هذه السنة الأولى، يعدد النص الأشهر التي انقضت بين قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وخروجه غازياً في أولى غزواته الحربية، وهي غزوة ودَّان. وحين وصل ابن إسحاق إلى شهر ذي الحجة، وهو شهر الحج، استطرد استطراداً صغيراً وقال، في جملة اعتراضية: "وولى تلك الحجة المشركون." (12) وهذه العبارة القصيرة تخبرنا إذاً، ليس فحسب أنه كان في المدينة عدد من المشركين، بل أنهم لم يتخلوا عن عادتهم القديمة في تنظيم خروج جماعي لأداء فريضة الحج في مكة.  

ولكن فيما وراء الدليل الذي تقدمه لنا هذه العبارة على وجود مشركين في المدينة بعد سنة من وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، فإنها تدعونا إلى التعرض بالبحث لموضوع مهم يتعلق بالفترة التي تعنينا، ألا وهو موضوع الحج.



(
*) الأرقام الواردة بين قوسين هي أرقام السور في المصحف الشريف.

(11) ص ص 493 و 494.

اجمالي القراءات 15072