لأن الحكام الذين نثور عليهم ونخلعهم الآن واحداً فواحداً ليسوا أكثر من مجرد نتاج لبيئاتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، فإن علينا إذا كنا نستهدف الحرية والحداثة والتقدم أن نبحث فيما هو أعمق من ذلك السطح الذي استقرت عليه عروش هؤلاء الطغاة، لنعيد حرث أرضنا وتهيأتها، لتنتج لنا غير تلك الثمار المرة، وإلا سنعيد إنتاج الفشل والعبودية والتخلف إلى مالانهاية.
كانت الصورة قبل ربيع ثورات شعوب المنطقة، تبدو وكأن شعوبنا تعكف على اجترار ماضيها، وإعادة &ArinAring;نتاج ذاتها في عود أبدي بلا نهاية، كأنها داخل حوصلة تتكاثر فيها الكائنات البشرية بكفاءة منقطعة النظير، ويموج ما بداخلها ويتضارب لتتفاقم مآسيها، تتصدع ليخرج بعض من المكبوت، أبخرة كريهة تضطر البشرية إزائها إلى الاستنفار، في محاولة لمعالجة ذلك الخطر الذي يبدو داهماً. . وبينما موكب البشرية يحيا ألفيته الثالثة، نجد أنفسنا قابعين هناك في مجاهل القرون الغابرة، نندب حظنا وعداء العالم لنا وتآمره علينا. . فهل من وسيلة تحقق لنا الحد الأدنى من التواصل مع العالم الذي يبدو وكأننا نصر على حماية أنفسنا بأنفسنا من قيمه وحضارته، طامعين في نفس الوقت في التمتع بمنجزاته؟
أمامنا نظرياً أحد خيارين، إما أن يرتد العالم عن مسيرته الحضارية، حتى يصل إلى ذات الماضي المأسورين نحن في حوصلته، وهذا ما تحاوله الآن طلائعنا المجاهدة بقيادة بن لادن والظواهري وسائر مشتقات جماعة الإخوان المسلمين عالمية التنظيم، وإما أن تستطيع شعوبنا تفجير حوصلتها، وتسرع الخطى نحو زمان العالم الراهن، علها تصل في الغد المنظور إلى الألفية الثالثة، ما نظن أن شباب الثورات العربية يهفو إليه، وإن لم تتبلور رؤيته وآماله بعد في تصورات نظرية كاملة وواضحة.
لاشك أن أي عاقل (وليس فقط شباب الثورة) لابد وأن لا يجد بداً من الخيار الثاني، ليكون علينا بعد ذلك أن نبحث كيف يمكن أن يتم هذا، ما لابد وأن يقتضي أن نحدد المحطة التي توقفنا عندها لنتخلف عن مسيرة الحضارة، وأن نعرف كيف نحطم السلاسل التي تكبلنا، ثم نبحث عن طريق يعود بنا إلى حيث كان من المفترض أن نكون.
بدأ الإنسان مسيرة الحضارة باكتساب الخبرات العملية من واقع ممارساته الحياتية العملية، بالتوازي مع تكاثر تساؤلاته الوجودية، ووجد من خبراته هذه إجابات بسيطة عن بعض من الأسئلة الملحة والمحيرة، التي كانت تتكاثر مع الأيام، مع زيادة معدلات التساؤل على المعدلات المتواضعة لما يجد من إجابات، كان للخيال الإنساني الدور الأكبر في إنتاجها، فجاء بافتراضات وأساطير، تحاول حل أكبر عدد من الإشكاليات، واختلفت تلك الاجتهادات وتطورت باختلاف الشعوب وتباين درجة تطورها، واتخذت هذه الأفكار مع الوقت شكل الحقائق المقدسة، بعد أن اختلطت مع المعارف العملية المكتسبة، ليحتويها جميعاً وعاء واحد، اكتسب صفة القداسة، التي كان الإنسان يحتاجها لمنحه اليقين الذي ينشده، وقام على شأنه رجال عرفوا بالكهنة، لعبوا دور حكيم الجماعة وطبيبها ومهندسها ومدرسها، ومن ثم دور حاكمها الفعلي، حتى وإن تصدر الصورة دائماً من هو أقدر على حمل السيف وإعماله في رقاب الخارجين والمنفلتين.
كانت هذه المرحلة هي الجزء الأطول من مسيرة الحضارة الإنسانية، ورغم القداسة التي أضفيت على إنتاج الجماعات الفكري، إلا أن ما نصطلح على تسميته "الفكر الديني" كان دائماً فكراً وفهماً بشرياً، ويشمل النصوص المقدسة ذاتها، كما يشمل الجزء المتعلق بالخبرات الحياتية المكتسبة، وقد انصهرا في منظومة واحدة، ظلت بكاملها في نظر الغالبية من العوام وحياً سماوياً مقدساً، ما صادف هوى رجال الدين بجعلهم مصدراً لكل المعارف، وبالتالي يتيح لهم القبض على جميع السلطات، رغم أن التنظيرات القديمة كانت تعتبر الكيان الإنساني مقسماً إلى عقل وروح وجسد، بما كان يستدعي التفرقة بين احتياجات كل جزء من هذه الأجزاء المفترضة، وهو ما فرضته جزئياً بعد ذلك دواعي التخصص، إلا أن إصرار رجال الدين على الهيمنة، واستئثارهم بقلوب وعقول العامة، جعل المتخصصين في تلك العصور يتحركون على استحياء وبحذر، يبقيهم في الأغلب تحت مظلة القداسة ورجالها، اتقاء لمصير ركب طويل من شهداء الإنسانية، كان عليهم تقديمه كقربان تضحية، من أجل العبور للمرحلة التالية من مسيرة البشرية.
كان عصر النهضة في أوروبا هو اللحظة المفصلية التالية في تاريخ البشرية، وفيه ظهر الأسلوب العلمي التجريبي في البحث، والذي يعتمد على مراقبة الظواهر الطبيعية ورصدها، في الوصول إلى إجابات على أسئلة الإنسان، وفي حل إشكالياته مع الطبيعة، وقد أدى تطور هذا الأسلوب العلمي، إلى تحقيق طفرة هائلة في حجم المعارف الإنسانية، ما استدعى انفصاله واستقلاله التام عن حزمة "الفكر المقدس".
هنا بالتحديد انفصلت الشعوب التي عجزت عن استيعاب وإنتاج المناهج العلمية الحديثة عن باقي الشعوب، وبينما سارت الأخيرة في طريقها في صنع الحضارة وإبداعها، دخلت الأولى فيما شبهناه بالحوصلة، لتعيش أسيرة "الفكر الديني الشامل"، والذي يدعي امتلاك مفاتيح كل ما يعترض الإنسانية من إشكاليات. . هذه الشعوب أشبه بركاب سفينة شراعية قديمة، قد تهالك جسدها وتمزقت أشرعتها وتأخذ في الغرق، فيما ركابها مصرون على البقاء داخلها، رافضين الانتقال لسفينة أخرى حديثة وقادرة على مغالبة أمواج البحر العاتية، لمجرد أن سفينتهم العتيقة مقدسة وعزيزة على قلوبهم، ربما أعز عليهم من أرواحهم الموشكة على الهلاك!!
استمرت شعوب الشرق في العيش المطمئن في ظل اليقين الذي يوفره "الفكر المقدس"، ويبدو أن هذا بدا مريحاً لها، مقارنة بأمواج الشك العاتية التي اجتاحت أوروبا، فدخلت دوامات الحروب الدينية والعنصرية، وقامت بحرث تربة العصور الوسطي مرات ومرات في جميع المجالات، وشهدت حركات الإصلاح الديني، والثورات العلمية وتيارات الفنون والآداب والفلسفات. . تعمدت بنار الحروب ودماء الشهداء في مختلف المجالات، حتى استطاعت تأسيس حياة جديدة كل الجدة، على ركام الماضي الذي صار مجرد ذكرى، تحرص على ألا تعود إليها. . في مقابل شعوب عاجزة تصر أن يكون ماضيها هو مرجعية حاضرها ومستقبلها، وتخفي عجزها تحت ستار الاعتزاز بالهوية والخصوصية والمقدسات، في ذات الوقت الذي تتلهف فيه وبسفه على استهلاك منتجات الحضارة التي تلعنها ليل نهار.
هكذا نكون قد حددنا لحظة غياب شعوب الشرق عن التاريخ، ويتبقى أن نجد طريقاً للعودة. . ولاشك أن نقطة النهوض هي ذاتها نقطة السقوط، وهي تبني المنهج العلمي في البحث عن حلول لإشكاليات حياتنا، بتدريب أبنائنا على التفكير العلمي الحر والمستقل عن كل ما ورثناه من تراث، ولن يتأتى لنا هذا إلا إذا امتلكنا ما يكفي من الشجاعة والثقة بالذات، ما لن يتحقق بدعوات جوفاء أو مواعظ تبشيرية وتنويرية، وإنما سيتحقق تلقائياً، متى امتلكنا ناصية العلم وأساليبه، واغتنينا بمعارفه المنتجة ذاتياً، وليست المنقولة عن الغرب نقلاً آلياً، دون فهم عميق أو قناعة حقيقية. . لن يتحقق هذا ونحن مسترخيون نحلم بغد أفضل، وإنما بخوض فترات عصيبة، يتصارع فيها القديم الراسخ، مع الجديد الوليد. . بدون الإقدام على دخول أتون ذلك الصراع، سنظل نرقب في حسرة كل شعوب العالم وهي تتسابق وتتنافس في طريق التطور، دون أن نمتلك أي أمل في تغيير ما نرزح فيه من تخلف، وما نستشعره من دونية، تدفع بنا في كثير من الأحيان إلى الانتحار، عبر الصدام مع مانتصوره قوى شريرة متفرغة لإيقاع الأذى بنا!!. . هذا الصراع الداخلي هو ما حدث في العراق، الذي تولت القوى العالمية تحريره من الطغيان السياسي، لكن هذا لم يكن كافياً ليسلك مباشرة طريق التقدم والحداثة، طالما بقي أسير عجزه الداخلي، وانطراحه في كهوف الماضي الثقافي والاجتماعي. . فكان لابد أن ينصهر بالنار والدم، ليتنقى من أدران قرون التخلف، قبل أن يتمكن من صنع الفجر الجديد. . ما حدث في تونس من انتصار ابتدائي لإرادة الشعب على الطغيان، يندرجه ضمن ذلك السياق، وبالطبع مصر قلب المنطقة، التي دخلت بوتقة الصراع الحضاري بعد نجاحها في رفع غطاء الهيمنة المباركي الذي أعاق التفاعلات السياسية والاجتماعية طويلاً، لتطرح الآن على الساحة المصرية كل الأسئلة التي تحاشينا الإجابة عليها أو مواجهتها.
المطروح الآن في مصر وكل دول المنطقة هو ماذا تريد شعوبها بالتحديد. . هل تريد الهروب لماض سعيد وحبيب من حاضر ترفضه جهلاً أو عجزاً، أم تريد الفكاك من أسر الماضي، لتحاول تعويض ما فاتها من مسيرة الحضارة الإنسانية؟!
نرى مصير شعوبنا أسيرة حوصلتها الماضوية، مرتهناً بتصرف الصفوة من حكام ومفكرين ونشطاء مجتمع، فهؤلاء كانوا دوماً هم قادة شعوبهم، أو قادة ما نعرفه بالكتلة الصامتة، التي لا تتحرك وفق توجهاتها الخاصة، وإنما تنيب عنها ما تنجب من صفوة، يحملون سمات قاعدتهم الأساسية بالطبع، لكنهم يتفوقون على العامة باتساع منظور اهتماماتهم الشخصية، ليشمل دائرة حياة مجتمعاتهم. . هؤلاء إن توجهوا نحو الثقة بالعلم، كوسيلة وحيدة للتعامل مع العالم المحيط، سواء العالم الطبيعي أو المعنوي المتمثل في العلاقات بين الأفراد والشعوب، وفي المقابل تختصر حزمة "الفكر المقدس" التقليدية، لتقتصر على معالجة الروحانيات، التي تحتاج إليها النفس البشرية بالسليقة، فلا يعود لرجال الدين مجال لادعاء ما لا شأن لهم به ولا علم، إن فعلت الصفوة ذلك ونجحت في دفع مجتماتها إليه، عندها فقط يمكن أن تعود شعوبنا من غيابها، لتحث الخطى نحو الألفية الثالثة!!