النص
فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه، وأوى إليهم من المسلمين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين، بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً ودوراً تأمنون بها. فخرجوا أرسالاً.(1)
أبو سَلَمَة
فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول &Ccediaacute; الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين من قريش، من بني مخزوم: أبو سَلَمَة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، واسمه : عبد الله، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار، خرج إلى المدينة مهاجراً.
وعن أم سَلَمَة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما أجمع أبو سَلَمَة الخروج إلى المدينة رحَّل لي بعيرَه ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سَلَمَة بن أبي سَلَمَة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجالُ بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنـزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سَلَمَة، فقالوا: لا والله، لا نترك ابننا عندها إذ نـزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا بُنَيَّ سَلَمَة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سَلَمَة إلى المدينة. قالت: ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي، حتى أمسي: سنة أو قريباً منها، حتى مرَّ بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها! قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: وردَّ بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني. قالت: فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خلق الله. قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي؛ حتى إذا كنت بالتنعيم (وهي موضع بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة) لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار، فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أوَ ما معك أحد؟ قالت: فقلت: لا والله، إلا الله وبُنَيَّ هذا. قال: والله ما لك من مترَك. فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوى بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط، أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنـزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نـزلت استأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحَّى عني إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الروَّاح، قام إلى بعيري فقدمه فرحَّله، ثم استأخر عني، وقال: اركبي. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاده، حتى ينـزل بي. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلاً - فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.(2)
التحليل
هل كان أبو سَلَمَة، كما يستفاد من النص، الوحيد بين مسلمي مكة الذي هاجر إلى المدينة قبل "بيعة الحرب" ؟ هذا أمرٌ بعيد الاحتمال. فمن غير المتصوَّر، من جهة، أن الألوف من أهل المدينة الذين كانوا يحجون إلى مكة خلال السنوات الاثنتي عشرة الأولى من الإسلام، لم يكن بينهم مَن اعتنق هذا الدين. ومن غير المتصوَّر، من جهة أخرى، أن عشرات المسلمين الذين نُفوا من مكة أو أجبروا على الهجرة لم يكن من بينهم من لاذ بمسلمي المدينة. ولكن، على فرض أن أبا سلمة كان أول مسلم هاجر إلى المدينة خلال الفترة المكية، لماذا خصص النص لقصة زوجته - صفحة ونصف - أكثر مما خصصه لأي حدث آخر من أحداث هجرة مسلمي مكة؟ المحتمل، في رأينا، هو أن مؤلف "السيرة" أراد أن يضيف حلقة جديدة إلى السلسلة الطويلة من القصص الصحيحة أو المختلقة، التي تهدف إلى تسويد صفحة آل مخزوم قبيلة خالد بن الوليد، الذي أسر جده في العراق. وهو، في هذه المرة، يستخدم أم سلمة، التي تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها، لتحقيق غرضه بتصويرها كضحية لسوء معاملة القبيلة المذكورة.
النص
يسرد النص أسماء ثمانين شخصاً، منهم ثماني نسوة، هاجروا إلى المدينة.(3)
عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي
ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش ابن أبي ربيعة المخزومي، حتى قدما المدينة. قال عمر: اتَّعدتُ، لما أردنا الهجرة إلى المدينة، أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي بن وائل السهمي عند موضع التناضب. وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نـزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلماه وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك. فرقَّ لها. فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حرُّ مكة لاستظلت. فقال: أبرّ قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه. فقلت: والله إنك تعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما؛ فلما أبى إلا ذلك قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإنْ رابك من القوم ريبٌ، فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى. فأناخ، وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن. وحين دخلا به مكة دخلا به نهاراً موثقاً، ثم قالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
قال عمر: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم! وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أنـزل الله تعالى فيهم، وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿53﴾وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ﴿54﴾وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنـزلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ﴿55﴾" [الزمر] فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثتها إلى هشام بن العاصي. فقال هشام بن العاصي: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى (وهو موضع بأسفل مكة)، أُصعَّد بها فيه وأصوَّب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهِّمنيها. فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أُنـزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا. فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة.(4)
التحليل
هذه الحالة مَثل نموذجي للتناقضات, والافتراءات، والتجني، والصمت عن الأمور الهامة، التي ترد بكثرة في النص.
1- التناقضات:
أ ) قصة افتتان هشام بن العاصي حدثت في وقت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ وتُناقِضها إشارة وردت في جزء "السيرة" المتعلق بالفترة المكية تحت عنوان: "ذكر من عاد من أرض الحبشة لمَّا بلغهم إسلام أهل مكة"، مؤداها أن هشام بن العاصي بن وائل "حبس بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى قدم بعد بدر وأحد والخندق"(5)، علماً بأن غزوة الخندق حدثت في السنة الخامسة من الهجرة. هناك تناقض إذاً فيما يتعلق بافتتان هشام وفيما يتعلق بتاريخ هجرته إلى المدينة (قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم بقليل في الرواية الأولى، وبعدها بخمس سنوات في الرواية الثانية).
ب) وقصة افتتان عياش بن أبي ربيعة، كقصة افتتان هشام بن العاصي، زمانها هو وقت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهي الأخرى تناقضها إشارة في المكان ذاته تفيد أن عياشاً حُبس بمكة إلى ما بعد بدر وأُحُد والخندق. هنا أيضاً تناقض يتعلق بواقعة الافتتان وآخر يتعلق بزمن هجرة عياش إلى المدينة.
2- افتراءات:
أ ) من الصعب تصديق دعوى افتتان هذين الصحابيين اللذين كانا من السابقين الأولين في الإسلام واللذين تحملا بصبر وشجاعة بلاء النفي إلى بلاد الحبشة. وقد كان عياش، بصفة خاصة، هو وزوجته، من بين الأشخاص، البالغ عددهم ثلاثة وخمسون، الذين سبقوا إلى الإسلام فيما ذكر ابن إسحاق.(6) وكان عياش كذلك ممن عاقبه رجال من مخزوم لدخوله في الإسلام.(7)
ب) مما يذكر في هذا الصدد أن ابن هشام، الذي راجع سيرة ابن إسحاق، ينقل إلينا رواية للوقائع تختلف تماماً عن تلك التي يرويها ابن إسحاق في شأن هذين الصحابيين. إنه يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: من لي بعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفياً، فلقي امرأة تحمل طعاماً، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين - تعنيهما - فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ مروة (أي حجراً) فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، ثم حملهما على بعيره، وساق بهما، ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. ومفاد هذه الرواية إذاً أن عياشاً وهشاماً لم يفتتنا عن دينهما.
3- تجنٍ:
إذ أن هذين المفتونين كانا ينتميان إلى قبيلتين تُظهرهما "السيرة" بمظهر الأعداء الألداء للرسول صلى الله عليه وسلم: قبيلة مخزوم، وهي قبيلة خالد بن الوليد، وقبيلة سهم، وهي قبيلة عمرو بن العاص، الذي كان من أعوان معاوية المقربين، وصاحب الحيلة في التحكيم بين علي رضي الله عنه ومعاوية، بعد معركة صفين سنة 36 ﻫ (657م)، الذي سمح لمعاوية بتولي الخلافة وانتزاعها من عليّ الذي كان ينتمي إلى قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم التي كان ينحدر منها أيضاً الخليفة العباسي المنصور الذي كلف ابن إسحاق بكتابة السيرة.
4- الصمت عن الأمور الهامة:
إذ أن النص، في مقولة أن عياشاً وهشاماً قد فتنا فافتتنا، يورد الواقعة باقتضاب شديد، وكأن المسألة أمر عرضي لا حدثاً فريداً في "السيرة"، ومن هنا فإننا لا نجد في سرد القصة أي إشارة إلى الطريقة التي اتبعت لحمل هذين المؤمنين خالصي الإيمان على الارتداد عن دينهما: هل كانت طريقة "رفيقة" يستخدم فيها الإغراء المادي أو الأدبي، أم طريقة عنيفة تقوم على التعذيب أو التهديد بالتعذيب للشخص ذاته أو لأقاربه؟ ولكم من الوقت أُخضِع عياش وهشام لهذه الضغوط، وكم كانت درجة مقاومتهما للتعذيب أو للإغراء؟ كذلك فإن النص صامت فيما يتعلق بهوية الأشخاص الذين مارسوا هذه الضغوط، وبما إذا كان التعذيب أو الإغراء قد تما أمام شهود، وبردود فعل هؤلاء، وغير ذلك من التفاصيل التي تصور أبعاد واقعة في مثل هذه الأهمية.
(1) محمد بن إسحاق، سيرة رسولالله، ص 468.
(2) "السيرة" : صص 468 – 470.
(3) صص 470 – 472.
(4) صص 474 – 476.
(5) ص 368.
(7) ص 321.