في سبيل إرجاع الكلم إلى مواضعه (1): [العمل] (1-1)
الجزء الأول
الفرق بين (العمل) و (الفعل) وعلاقتهما بـ (لأمر)
مدلول كلمة (الأمر)
قبل الحديث عن (العمل) يجب علينا التطرق إلى بيان المدلول القرآني لكلمة (الأمر) باختصار لارتباط (الأمر) بـ (الفعل) حتى نتمكن من إدراك المفهوم القرآني لـ (العمل).
ولن نتمكن من بيان وتفصيل كل ما يتعلق بـ (الأمر) حسبما هو وارد في القرآن الكريم , إذ سنحتاج لذلك إلى دراسة وبحث مستقل خاص بمفهوم (الأمر) الواسع حتى نوفيه حقه.
لذا سنكتفي بالتطرق لجوانب (الأمر) اللازمة لبيان (الفعل) والعلاقة بينهما.
ومن خلال التأمل في آيات القرآن نجد أن (الأمر)يمثل (إرادة وسلطة) ناتج عن قوة وتدبير وقضاء وعزم وليس مجرد كلمة نقولها فحسب كما يزعمون (إذا نُطِقَت بصيغة الأمر) ليصبح مفهوم (الأمر) مجرد لفظ كلمة لا نملك أسباب فرضها كقضاء.
في حين أن القيام بـ (الأمر) وفقاً لمفهومه القرآني يتطلب قبل أن نعزم عليه أن يكون قد اكتملت مراحله الأولى المتضمنة لعمليات (الدراسة - وضع الإجراءات والآليات - حيازة وسائل التنفيذ) , كما أن من ضمن (الأمر) فيما إذا تضمنت مراحله عناصر ذوات سلطة في الاختيار أن يتم تحديد وبيان ما يقع على المأمور من الثواب والعقاب مسبقاً , نتيجة ما يحدثه تجاه (الأمر) من طاعة أو عصيان مع الامتلاك المسبق لوسائل وآليات تنفيذ الثواب والعقاب في نفس الوقت. وما لا تتحقق فيه كل هذه المراحل لا يكون (أمراً).
اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى (يُدَبِّرُ الأَمْرَ) يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد : 2]
وعليه فإن (الأمر) يعتبر سلطة وقضاءً غالباً لا يرده إلا (أمراً) أغلب منه.
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [غافر : 68]
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ ( بَالِغُ أَمْرِهِ ) قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق : 3]}
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف : 21]
{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ (غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ) لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} [الكهف : 21]
الفرق بين (العمل) و(الفعل)
لقد تم تحريف مفهوم كلمة (الفعل) في كتب التراث واسس اللغة مما أداء إلى طمس مدلولها الحق في مفاهيمنا.! وأصبحنا عاجزين عن التفريق بين كلمتي (فعل) و (عمل) ودائماً نخلط بينهما عند الكلام أو الكتابة.
إذ أن ما تم وضعه في كتب التراث لمفهوم كلمة (الفعل) من أسس وقوانين علوم اللغة التي توارثناه , لا علاقة لها بـ (الفعل) وفقاً لمدلوله القرآني. في حين أن هذه الأسس والقوانين قد تكون صالحة وممكنة , إذا ما تم استخدامها وتطبيقها على مفهوم كلمة (العمل) وفقاً لمدلوله القرآني لا على (الفعل).
المفهوم القرآني لكلمتي (الفعل) و (العمل)
(العمل) وفقاً للمدلول المفهوم من القرآن:يدل على ممارسة مباشرة من قبل المخلوق بذاته (باستخدام جوارحه) كوسيلة لإحداث أثر ملموس في نفسه أو في كيان آخر من حوله.
وبالتالي فإن (العمل) يُنَفَّذ بجوارح الفرد مباشرة
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ (أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم) بِمَا كَانُوا (يَعْمَلُونَ) [النور : 24]
حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ (سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) بِمَا كَانُوا (يَعْمَلُونَ) [فصلت : 20]
أي أن (العمل) مقرون بالمخلوق بذاته , ويلزم وجود (الجوارح) للقيام به , لذلك لم يرد في القرآن ما يفيد أن الله قد نسب لذاته أي (عمل) , في حين أن القرآن الكريم يؤكد بأن الله (فعال) لما يريد.
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ (فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) [هود : 107] }
وعلى النقيض من ذلك فقد ورد بالقرآن ذكر عن (عمل الشيطان) , ولكن لم يُنسَب له أي (فعل).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا (الْخَمْرُ) وَ (الْمَيْسِرُ) وَ (الأَنصَابُ) وَ (الأَزْلاَمُ) رِجْسٌ مِّنْ (عَمَلِ الشَّيْطَانِ) فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة : 90] }
والآية (71) من سورة (يس) هي الوحيدة في القرآن التي ذكرت (العمل) بصيغة من الممكن أن تجعل أكثر الناس ينسبون (العمل) بـ (الخطاء) لله سبحانه وتعالا عن ذلك علواً كبيراً.
أَوَلَمْ يَرَوْا (أَنَّا خَلَقْنَا) لَهُمْ مِمَّا (عَمِلَتْ أَيْدِينَا) أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس : 71]
وذلك نتيجة للفهم السائد بين الأمة أن خطاب القرآن الموجه لنا , هو قول مباشر من الله , نقل إلينا بالقرآن رواية بنص القول دون تعديل , بحيث نفهم أن الله قد أجاز لنا مخالفة أسس وموازين الخطاب العربي المبين لـ (نشذ) عنها بصرف (ضمير الجمع) العائد على الملائكة واسناده (اعتباطاً) لله الواحد الفرد , كما يفترون أن ذلك (تعظيماً له) , في حين أن (تعظيم الله) لا يكون إلا بإفراده وتوحيده , ولا يعقل أن يخاطبنا الله وكأنه (فرد في جماعة) , ناهيك عن وجود آيات في القرآن تحوي قول الملاك الناطق بالقرآن كـ (وما يدريك لعل) و(عسى) و(الله ربي) و(لنعلم)...إلخ. وإذا اعتبرنا القرآن هو قول الله مروي عنه بنصه , فيجب أن تنسب هذه الأقوال لله.
وقد ورد في القرآن صراحة مؤيداً بقسم من (الروح الأمين) بأنه قول رسول كريم (أي ملاك) ذي قوة عند ذي العرش مكين... { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) [التكوير] }.
وبغض النظر عن اجماع الأمة على الخطاء أو درجة قناعتهم بهذا الزعم من عدمه , فأنا عن نفسي أعتبره جريمة في حق الله , وتحريف تسبب في صرفنا عن فهم خطاب القرآن , وسنسأل عنه يوم الحساب.
وهذا الجزئية ليست مرتبطة بموضوع هذا البحث ولكن تطرقت لها لبيان الأساس الذي ارتكزت عليه في الحكم بأن الله سبحانه وتعالى قد نسب لنفسه (الأفعال) دون (الأعمال) , فأرجوا ممن يخالفني الرأي بهذه الجزئية أن لا يجعل اختلافنا يصده عن تحكيم (العقل) في كل ما يصادفه خلال هذا البحث من آراء.
وبما أن الله قد نسب لنفسه (الفعل) دون (العمل) المخصوص للمخلوقات فإن كلمة (عَمِلَتْ أَيْدِينَا) في الآية (71) من سورة (يس) هي قول الملاك الراوي للقرآن , وضمير الجمع يعود على الملائكة التي هو واحداً منها. وهذا الملاك هو القائل {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا (بِأَمْرِ رَبِّكَ) لَهُ مَا (بَيْنَ أَيْدِينَا) وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا (كَانَ رَبُّكَ) نَسِيًّا (64) [مريم]}
لذلك كانت (الأعمال) وحدها هي الأساس للجزاء التي يجزي الله (مخلوقاته) بها , خيراً كانت أو شراً , وبها يتحدد مصير (المخلوقات) في الحياة الآخرة.
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا (تُجْزَوْنَ) إِلَّا مَا كُنتُمْ (تَعْمَلُونَ) [يس : 54]
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ (فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام : 108]
لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا (كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام : 127]
مَنْ (عَمِلَ) صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ(لَنَجْزِيَنَّهُمْ) أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا (كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل : 97]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا (تُجْزَوْنَ) مَا (كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التحريم : 7]
وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ (تُجْزَوْنَ) إِلَّا مَا (كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : 90]
وتختلف أنواع (الأنشطة) التي يقترفها الإنسان بجوارحه , على سبيل المثال : (كتب) , (ضرب) , (قفز) , (قتل) , (قال) , (شتم) , (صلى) , (صام) , (نام) , (نمَّ) , (اغتاب) ... إلخ. وهذه (الأنشطة) كلها في حد ذاتها وفقاً لمفهوم القرآن تعتبر (أعمال) وليست (أفعال).
لذلك كانت (الأعمال) هي وحدات القياس التي يقدر بها الجزاء لكل مخلوق.
فَمَن (يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة : 7]
وَمَن (يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة : 8]
هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا (نَسْتَنسِخُ) مَا كُنتُمْ (تَعْمَلُونَ) [الجاثية : 29]
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا (أَحْصَاهَا) وَوَجَدُوا مَا (عَمِلُوا) حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف : 49]
مَنْ (عَمِلَ سَيِّئَةً) فَلَا يُجْزَى إِلَّا (مِثْلَهَا) وَمَنْ (عَمِلَ صَالِحاً) مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر : 40]
والكفار يوم القيامة عندما طلبوا ارجاعهم للدنيا ومنحهم فرصة أخرى , إنما كان (ليعملوا) من الصالحات غير الذي كانوا (يعملوا) من قبل. (أعمال) ولم يرد ذكر (الأفعال).
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا (فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً) إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة : 12]
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا (أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر : 37]
وبغض النظر عن أثر (العمل) المتراكم على نفس مقترفه الذي سينتقل معه إلى الحياة الآخرة , فإن إحداث (العمل ونتيجته) وفق ما ندركه في الحياة الدنيا يكون أثرهما ونطاقهما محصوراً على (الفرد الذي قام به) و(الطرف الذي وقع عليه الأثر) بذاتهما دون أن يتعداهما , أي أن (العمل ونتيجته) لا يتجاوزا حدود المكان واللحظة الزمنية الحادث فيها (العمل ونتيجته) وينتهيان بانقضائها , وهذا عكس ما يتميز به (الفعل).
(الفعل)وفقاً للمدلول المفهوم من القرآن:يدل على (شيء ذو أثر فاعل).
وإحداث (الفعل) يكون نتيجة ممارسات متعددة من (فرد واحد أو جماعة) سواءً كان ذلك بصورة (مباشرة أو غير مباشرة).
و(الفاعل) لا يقتضي بالضرورة أن يكون هو بذاته من قام بـ (الفعل) وإنما قد يكون (فاعلاً) له (بواسطة جماعة غيره) وهم من قاموا بجوارحهم بممارسة عدد من (الأعمال) التي قد يلزم فيها استخدام وسائل مساعدة مادية ومعنوية أخرى حتى يتحقق (الفعل).
ونتيجة القيام بـ (الفعل) تحقيق غايات أو اهداف عامة قد لا تتزامن مع فترت (العمل) المستخدمة لإنجاز الفعل. أي إن (الأفعال) عند اكتمالها تصبح (أموراً) يقضى بها في وقتها أو بعد زمن من (فعلها).
{ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن (لِّيَقْضِيَ اللّهُ) (أَمْراً) (كَانَ مَفْعُولاً) لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال : 42] }
ومن هنا تتضح العلاقة الوثيقة والمتلازمة بين(الفعل) و (الأمر) وارتباطهما (بالسلطة والإرادة والمشيئة).
{ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) (16) [البروج] }
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا (قَضَى أَمْراً) فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [البقرة : 117]
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَ ( كَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً) [مريم : 21]
أَمْ (أَبْرَمُوا أَمْراً) فَإِنَّا مُبْرِمُونَ [الزخرف : 79]
(الأمر):بالضرورة لابد أن يكون (مفعولاً) قبل أن يقضى به {و(الفعل) لا يكون (فعلاً) إلا إذا توافرت مكوناته واكتملت في كل مراحل إنجازه ابتداء من لـ ( الفكرة , ثم الإرادة , ثم النظرية , ثم التدبير , ثم امتلاك الوسائل والأسباب المادية للتنفيذ , ثم امتلاك السلطة والقوانين المشرعة للفعل (وفي حالةفعل البشر قد تكون مكوناته مخالفة لقوانين الحق وشرع الله) }كل ذلك تم اختصاره في مفردة (الفعل) الذي باكتماله يصبح (أمراً) ثم القضاء به , ثم العزم عليه , وانتهاءً بتحقق النتيجة.
اللَّهُ الَّذِي (خَلَقَكُمْ) ثُمَّ (رَزَقَكُمْ) ثُمَّ (يُمِيتُكُمْ) ثُمَّ (يُحْيِيكُمْ) هَلْ مِن شُرَكَائِكُم (مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم : 40]
(الخلق والرزق والموت والحياة) من (أفعال) الله سبحانه وتعالى التي أنجزها عن طريق الملائكة وبهم يقضي بها كـ (أموراً) في الأزمنة المقدرة له.
وما اُسْتُخدِمَت صيغة الماضي (كان مفعولا) إلا لأن الله سبحانه وتعالى (منذ الأزل) قد أنجز (أفعاله) كلها وقدر لها أقدارها في (حجمها ونطاق أثرها والزمن المحدد للقضاء بها) , وكل ذلك قد تم منذ أن خلق السماوات والأرض وقد اصبحت (أموراً) مسطورة في الكتاب المحفوظ , والملائكة الموكلة بها تنتظر اكتمال أقدارها وأجلها المحدد لتقضي بها أولاً بأول بصورة آلية وفق نظام محكم وبرنامج دقيق تتدفق أحداثه عبر الزمن إلى قيام الساعة ومستمراً من بعدها إلى ما شاء الله. وقد يُحْدِث بعدها (أموراً) غيرها ما شاء , فلله الخلق والأمر. (وكل ذلك لا يتم إلا بأمور مفعولة)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ (لِيَقْضِيَ) اللّهُ (أَمْراً) (كَانَ مَفْعُولاً) وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [الأنفال : 44]
فَإِذَا (جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا) بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَ (كَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً) [الإسراء : 5]
السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) [المزّمِّل : 18]
{ مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَ (كَانَ) (أَمْرُ اللَّهِ) (قَدَراً) (مَّقْدُوراً) [الأحزاب : 38] }
وقد يصدر (الفعل) من فرد واحد من البشر , ويقضي به (أمراً) من خلال اقتراف (عمل) واحد , وذلك إذا كان أثر ونتيجة (العمل) مستمرة في فاعليتها من بعد انتهاء (العمل) , كـ (القتل) و(التدمير) وغيرها من النتائج المستمرة في البقاء بعد انتهاء (العمل) المسبب لها. كما حدث للتماثيل التي حطمها إبراهيم عليه السلام { قَالُوا مَن (فَعَلَ هَذَا) بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء : 59] } أو ارتكاب موسى عليه السلام لعمل السوء الذي أفضى إلى (القتل) { قَالَ (فَعَلْتُهَا) إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء : 20] }.
لنخلص من ذلك إلى معرفة وتحديد مفهوم (العمل) والمتمثل في عملية التفاعل بين (جوارح المخلوق وجهده المبذول مع الأدوات والوسائل المستخدمة).
أما مفهوم (الفعل) فيتمثل في النتائج (الفاعلة) والمستمرة في فاعليتها بغض النظر عن أطراف العمل والوسائل المستخدمة في انجازه.
ويبقى معنا تحديد ومعرفة كيف عالج القرآن نتائج (العمل) الغير فاعلة , وهل حددها بمفهوم معين أم أهملها؟ وحاشى الله أن يهمل شيء , إذ ورد في أكثر من موضع في القرآن ذكر عن (الصنع والصنيع) والذي من خلاله نتبين إحكام الخالق للأمور بهذا الشأن.
وَتَرَى (الْجِبَالَ) تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ (صُنْعَ اللَّهِ) الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل : 88]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه : 41]
إذا فقد نسب الله سبحانه وتعالى لنفسه (الصنع) كما هو بشأن (الفعل) المتماثل بـ (الصنع) من حيث أن إحداثهما يكون نتيجة ممارسة (أعمال) متعددة من قبل (فرد واحد أو جماعة) سواءً كان ذلك بصورة (مباشرة أو غير مباشرة).
و(الصانع) لا يقتضي بالضرورة أن يكون هو بذاته من قام بـ (بالصنع) وإنما قد يكون (صانعاً) له (بواسطة جماعة غيره) ليكونوا هم من قاموا بجوارحهم بممارسة عدد من (الأعمال) التي قد يلزم فيها استخدام وسائل مساعدة مادية ومعنوية أخرى حتى يتحقق (الصنع).
وعليه فإن (الصنع) غير (العمل) ولا يمكن أن يكون (العمل) (صنعاً) لأن (العمل) وسيلة و(الصنع) محصلة ونتيجة.
إذاً ما هو مفهوم (الصنع) ؟ وهل هو (الفعل) بذاته أم أن هناك فرق بينهما؟
نعم هناك فرق بينهما أهمها ما يلي :-
- لم يرد في القرآن صيغة المضارع (يصنع) منسوباً (لله) كما هو بالنسبة لـ (يفعل).
- لم يرد في القرآن صيغة (صَنَّاعْ) إطلاقاً , مع وجود ما يفيد أن الله (فَعَّالْ).
- ورد في القرآن صيغة (اصْطَنَعْتُكَ) منسوباً (لله) ولم يرد لفظ (افتعلتك) إطلاقاً.
- ورد في القرآن صيغ (تُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) منسوباً (لله) و(اصْنَعِ بِأَعْيُنِنَا) منسوباً (للملائكة) ولم ترد هذه الصيغ (للفعل) إطلاقاً.
- ورد في القرآن صيغة (مصانع) ولم ترد هذه الصيغ (للفعل) إطلاقاً.
نكتفي بهذه الفروق لنتوصل للاستنتاجات التالية:-
- (الصنع) أكثر قرباً من المادة والمحسوسات وبالتالي فقد خُصَّتْ المخلوقات به في كل مراحلة بما فيها ما ورد ذكره بـ (تُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) منسوباً (لله) و(اصْنَعِ بِأَعْيُنِنَا) منسوباً (للملائكة) أو خطاب القرآن لنا بـ (صُنْعَ اللَّهِ) من الموجودات المادية من مخلوقات الكون وآلية حركتها.
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء : 129]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ [هود : 37]
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء : 80]
... وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ [الأعراف : 137]
ولم يرد في القرآن أمثال هذه النتائج بشأن (الفعل)
- (الصنع) في ذاته كمادة لا أثر له في صلاح وفساد موازين الخلق وبالتالي فإن خطاب القرآن بشأن الصنع شامل يصلح لأن يكون خطاب لكل فرد , ولم تخصص به فئة معينة كـ (أولي الأمر) كون (الصنع) لا علاقة أو رابط بينه و(الأمر) على عكس (الفعل) , حيث أن العلاقة الوثيقة بين (الفعل والأمر) تؤكد (الإرادة والمشيئة والسلطة) لمن يقوم بهما , وقد خص الله نفسه بها بصورة شاملة ومطلقة , في حين أنه قد فوض (الإنسان) خلال حياته الدنيا بنصيب محدود من (الأمر والفعل) ليجتاز مرحلة البلاء والاختبار المقدرة له فيها قبل انتقاله لحياته الآخرة.
ومنه نخلص إلى معرفة أن تفاعل (العمل) بالجوارح والوسائل يؤدي إلى حصول النتائج التالية:-
- (الصنع)وهو النتيجة المادية المدركة أو المحسوسة.
- (الفعل)وهو الأثر الفاعل للنتيجة (أي تستمر فاعليته عبر الزمن).
(العمل)ذو طبيعة مادية , وكذلك الجانب المادي من نتائجه (الصنع) , وقد أخبرنا القرآن أن الباطل منهما (سيحبطه الله) في الآخرة , ولم يرد ما يفيد بإحباط (الفعل).
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَ(حَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا) وَ(بَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[هود: 16]
ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ (لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام : 88]
مواطن وأنواع (الفعل)
وتختلف أنواع (الفعل) وكذا مواطن (الفعل) وميادينه منها على سبيل المثال : (الخير) , (الشر) , (الزكاة) , (الحكم) , (العدل) , (الفحشاء) , (المنكر) , ( الزناء) , (الشرك) , (الكفر) , (الإيمان) ... إلخ.
{ وَالَّذِينَ هُمْ (لِلزَّكَاةِ) (فَاعِلُونَ) [المؤمنون : 4] }
وهم الذين يملكون السلطة والأسباب والوسائل (لفعل الزكاة) أي تسهيل الأسباب وتهيئة الظروف بكل (الأعمال والمواطن والأنظمة) التي من شأنها تزكية نفس العباد. أي (فعل الزكاة) بمعناها الواسع وليس مجرد (إنفاق الصدقة من المال).
{ وَالَّذِينَ لَا (يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) وَلَا (يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ) اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا (يَزْنُونَ) وَمَن (يَفْعَلْ) ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) [الفرقان] }
(الشرك بالله)و (قتل النفس التي حرم الله) و (الزناء) . هي ثلاثة (أفعال) عظيمة تؤدي إلى مضاعفة العذاب والخلود فيه , (أفعال) لفواحش عظيمة وليست (أعمال) وسلوكيات فردية مقصورة على جوارح الفرد بذاته وإنما ناتجة عن تنظيم وتدبير (فرد أو جماعة) ذو سلطة من خلال نشاط مهني أو تنظيمي . أي أنه في كل (فعل) من هذه (الأفعال الثلاثة) لابد من المرور بمراحل (الفعل) ابتداء من لـ ( الفكرة , ثم الإرادة , ثم النظرية , ثم التدبير , ثم امتلاك الوسائل والأسباب المادية للتنفيذ , ثم امتلاك السلطة والقوانين المشرعة للفعل } ثم القضاء , ثم العزم , وانتهاءً بالنتيجة.
وبالتالي فإن(فاعل) الفاحشة ليس بالضرورة هو من (عمل) بجوارحه فيها , وإنما (الفاعل) هو المُنَظّر وصاحب السلطة والقرار , و(العاملون) (بفعله) قد يكون هو واحداً منهم وقد يكونوا من بعد موته بعدة أجيال. أي أن (فاعل) الفاحشة ليس بالضرورة هو من (يأتي) الفاحشة.
وقد يُهْلِك الله أمة (بفعل) المبطلون من آبائها أو ساداتها من بعد موتهم بقرون من الزمن , وذلك متى ما قامت هذه الأمة باقتراف أي جزئية من (فعل) آبائها أو ساداتها الأولون و(عملت) بها بجوارح أفرادها.
أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا (أَشْرَكَ) آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ) الْمُبْطِلُونَ [الأعراف : 173]
(الفاعلون)للفواحش عادة هم شياطين الإنس والجن (مجتمعين) بما يوحون لبعضهم بعض من زخرف القول , و(بفعلهم) تفسد العقائد والقيم والسلوكيات , أي بما يؤلفونه من كتب ونظريات ما أنزل الله بها من سلطان , وقد يموتون ويبقى (فعلهم) من بعدهم.
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ (مَا فَعَلُوهُ) فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام : 112]
وبما أن القرآن قد نسب للشيطان (الأعمال) ولم يرد ما يفيد بأن الله قد نسب للشيطان أي (فعل) فإن الشيطان (ضعيف) لا يقدر على إغواء الناس وتظليلهم عن الحق منفرداً بنفسة , لأنه لا يملك عناصر ومقومات القيام (بالفعل) كاملة , لذا لا بد من التعاون مع شياطين الإنس ليقوموا (بالفعل) نيابة عنه , حيث يمدهم بجزء من عناصر ومراحل (الفعل) وهي {الفكرة , ثم الإرادة , ثم النظرية , ثم التدبير }, وعلى شياطين الإنس من (رجال الدين وأصحاب السلطان) توفير العناصر والمراحل المتبقية { الوسائل والأسباب المادية اللازمة للتنفيذ , وسلطة وضع وفرض القوانين المشرعة (للفعل) } ثم القضاء , ثم العزم (بنشره بين عوام الشعوب بالمكر والترغيب والترهيب) وانتهاءً بالنتيجة وهي (إفسادهم وتظليلهم). (هذا هو فعل الفواحش) وهؤلاء هم (الفاعلون لها) أما عوام الشعوب لا يقدرون على (فعل) الفواحش , وما يقدروا عليه هو إتيان الفواحش واقتراف ما تبيحه لهم من (الأعمال).
وَإِذَا (فَعَلُواْ فَاحِشَةً) قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ (أَمَرَنَا) بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ (يَأْمُرُ) بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف : 28]
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا (كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء : 74]
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) [يونس : 36]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ (يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [الأنعام : 159]
والله عندما أوحى إلى نوح ليخبره بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن , قال له لا تبتئس (بما كانوا يفعلون) , ليس المقصود (بما كانوا يعملون) أي يقترفونه بجوارحهم , وإنما ما يفرضونه بسلطانهم من نظريات وعقائد في دينهم , وكذا ما يفكرون ويدبرون ويتآمرون به تجاه نوح والمؤمنين عازمين بما لديهم من سلطان أن يقضوا به فيهم.
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ (بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [هود : 36]
ومما سبق يتبين أن الذين (يفعلون الفواحش) ليس كما نتصورهم , أنهم الذين يقترفون (أعمال السوء) , بل هم من يشرعون ويضعون أسس ونظريات العقائد الباطلة , ويستخدمون وسائلهم وما لديهم من سلطان ليقضوا بها , فمن تاب منهم واستغفر فعليه أن لا يتمسك بفعله بعد توبته.
وَالَّذِينَ إِذَا (فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ) ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران : 135]
بعد الاستغفار للذنوب نلاحظ أن الآية اشترطت بأنهم (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) والاستغفار لا يكون إلا بعد اقتراف الذنب أي بعد انقضا (الأعمال) المقترفة كوسائل أثناء مراحل إنجاز (الفعل) أي أن الله لن يقبل توبتهم مما اقترفوه من (اعمال) لإنجاز (فعلهم). ولن يغفر ذنوبهم مهما استغفروه ما داموا متمسكين ومصرين على (الفعل) ذاته , أي (العلوم أو الشرائع).
أما في حالة التوبة من (العمل) فتختلف كون العمل يقترف وينتهي في فترة قضائه وانقضاءه وبعد التوبة والاستغفار لا معنى لاشتراط عدم الإصرار عليه ولا يستقيم ذلك.
وَمَن (يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء : 110]
فإذا كان إحداث (الفعل) لا يشترطبالضرورة أن يكون من فرد بذاته , كذلك (نتيجته) ليس بالضرورة أن يكون محصوراً أثرها ونطاقها بزمان أو مكان معينين. فقد يقضى (بالفعل) بعد زمن بعيد من زمن إحداثه والانتهاء منه. وقد يموت الفاعل ويبقى فعله , ليقضى به لأجيال عديده من بعده.
أي أن (الفعل) هو (النتيجة الفاعلة والمستمرة في فعاليتها) سلباً أو إيجاباً مع استمرار فعالية ما يترتب على (الفعل) من أجر أو وزر بمقدار (أجر أو وزر من "عمل" بالفعل أو قضى به أو بجزئية منه).
وليس من الدقة في التعبير أن نقول (نعمل بالفعل) لأن (العمل) غير (الفعل) , والفعل متشعب وواسع التكوين , والأعمال التي مورست عند إنجاز (الفعل) كانت وسيلة وليست جزء منه وكذلك (الأفراد والأعمال) المستخدمة في إنجاز (الفعل) ليس بالضرورة هي نفس الأعمال الممارسة كنتيجة للفعل أو الأفراد ذاتهم , وقد علمنا من القرآن الكريم أن (الأفعال) لا تقترف وإنما تؤتى ويؤتى بها وتجتنب ويقترب منها.
وَالَّذِينَ (يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ) وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى : 37]
وَلاَ (تَقْرَبُواْ الزِّنَى) إِنَّهُ كَانَ (فَاحِشَةً) وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء : 32]
{ ... وَلاَ (تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ) مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ... [الأنعام : 151] }
وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَ(آتُواْ الزَّكَاةَ) وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة : 43]
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ [الأعراف : 80]
يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن (يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ) مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً [الأحزاب : 30]
نختم هذا الجزء بالآيات والتساؤلات التالية:-
وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (اعْمَلُواْ) عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا (عَامِلُونَ) [هود : 121]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ (أَعْمَالٌ) مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا (عَامِلُونَ) [المؤمنون : 63]
لِمِثْلِ هَذَا (فَلْيَعْمَلِ) (الْعَامِلُونَ) [الصافات : 61]
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ (فَاعْمَلْ) إِنَّنَا (عَامِلُونَ) [فصلت : 5]
أين (الفعل) وتصريفاته و(تفعيلاته) من هذه الآيات والقرآن بصورة عامة؟
إذا كان المفهوم القرآني لـ (الفعل) بهذا التشعب والتركيب فكيف يمكن أن تنطبق عليه الأسس والقواعد الموضوعة في الكتب التراثية سواء المختصة بعلوم اللغة أو الشعر والأدب أو غيرها؟ كالقول بـ (بالفعل – الحاضر- والماضي – والمستقبل) أو ( اسم فاعل – والمفعول به) أو (تفعيلات الشعر وأوزانه) و... و...إلخ.
كون (الفعل) يعتبر قرين (الأمر) ولا يكون (أمرا) إلا إذا كان مفعولاً فإن علاقة (الفعل) بـ (أولي الأمر) وطيدة , وأولي الأمر هم (رجال الدين وأصحاب السلطان) وهم القادرون على فعل (الفواحش). لذا فقد تعاونوا مع الشيطان على طمس المعنى الحق لـ (الفعل) من مفاهيمنا؟ حتى لا ندرك أنهم المقصودين (بفعل الفواحش) ونتيجة لعدم المقدرة على طمس لفظ (الفعل) من القرآن فقد قاموا بإحلاله محل (العمل) في علومنا ؟
نكتفي بهذا لننهي الجزء الأول من بحث المفهوم القرآني لـ (( العمل))
المخصص لبيان الفرق بين (العمل) و (الفعل) وعلاقتهما بـ (لأمر)
وانشأ الله في الجزء الثاني نبين علاقة (العمل) بـ (الكفر) و(الإيمان)
نسأل الله أن يتجاوز عن ما جهلنا فيه ويهدينا للحق يوفقنا للعمل به
علي السعيدي