متى؟ وكيف؟ ولماذا تندلع الثورات؟

د. شاكر النابلسي في الأربعاء ٠٦ - أبريل - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

-1-

في عام 2003 نشرتُ كتابي بعنوان (الشارع العربي: دراسة تاريخية سياسية) وكنتُ في مقدمته، أعبر عن خيبة ظني، وفقدان الأمل المرجو من هذا الشارع، قائلاً: " أصبح الشارع العربي فضاء الحرية، حيث لا فضاء غيره. فيه تتعلم الجموع ألف باء وعي الذات الجمعية، وتدرك روح التضامن، وتتواصل إلى الانتماء الكلي الإنساني. وهو برلمان العرب الحقيقي، بعيداً عن الزيف، والكذب، والخداع، والمراوغة. ولكن الشارع العربي – متمثلاً بالطلبة والمث&Tlde;ثقفين غالباً – أصبح بمثابة الرأي العام العربي، الذي نادراً ما يضع النقاط على الحروف، ويقول كلمته فيما يجري، في ظل غياب الحرية والديمقراطية، واضطهاد الرأي الآخر، وقمع المعارضة ومصادرتها وقتلها في بعض الأحيان. ونتيجة لذلك، كان الشارع العربي لا يتحرك إلا بالمناسبات القومية كالقضية الفلسطينية مثلاً. وتقوم المظاهرات لتندد لا بالأنظمة العربية، ولكن بأمريكا، وإسرائيل، والغرب عامة. فالشارع العربي في الحقيقة غير موجود. فلم نشهد أن هذا الشارع – مثلاً - ثار ضد الفساد والفاسدين، أو طالب بتعديل دستوري."

فالشارع العربي عام 2003 ، وما بعد ذلك، وما قبل ذلك، كان هاجداً ونائماً نوم أهل الكهف. وهذا النوم لم نثره نحن فقط في كتابنا، بل لفت انتباه الغرب عامة.

-2-

 

وفجأة ثار هذا الشارع ضد الفساد والفاسدين، وطالب بتعديل الدساتير، أو بكتابة دستور جديد. وقال لي بعض القراء، أن عليَّ مراجعة كتابي، وإعادة النظر في كثير من أبوابه، على ضوء ما جرى ويجري الآن من ثورات في العالم العربي. وهذا مطلب مُحق. ففكر الباحث مهما بلغ من العمق، وصواب الرؤية، ودقة البحث، لا بُدَّ له من مراجعة بين الحين والآخر.

وفي الحقيقة، فإن هذه الثورات، لم يكن من الممكن لي أو لغيري التنبؤ بها. فالصحافي الفرنسي آلان غريش في مقاله في " اللوموند ديبلوماتيك" بعنوان "اليقظة العربية تغير النظام الإقليمي"، يُقرُّ هو الآخر، بأن الدوائر الغربية لم تتمكن من التنبؤ بقيام الثورات، التي تجري الآن في العالم العربي. ويقول إن " التهكم على الشارع العربي أصبح أمراً اعتيادياً في أروقة قصر الإليزيه، كما في وزارات الخارجية الغربية. فهل كان يجب الأخذ بعين الاعتبار ما كان يفكر فيه مئات الملايين من الأشخاص، الذين كان لا يتوقع منهم في أفضل الأحوال سوى رفع شعارات إسلامية معادية للغرب؟"

-3-

شبّه كثير من علماء السياسة ومؤرخيها الثورات في العالم بالبراكين. وأصبحت علوم الأرض في العصر الحديث، قادرة على رصد البراكين، والتنبؤ بانفجارها بشكل تقريبي جداً. ولكن الثورات التي تشبه البراكين في غليان معادنها تحت الأرض، وما أن تجد قشرة أرض رقيقة حتى تنفجر منها، مرسلة حممها، ودمارها الفظيع.

إذن، لماذا كان من الصعب توقُّع اندلاع الثورة؟

تقول عالمة الاقتصاد السياسي روزا لوكسمبورغ ( 1871-1919)، وهي تشير الى الثورات الأوروبية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إن "الثورة لا يمكن التنبؤ بها ساعة واحدة قبل اندلاعها." فرغم امتلاك أمريكا أكبر جهاز مخابرات في العالم CIA، إلا أن هذا الجهاز عجز عن التنبؤ أو التحذير من ثورتي تونس ومصر مثلاً. ومن المعروف أن البيت الأبيض والكونجرس الأمريكي وجها انتقادات شديدة إلى جهاز المخابرات الأمريكية لعجزه عن توقع الثورة في مصر وسقوط بن علي ومبارك حليفي الولايات المتحدة. وذكرت شبكة "سي بي إس" أن باراك أوباما أبلغ رئيس المخابرات الأمريكية، خيبة أمله في العاملين بالمخابرات الأمريكية، نظراً لإخفاقهم في التنبؤ باندلاع المظاهرات التي أدت إلى الإطاحة ببن علي وحسني مبارك. ولكن كان على أوباما - المثقف لا السياسي - أن يعلم أن التنبؤ بالثورات، يكاد يكون مستحيلاً. وهو ما عبَّر عنه فيكتور هيجو تعليقاً على انقلاب لويس بونابارت بقوله إن الثورات تندلع فجأة "كرعد من سماء صافية الأديم".

ويشرح المفكر التونسي العفيف الأخضر، قانون انتشار الثورات بقوله:

"إن الثورات تنتقل انتقال النار في حقول الهشيم. فهي تنتقل بتأثير قانون المحاكاة Mimétisme. وهذا القانون هو الذي يفسر أيضاً انتشار "الموضة" في بلدان عدة في وقت واحد، أو في أوقات متقاربة. فخوفاً من محاكاة الشباب الصيني لمشاهد الانتفاضة المصرية، حذفت الحكومة الصينية من شبكات الاتصال اسم مصر!

وهكذا يمكن فهم محاكاة انتحار التونسي محمد بوعزيزي حرقاً بالنار، غداة وقوعه في خمسة بلدان عربية على الأقل؛ وكان هو الصاعق الذي فجَّرَ الانتفاضة التونسية والمصرية، والبقية تأتي.

-4-

 

أما التفسير النفسي لاندلاع الثورات، فيرى العفيف الأخضر، أن الثورات العربية الدائرة الآن هي نوع من مرض الذُهان Psychiatric. والذُهان "حالة نفسية فردية أو جماعية، تُعبِّر عن نفسها بالمراوحة بين طورين: طور نوبات الهوس (الهياج والابتهاج) وطور نوبات الاكتئاب (الهمود والخمود)، الذي يصيب خاصة الشباب في سن 18 – 40 سنة. وحيث المعدل الوسطي لسن المهووسين 30 سنة. وفي طور نوبات الاكتئاب، يسقط المكتئِب في بئر بلا قاع، يجترُّ هذيان نهاية العالم، وخاصة نهايته الوشيكة هو نفسه. ويتهم نفسه الأمَّارة بالسوء، وتعذبه الأفكار الحزينة، والأفكار السوداء الانتحارية. وسرعان ما ينتقل من الفكرة إلى الفعل، عند أول صدمة نفسية، كقطيعة مع محبوب، أو شجار عائلي حاد، يُشعره بأنه غير مرغوب، وغير محبوب. ويبدو الانتحار للمكتئِب حلاً مثالياً للنزاع بين ذاته وبين العالم الخارجي، لأنه يقضي على الطرفين معاً. فالتصرفات الانتحارية – غالباً - لا تقرأ حساباً للعواقب. وهذا ما يجعل الانتحار سهلاً ودراماتيكيّاً مؤثراً. ويطغى جنون العظمة على الواقعية."

"فالذُهان  Psychiatricإذن، هو العامل النفسي الكامن وراء الثورات، التي تفاجئ الجميع - بمن فيهم صانعيها أنفسهم- وهذا ليس حُكم قيمة، بقدر ما هو معاينة لواقعة تاريخية. فجزء مهم من تاريخ البشرية، صنعه المهووسون أفراداً أفْذاذاً، وجماعات هائجة."

 

 

 

اجمالي القراءات 10752