الدكتور محمد علي مراد ..رحمه الله
الحلقة الأولى : التحليل النقدي لسيرة ابن اسحاق وابن هشام

محمود علي مراد في السبت ١٩ - مارس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

سيرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (لابن إسحاق/ ابن هشام) السنة الأولى من الفترة المدنية

تحليل نقدي للنص

د. محمود علي مراد

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴿ الأحزاب: 56﴾

تصديـر

هذا الكتاب هو - مع تعديلات طفيفة - ترجمة رسالة علمية نوقشت في جامعة جنيف بسويسرا في 11 فبراير 2006م لنيل درجة الدكت&aeszlig;توراه في الآداب.

وقد استقيت مادة السيرة هنا مباشرةً من سيرة ابن إسحاق/ ابن هشام، ولم تنقل من ترجمتها الفرنسية المختصرة الواردة بالرسالة. كذلك نقلنا رواية الواقدي لقصة قتل كعب بن الأشرف، في الجزء الثاني من هذه الرسالة، من مغازي الواقدي.

تمهـيد

تتكون هذه الرسالة من جزأين:

الجزء الأول يتعلق بالسَّنة، من سيرة ابن إسحاق / ابن هشام، التي تقع بين وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب (المدينة) وغزوة ودَّان، أولى الغزوات التي يتحدث عنها النص. وموضوعات هذا الجزء هي: الهجرة، دخول المدينة في الإسلام، الصحيفة، "الأنصار" المنافقون المتحالفون مع اليهود، النصارى في المدينة، والأعداء من يهود.

والنص الذي يعنينا يتكون من ثلاثة عناصر: السرد التاريخي، والشعر، والاقتباسات القرآنية. وسنقوم في هذا الجزء بتحليل نقدي لهذه العناصر فيما يتعلق بالموضوعات المشار إليها، باستثناء الصحيفة التي سنبحثها في الجزء الثاني. وسيكون منهاجنا هو الآتي:

1- فيما يتعلق بالسرد التاريخي، سنحاول اكتشاف عيوبه، أي، بصورة أساسية:

 أ ) النقاط التي تبدو غريبة أو غير منطقية أو غير مفهومة؛

ب) النقاط التي بها عدم تناسق أو تعارض؛

ج ) النقاط التي بها ثغرات.

2- فيما يتعلق بالشعر، سيكون أول همنا هو معرفة ما إذا كان صحيحاً أم منحولاً؛ وسندرس بعد ذلك علاقته بالسرد التاريخي وما إذا كان يتناسب، كمياً، مع أهمية الحدث الموصوف.

3- فيما يتعلق بالاقتباسات القرآنية، سيتمثل جزء من عملنا في تحديد ما إذا كانت الشروح أو التعقيبات التي يدلي بها المؤلف بصددها معقولة. وفي جزءٍ ثانٍ سنحاول أن نعرف إذا كان في القرآن الكريم تنـزيل يتصل بالنقاط موضع البحث لم يذكرها المؤلف. ولكن أهم جزء في عملنا سيكون التحقق، عن طريق القرآن الكريم، من صحة الأحداث أو الأقوال التي يوردها المؤلف. وهذا المنهج ليس جديداً: لقد استخدمه علماء الحديث المسلمون منذ القدم للتأكد من صحة الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه، حسب علمنا، لم يستخدم للتحقق مما جاء في سيرة ابن إسحاق.

وهناك مسألة نود أن نشدد عليها في هذا المقام، هي أن عملنا، كما هو واضح من عنوان هذه الرسالة، هو تحليل نص تاريخي معين لمؤلف معين تحليلاً نقدياً. وليس من غرضنا دراسة موضوعات سيرة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم عن طريق سيرة ابن إسحاق، وهذا هو السبب في أننا لم نرجع في هذا الجزء من الرسالة إلى مصدر غير القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي كان الكتاب الوحيد الذي أشار إليه المؤلف، والذي يحتل حيزاً كبيراً في السيرة. ولكن أهمية القرآن الكريم في عملنا نابعة كذلك من سببين آخرين هما كونه يمثل رسالة الرسول موضوع السيرة وكونه الكتاب الوحيد المعاصر للأحداث التي ترويها.

على أننا، بعد أن ننتهي من تحليلنا النقدي هذا، سنحاول، على ضوء المعطيات المتاحة عن الفترة التي انقضت ما بين وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والفترة التي كلَّف الخليفة العباسي ابن إسحاق بتأليف كتابه، فهم العوامل التي يرجِّح أنها أثرت على مؤلفنا في اتخاذ ما اتخذه من مواقف. وسنسمح لأنفسنا، بقدر المستطاع، بعرض نظرتنا نحن إلى الأشياء.

هذا وسنخصص الجزء الثاني من هذه الرسالة كله لصحيفة يثرب التي تسمى أحياناً بدستور المدينة. وموضوع الصحيفة هو، من بين كل الموضوعات التي ورد ذكرها في حديث السنة الأولى من الهجرة عند ابن إسحاق، الموضوع الذي حظي بأكبر قدر من اهتمام المؤرخين والباحثين في الإسلاميات. وتنقسم دراستنا لهذا الموضوع إلى ثلاثة فصول: فصل نقوم فيه بتحليل نقدي للوثيقة، وفصل ثانٍ نقوم فيه بنفس هذا العمل عن دراسة للأستاذ "ر. ب. سرجنت"، الأستاذ بجامعة كامبريدج الإنجليزية، لعلها أكثر الدراسات التي خُصِّصت لهذه الوثيقة تفصيلاً وتعمقاً؛ وفصل ثالث نستعرض فيه آراء علماء الإسلاميات التالية أسماؤهم بشأن الصحيفة: حميد الله، وبركات أحمد، وكلاهما مسلم، ثم "ولهاوزن"، و"وينسينك"، و"مونتجمري واط"، و"موشي جيل"، و"ألفريد لوي دي پريمار". وسنبدي ملحوظاتنا بشأن آرائهم ونستخلص منها المحصلة النهائية لكل هذا البحث.


مقدمـة

في بداية عام 2001، صدر لنا في القاهرة كتاب بعنوان "سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم (لابن إسحاق/ ابن هشام) - الفترة المكية، تحليل نقدي للنص"، وهو يستند إلى رسالة دكتوراه ناقشناها في جامعة السوربون الجديدة باريس 3، في شهر سبتمبر 1997.

وكان الإطار العام لهذه الدراسة هو الآتي: بعد فصل قصير عن عبد المطلب، جد الرسول صلى الله عليه وسلم، قُسِّمَت الفترة المكية من السيرة إلى خمس فترات فرعية حسب الترتيب الذي اتبعه المؤلف. ونظراً إلى أن هذا الكتاب يتكون من ثلاثة عناصر هي: السرد التاريخي، الذي أطلقنا عليه اسم "النص"، والشعر والاقتباسات القرآنية، فقد درسنا كل عنصر من هذه العناصر على حدة. ثم عقدت مقارنة بين معطيات هذه العناصر الثلاثة. وإذا كان في القرآن الكريم تنـزيل يتعلق بالمادة موضع البحث لم يذكره المؤلف، أوردناه. واستخلصنا في النهاية ملحوظات عامة أو محصلة من مجموع المعطيات التي انصب عليها التحليل.    

وعلى الرغم من أن غرض دراستنا كان نقد وثيقة تاريخية لا القيام بعمل المؤرخ، فقد استبحنا لنفسنا، بعد مناقشة آراء المؤلف، إبداء وجهة نظرنا بشأن الحقيقة المحتملة للوقائع التي تناولها البحث.

وقد أفضى بنا التحليل النقدي للسرد التاريخي لرفض النقاط التالية في نص السيرة:

1- الصورة الجليلة التي صُوِّر بها عبد المطلب: وفي رأينا أنه لم يكن سيد قريش؛ ولم يَلْقَ أبرهة، قائد جيش الأحباش؛ ولم يحفر بئر زمزم. أما قصة النذر الذي نذره بذبح أحد أبنائه شكراً لله، فهي عندنا محض اختراع.

2- فترة الاستخفاء في بداية الدعوة: وفي رأينا أن الدعوة المحمدية كانت علنية من اليوم الأول.

3- الفترة الثانية، التي امتنع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عن عيب أصنام قريش وآلهتهم: وفي رأينا أنه لم يكن هناك وجود لهذه الفترة.

4- كون قبيلة بني عبد المطلب، خلافاً لجميع قبائل مكة، التي كانت تضطهد أبناءها المسلمين، حمت الرسول صلى الله عليه وسلم: وفي رأينا أنها لم تحمه على الإطلاق.

5- تأكيد أن ما ورد في القرآن الكريم عن أصحاب الأخدود (البروج: 4- 8) يشير إلى نصارى نجران الذين اضطهدهم، في الزمن الخالي، ذو نواس، ملك اليمن اليهودي: وفي رأينا أنه يشير إلى مسلمين اضطهدهم ذووهم، بما في ذلك قبيلة الرسول ذاتها.  

6- صورة أبي طالب، عم الرسول صلى الله عليه وسلم: وفي رأينا أنه لم يكن الشخصية ذات الشأن التي منعت الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش.

7- ادعاء أن مهاجري الحبشة كانوا أشخاصاً هاجروا نـزولاً على توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم: وفي رأينا أنهم كانوا مجاهدين مسلمين نفتهم قبائلهم ذاتها إلى خارج البلاد.

8- قصة المبعوثَيْن اللذين أوفدتهما قريش إلى النجاشي لرد المهاجرين المسلمين: وفي رأينا أن هذه القصة مختلقة من أساسها.

9- الروايتان المتعلقتان بإسلام عمر: وفي رأينا أنهما لا تصوران الحقيقة، لفرط تفصيلهما ولما بينهما من تباين.

10- دعوى أن قريشاً سمحت للمسلمين بالصلاة في المسجد بعد المشاجرة التي حدثت فيه بين عمر ونفر من المشركين بعد إسلامه: وفي رأينا أن عداء قريش للمسلمين كان أكبر من أن تقضي عليه مكانة عمر وحدها.

11- المقاطعة الاجتماعية الاقتصادية التي قررتها قريش ضد بني عبد المطلب: وفي رأينا أن هذا الإجراء كان موجهاً في الواقع ضد المسلمين. 

12- القول بأن شخصاً واحداً، هو الطُّفَيْل بن عمرو الدَّوْسي، دخل في الإسلام خلال السنوات العشر الأولى من الدعوة، من بين عرب الجزيرة: وفي رأينا أن من أسلموا منهم كانوا أكثر عدداً بكثير من مسلمي مكة.

13- ادعاء أن الهجرة إلى الحبشة كانت الهجرة الوحيدة التي حدثت خلال الفترة المكية قبل الهجرة إلى المدينة: وفي رأينا أنه كانت هناك، خلال هذه الفترة، عدة هجرات، ليس فقط في مكة، بل في أنحاء أخرى من شبه الجزيرة أيضاً.

14- دعوى أن من أسلموا خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الفترة المكية كانوا كلهم من أهل المدينة: وهذا، في رأينا، باطل مرجعه الوحيد هو تحيز المؤلف لأبناء بلده.

15- تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً أو متعبداً في المسجد الحرام أمام الكعبة: وفي رأينا أن هذا كان شيئاً مستحيلاً نظراً إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان، للدين الذين أتى به، يعتبر أعدى أعداء قومه.

16- بيعة العقبة الثانية، التي أطلق عليها اسم "بيعة الحرب" والتي حلت حماية أهل المدينة بمقتضاها للرسول صلى الله عليه وسلم محل حماية قبيلته: وفي رأينا أن هذه البيعة لم تحدث.

17- القول بأن قريشاً كلفت نفراً من الفتية لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم: وفي رأينا أن هذه المؤامرة لم تحدث.

18- دعوى أن جميع مسلمي مكة هاجروا، في نهاية الفترة المكية، إلى المدينة: وفي رأينا أن المهاجرين لم يكونوا يمثلون إلا قلة من مسلمي مكة.

19- الجزم بأن فترة النصر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأت بلقائه ستة من أهل المدينة: وفي رأينا أن هذا الجزم لا تؤيده الوقائع.

وفيما يتعلق بالشعر، أبدينا الملحوظات التالية :

1- العدد الكبير من الأشعار التي رأى خبراء الشعر الذين رجع إليهم ابن هشام (الذي راجع السيرة وهذبها) أنها منحولة، دليل لا يقبل إثبات العكس على نية تزييف سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الشعر، الذي هو ديوان العرب.

2- الغالبية العظمى من باقي الأشعار واضحة النحل.

3- الشعر الوارد في السيرة ليس فيه أي أثر لأهم أحداث الفترة، ألا وهو نـزول جانب كبير من القرآن الكريم، ولا لما أحدثه القرآن من انقلابات في حياة الأفراد والمجتمع في مكة وفي أنحاء الجزيرة.

4- ليس فيما ورد في السيرة من أشعار أي من القصائد التي تهاجم الإسلام والتي نُظِمَ منها الكثير في هذه الفترة.

5- لم يرد في السيرة شيء من مئات القصائد التي ردَّ بها المسلمون على ما وُجِّه إلى رسولهم وإلى دينهم من افتراءات ونقد.

وأخيراً، قادنا التحليل، فيما يتعلق بالاقتباسات القرآنية، إلى النتائج التالية:

1- في عدد كبير من الحالات، تقتصر تعليقات المؤلف على مجرد شرح للنص القرآني خالٍ من أي عنصر تاريخي.

2- معظم الاقتباسات التي اختارها المؤلف اقتباسات يشير فيها القرآن إلى أقوالٍ قيلت؛ وهي لا تشير إلى وقائع حدثت إلا في القليل النادر، وهي - في هذه الحالة - وقائع ليست ذات أهمية.

3- تعليق المؤلف، بالنسبة للنوع الأول من الاقتباسات، هو في الواقع ترديد للآيات أو لمجموعات الآيات المقتبسة.

4- الذي يغلب على الظن هو أن مؤلفنا لم يكن لديه أي علم حقيقي بالظروف التي نـزلت فيها الآيات التي اقتبسها، وأنه استخدم اقتباساته القرآنية لكتابة تاريخ ملفق. وليس من الصعب الاهتداء إلى المنهج الذي اتبعه في هذا السبيل وهو يتحصل في أربع مراحل:

( أ ) إعداد قائمة بالأشخاص المراد ذَمُّهم؛ (ب) اختيار آيات في القرآن الكريم تنعي على شخص أو أكثر قولاً أو فعلاً ما؛ (ج) تصوُّر موقف يشبه ما أشير إليه في القرآن الكريم وتقديمه على أنه واقعة تاريخية؛ (د) تغليف الواقعة المختلقة بذكر مصدر لها، وإلصاق اسم أو أكثر من الأسماء الواردة بالقائمة " أ " أعلاه بها مع إضافة بعض التفاصيل أحياناً لإضفاء مصداقية على الواقعة المختلقة؛ (ه) ادعاء أن الاقتباس القرآني يشير إلى الواقعة المذكورة. والعملية، في مثل هذه الحالات، هي عملية تلاعب بالقرآن الكريم يمكن وصفه بالتلاعب الإيجابي.

5- هناك نوع آخر من التلاعب يمكن وصفه بالتلاعب السلبي هو حالة التنـزيل القرآني الذي يشير إلى موقف معين تعمَّد كاتب السيرة إغفاله. ومن أمثلة ذلك أن السيرة، في معرض حديثها عن "فترة الاستخفاء" في بداية الدعوة، تجاهلت مئات الآيات القرآنية التي تهاجم معارضي الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك فإن قصص الأنبياء السابقين، وموسى عليه السلام بوجه خاص، التي تُذَكِّر بأوضاع مماثلة لتلك التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يواجهونها حيال خصومهم، ليس لها مكان في سيرة ابن إسحاق.

6- ليس في "السيرة" أي حديث عما أحدثه القرآن الكريم من زعزعة للأسس التي كانت عليها حياة الناس والمؤسسات في المجتمع المكي.

7- "السيرة" استخدمت القرآن الكريم لبناء دعاوى باطلة. ومن أمثلة ذلك أن آيات القتال المدنية نُقلت إلى حديث الفترة المكية لتبنى على أساسها بيعة الحرب.

والمحصلة النهائية التي أفضت إليها دراستنا هي أن الجزء المكي من سيرة ابن إسحاق ليس على الإطلاق وصفاً لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن هناك أربعة عوامل أثرت على الطريقة التي كُتبت بها.

هو ليس وصفاً لحياة الرسول، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يظهر فيه باعتباره الشخصية الرئيسية:

1- فهو لا ينقل إلينا من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم إلا شذرات متفرقة لا تملأ صفحتين.

2- وهو لا يحكي شيئاً يُعتدّ به عن السنوات الأربعين الأولى من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل ما يحكيه في هذا الشأن نوادر يغلب على أكثرها طابع الأعاجيب.

3- وهو لا يصور الرسول أبداً وهو يدعو الناس إلى دينه، متجهاً إليهم فرادى أو جماعات في البيوت والطرق والأسواق، خلال الأشهر الحرم أو خارجها.

4- وهو لا يقول شيئاً عن أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما خلا قوله أنه صلى الله عليه وسلم تزوج من خديجة في سن الخامسة والعشرين، أو عن مهنته أو العمل الذي كان يتكسب منه.

5- وهو لا يظهره أبداً وسط تابعيه، وهو يبلغهم بما أنـزل عليه من قرآن، ويعلمهم الإسلام، ويتحدث إليهم عن متاعبهم مع قبائلهم، وعما كانوا يصادفون من نجاح أو فشل. 

والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي وصفه القرآن الكريم بأنه "على خُلُقٍ عظيم"، والذي كان، دون أدنى شك، بهمَّته، وحيويته، ورسالته، أعظم رجل في مكة وفي الجزيرة العربية بأكملها، لا يقوم في "السيرة" إلا بدور الممثل الثانوي. لا كجده عبد المطلب الذي وُصِفَ بأنه "أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم"، ولا كسويد بن صامت من أهل المدينة، الذي كان يُسَمَّى بالكامل، لجَلَده وشعره وشرفه ونسبه. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يظهر في "السيرة" إلا باعتباره محمياً من قبيلته، في حياة عمه أبي طالب، ثم بعد موت عمه، باعتباره محمياً من أهل المدينة.

وأخيراً فليس في شعر مكة قصيدة واحدة لمسلم يمدح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أو يُعَبِّر عما يكنه له من مشاعر المحبة والعرفان.

أما العوامل التي تأثر بها مؤلف "السيرة"، فأولها هو العامل العباسي، ومن المعروف في هذا الصدد أن ابن إسحاق كتب سيرته بتكليف من أبي جعفر المنصور (136 - 158ه/ 754 - 775م)، ثاني الخلفاء العباسيين. وليس من المستغرب، في هذه الظروف أن يعكس هذا العمل آراء صاحب التكليف، وأن يخدم مصالحه. ولما كان العباسيون يستمدون شرعية حكمهم ضد خصومهم من كونهم أولى الناس بالخلافة لقرابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان باستطاعة من كلفوه بكتابة السيرة إلا أن يمجِّد قبيلتهم على حساب من عداها من القبائل.

ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن أول الخلفاء العباسيين قال، في أول خطبة ألقاها، بعد سقوط الأمويين: "وبنا هَدَى الله الناس"، يعني بني هاشم وبني عبد المطلب. فبطل "السيرة" إذاً ليس محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وإنما قبيلته. وهكذا: 

1- أصبح عبد المطلب، جد الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لم يكن في عصره سوى رب أسرة مشرك، تحت قلم ابن إسحاق، شريف جميع قبائل قريش وسيدها، والرجل الذي يتغنى الشعراء بمآثره، وولياً من أولياء الله الصالحين.

2- أصبح أبو طالب، عم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان رجلاً رقيق الحال، لا حيثية له، شخصية بارزة يسعى إليها كبراء قريش للشكوى من ابن أخيه، والزعيم الذي يشمله بحمايته في مواجهة الجميع.

3- أصبحت قبيلة بني هاشم التي لم يُسلم من أفرادها سوى ثلاثة خلال الفترة المكية بأكملها والجانب الأكبر من الفترة المدنية، والتي تدل الدلائل على أنها كانت تُنَكِّل بالمسلمين، الدرع الذي يمنع محمداً من أعدائه، ودفعت لموقفها هذا ثمناً باهظاً في شكل مقاطعة اجتماعية - اقتصادية شديدة الوطأة فرضتها عليها قبائل قريش الأخرى.

4- نجد العباس، جد الخلفاء العباسيين، الذي حارب المسلمين في الفترة المدنية في صفوف جيش مكة، يصاحب الرسول صلى الله عليه وسلم في الاجتماع الذي عقدت في نهايته "بيعة الحرب" ضد مكة.

5- أسدلت "السيرة" الستار تماماً على جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في خدمة دينهم وما تجشمه هؤلاء من بلاء في الدفاع عن رسولهم.

6- غضَّت "السيرة" من قدر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة الكبار، الذين تولوا الخلافة بعد وفاته: فقد أراد أبو بكر أن يهاجر تاركاً محمداً صلى الله عليه وسلم لمصيره؛ وكان عمر، قبل إسلامه، يعتزم اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كان يعاقر الخمر. أما عثمان، الذي أحبه الرسول صلى الله عليه وسلم وزوَّجه اثنتين من بناته، فقد أسقطته "السيرة" تماماً من الحسبان.

والعامل الثاني الذي أثر في ابن إسحاق هو تحيُّزه لأهل المدينة. ولهذا:

1- فإنه ينعم بلقب "الأنصار"، بدون وجه حق، على جميع أهل المدينة بلا استثناء، ويحرم منه مسلمي مكة، حتى من ضحَّى منهم بالغالي والرخيص من أجل عقيدته.

2- يختزل عدد مسلمي مكة، بدون وجه حق، إلى عدد مَن هاجروا منها.

3- يجعل الفترة المكية في السيرة تنتهي - تحكمياً - بموت أبي طالب، ويستخدم السنوات الثلاث الأخيرة من هذه الفترة، التي بلغ فيها الصراع بين قريش والمسلمين ذروته، ليثبت أولاً أن القبائل غير المكية رفضت حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وثانياً، أن حجاج المدينة استجابوا لدعوته وأن الإسلام عرف في المدينة نجاحاً منقطع النظير.

والعامل الثالث الذي ترك بصمته على حديث الفترة المكية هو مشاعر الحقد التي كان مؤلفنا يحملها لخالد بن الوليد، قائد جيش المسلمين، الذي أسر جده في العراق في خلافة أبي بكر وحمله إلى المدينة حيث بيع فيها كرقيق. هذا الحقد ورغبة ابن إسحاق في الانتقام من ابن الوليد جعلاه يصور أباه، الوليد ابن المغيرة، وابن عمه، أبا جهل، كاثنين من أعدى أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم.

والعامل الرابع الذي أثر على كاتب "السيرة" هو العقلية العسكرية لفترة الفتوح العربية الكبرى التي كان معاصراً لها. ونظراً إلى أنه كان يعتبر أن هذه الفتوح هي النصر الحقيقي للإسلام، فقد كان النصر العسكري عنده هو النصر الوحيد الجدير بهذا الاسم. ولهذا:

1- فإنه لم يخصص للفترة المكية، التي لم تحدث فيها حروب، إلا رُبع "السيرة"، مع أنها كانت أطول ثلاث سنوات من الفترة المدنية، وأن ثلاثة أرباع القرآن الكريم تقريباً نـزلت فيها.  

2- فإنه خَصص لسرايا وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم الجزء الأكبر من حيث الفترة المدنية، وكانت نتيجة ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان، وفقاً للقرآن الكريم، رسول سلام، شأنه في ذلك شأن سائر الأنبياء والمرسلين، يظهر في "السيرة" كفاتح ورجل حرب في المقام الأول.


 

اجمالي القراءات 33076