لقد هياء الله سبحانه وتعالى من الوسائل والأسباب ما يتحقق بها حفظ (القرآن الكريم) من أي تحريف أو زيادة أو نقصان , ليبقى (ذكرنا ومرجعنا) لمعرفة الحق اليقين , ووسيلتنا الوحيدة للوصول إلى دار الخلد في النعيم , والنجاة من دار الخلد في العذاب الأليم.
لذا فقد يائس شياطين الإنس والجن من المساس بكتاب الله , واستعاضوا عن ذلك زيادة عن تأليف الروايات والنظريات الملفقة وافترى الوحي الباطل , فقد قاموا بتحريف الكلم عن مواضعه في كل المصادر التراثية (الدينيةة والتاريخية والأدبية واللغوية وغيرها) مما أداء إلى طمس المدلول الحق للكلمات في مفاهيمنا , واستبدالها بالمدلول الخاطئ.!
ونتيجة لذلك نجد أنفسنا أصبحنا عاجزون عن التفريق بين كلمتين مختلفتين أو أكثر , ونخلط بينها دون ضابط عند استخدامها في الكلام أو الكتابة , مثل: {(عمل) و (فعل) و (صنع)} أو {(شاء) و (أراد)} أو {(جلس) و (قعد)}... وغيرها كثير.
وكلمات أخرى عطلنا مدلولها العام والواسع واختزلناها في مفهوم جزئي بسيط , مثل:-
(أنى)– إن لم نكن قد تجاهلناها كلياً فإن استخدمت في النادر يختزل مدلولها العام في مفهوم جزئي بسيط وبعشوائية دون ضابط بدلاً عن الكلمات { (متى) أو (كيف) أو (أين) أو ... }.
(أمر)– عطلنا مدلولها العام الحق والواسع , واختزلناها في مجرد لفظ الكلمة فحسب , كما يُزْعَم: إذا تم لفظها (بصيغة الأمر), لنكون بهذا القانون اللغوي عاجزون عن التفريق بين الكلمات الداخلة ضمن (الأمر) و (الموعظة) , (التوصية) ومدلولاتها.
(صلاة)– عطلنا مدلولها العام الحق والواسع , واختزلناها في مجرد أداء الصلاة المقامة لذكر الله.
(زكاة)– عطلنا مدلولها العام الحق والواسع , واختزلناها في مجرد (أداء المال) من الصدقات.
(قتل)– عطلنا مدلولها العام الحق والواسع , واختزلناها في مجرد (قتل النفس) , وحتى قتل النفس ذاته مدلوله القرآني ليس كما فهمنا في زمننا هذا.
وما هذه الكلمات المذكورة سرداً دون تفصيل إلا عرض موجز كنموذج لما حصل مع معظم كلمات اللغة العربية , خاصة الرئيسية منها ذات المدلول العام والواسع , والتي تعتبر أساساً في تكوين المفاهيم. وسنتطرق إلى بيان وتفصيل ما يصادفنا منها خلال بحثنا هذا بالقدر الذي يفي بحاجة موضوع البحث ولا يخرج عنه.
ومن خلال هذا البحث سنتبين إن تحريف الكلم عن مواضعه قد أدى إلى طمس دين الله الحق من مفاهيم الناس, واستبداله بأديان بشرية تختلف الثوابت والمفاهيم فيما بينها. مما يؤكد أن اصحاب هذه الديانات ما تنازعت وتقاتلت فيما بينها , إلا نتيجة لما بدّلوه في دين الله ثم اختلفوا فيما بدلوا.
والقرآن يبين ويثبت أنهم ما بدلوا واختلفوا إلا من بعد ما جاءهم الحق من عند الله , نتيجة لما قامت به عامة الناس وهم أكثر أهل الأرض في كل زمان ومكان من ظلم لأنفسهم عندما قصروا عن ذكر الله وقراءة القرآن وتدبر آياته , أو بالأصح هجروه واستبعدوه من حياتهم العملية لشدة انشغالهم بأمور معيشتهم في حياتهم الدنيا , مما أدى إلى غياب (الحياة الآخرة) عن مداركهم وتلاشت عظمة الله وأهميته في نفوسهم.
ونتيجة لأن النفس البشرية بالفطرة تدرك عبوديتها , لذا لن يتزن حالها في ضل فراغها من الشعور بالمعبود وإدراكه.
وحتى لا يحدث هذا الفراغ فقد قاموا لا شعورياً بملئه عندما تجرأوا على تعظيم وتقديس (كبرائهم) ممن صنعتهم مصالح (أصحاب السلطان) وسياساتهم ليكونوا في نظر هؤلاء العامة , هم (العظماء والجهابذة المسخرين) لكتابة الوحي وتفصيله وشرحه وتفسيره وبيانه. وبأنهم ورثةً للأنبياء وأصحاب الفضل في حمل الوحي وحفظه ونقله عبر الأجيال والحقب والأزمان!.
(أصحاب السلطان) وأبواقهمحتى وإن اعترفوا ظاهرياً بتقديس (الله) وتعظيم (القرآن) كوحي إلهي ومصدراً يقينياً للدين , إلا أن الواقع العملي الملموس والمشاهد من كافة جنس البشر عالمهم وجاهلهم على مر الزمن , يبين أن سياساتهم الممارسة عن طريق الترهيب والترغيب ومكر الليل والنهار , والسيطرة المباشرة والغير مباشرة لوسائل إعلامهم قديماً وحديثاً على عامة الناس , ومحاصرتهم بها من (بين أيديهم ومن خلفهم وعن يمينهم وعن شمالهم) قد عملت على تعظيم الشخصيات التاريخية المسماة بـ (السلف الصالح) أو ما يسمى بـ (اللائمة والمشايخ) من أصحاب النظريات والمؤلفات الدينية , واختلاق الروايات والأكاذيب من المناقب والكرامات المنسوبة لهم (لتجعل منهم أعلاماً تاريخية أو نجوماً بارزة في المجتمع) لما لذلك من أهمية في التأثير على عامة الناس ليتولد فيهم الشعور والإحساس (بقداسة هذه الشخصيات) لتصبح في عقولهم الباطنة لا شعورياً من الآلهة وفوق مستوى البشر .وبالتالي يتولد لديهم تلقائياً الشعور (بالخوف من العواقب) كلما خطر في بالهم أن يفكروا بعقولهم بشأن ما جاء من (هذه الشخصيات) أو باسمهم من (الظنون والافتراءات) المتسببة في إفساد المفاهيم والمقاييس وقلب الحقائق رأساً على عقب , ناهيك عن فكرة إخضاعها للبحث والمناقشة.
وفي ظل هذا التخدير والتغييب عن الوعي يستسلم أكثر الناس بمختلف مستوياتهم الفكرية ودرجاتهم العلمية ويتقبلوا هذه (الظنون والافتراءات) ويعملوا بها كحقائق يقينية , في حين أنها لم ترقى إلى مستوى حكايات وأساطير ألف ليلة وليلة , (وذلك لأنهم هجروا كتاب الله).
وسواءً كان هؤلاء (العظماء أو الجهابذة) هم من (الفقهاء والعلماء في أي مجال ديني) أو (علماء لغة) أو (علماء تاريخ) أو (علماء أدب) أو (علماء في أي مجال ثقافي واجتماعي) فقد ساهموا جميعهم في تحريف الكلم عن مواضعه بصورة مباشرة أو غير مباشرة سواءً كانوا مدركون أو غير مدركون لما (يفعلونه) , نتيجة خوضهم وتأصيلهم لمفاهيم باطلة , تسليماً لاستنتاجات وأحكام من سبقهم أو عاصرهم ممن جرى العرف والعادة على وصفهم بـ (أصحاب التخصص) الذين هم في الأصل ما توصلوا لها إلا اعتماداً على أسس ومناهج علمية قاصرة مبنية على مفاهيم ونظريات ظنية وتخرصات غيبية , وقد تجاهل الناس ما بها من شذوذ وتناقض تدريجياً بمستوى شيوع وكثرة التعامل بها عبر الزمن حتى غابت كلياً عن مداركهم , وبالتالي أصبح من الثابت عندهم أن ما أجمعت عليه الأمة وتناقلته بالتواتر توارثاً عبر الأجيال هو (حَقٌ يقين) لا جدال فيه أو من (المعلوم بالضرورة) , لذا تجدهم في كل مكان وزمان يتجاهلون الرجوع بشأنه (لكتاب الله) أو بالأصح لم يخطر ببالهم ذلك.
وعامة الناس قد اكتفت بتقليدهم والأخذ (بظنونهم المنقولة شفاهاً أو المدونة في كتبهم) وقبلتها مصدراً بشرياً كحق يقين للحكم على طبيعة وماهية الأشياء وعملت بها في أمور حياتها وتعاملاتها بغير ما أنزل الله.
لذا نجد أن من جعل الله له نوراً ليهتدي به إلى الحق , حينما يتبين هذا الزيف والتحريف خاصة في معاني ودلالات مفردات اللغة , ويفيق من صدمته من هول المصيبة الواقع فيها أباً عن جد , حتماً سيسأل نفسه قائلاً: ... إذا كان مَنْ أسس علوم اللغة ووضع قوانينها حقاً هم من العرب ومن المسلمين الأوائل. فلماذا ارتكبوا هذا الخطأ الفحش الذي ترتب عليه بروز إشكال في مفاهيم الناس تجاه (كتاب الله) ليروا فيه من الطلاسم والتداخل في معاني ودلالات كلماته ما يمنعهم من فهم واستيعاب الخطاب القرآني؟
في حين أن القرآن نزل بلغة العرب (أي بلغة الشارع والعامية المتداولة في ذلك المكان والزمان) , والمسلمون منهم على الأقل كانوا يقرأون القرآن , وحتماً فهموا المدلول الحق لكلمات الله الواردة به كلها. إذ لم يرد في القرآن آيات تشرح وتبين مفاهيم أو مدلول مفردات اللغة التي قد تحرفت أو اندثرت في زمن نزول القرآن لتعيدها إلى الحق , إلا النذر اليسير مثل مفردات (الكلالة) و (الروح) ...!
وعليه نتبين إن العرب حين نزول القرآن لم تكن لديهم مشكلة في المفاهيم أو دلالات مفردات لغتهم كما هو حاصل مع المسلمين في زمننا هذا , إذ (عبدوا البشر) فعلياً عندما اطاعوهم واتبعوهم ودعوهم من دون الله لا شعورياً دون أن يدركوا ذلك , لأنهم قد بدلوا وحرفوا المدلول الحق لكلمة (العبادة) عندما أسقطوه حصراً وقسراً على ما يعملونه بما يسمى (عبادات) من (صلاة وزكاة وصيام وحج و ...) بل أنهم قد اخترعوا واسسوا له (مجال ومنهج علمي مستقل) ارتكازاً على هذا التحريف واسموه (فقه العبادات) , وزادوا على ذلك بأن اعتبروا ما اسموه بـ(العبادات) أنها هي ذاتها الأعمال الصالحات المطلوب من الناس القيام بها ليتحقق لهم لفوز بالجنة.
كما أن مسلمي هذا الزمان قد (اشركوا بالله) بلا أدنى شك عندما نسبوا لله (أقوال وشرائع ومحللات ومحرمات) وربطوها به زوراً وافتراءً بغير ما أنزل الله , في حين أنهم قد (أخذوها وعملوا بها نقلاً بالغيب عن شياطينهم) الذين ادعوا بـ (الكذب) أنها منزَّلة من عند الله وأنه أمرهم بها , كما يفتريه القائلون والمتبعون لما جاءت به كتب التاريخ من خرافات (اسموها كذباً) بالوحي المُنَزَّل من الله خارج إطار وحي القرآن , مع علمهم أن معظم ما فيها مخالف ومناقض للقرآن , إلا أن الروايات التاريخية وقداسة شخصياتها هي في قلوبهم أهم وأقدس من الله وكتابه المنزل عليهم من عنده , لذا فقد غلبوها عليه وجعلوا ما جاء في هذه الروايات من الباطل المخالف والمناقض للحق هو الأصل والأساس الذي يلغي ويبدل أحكام الله الواردة في القرآن بما اسموه زوراً بـعلم (الناسخ والمنسوخ) أو جعلوها وسيلة للظلال والتحريف بما اسموه زوراً بـعلم (البيان والتفسير) لأن ميزانهم دائماً يرجح كفة وحي الشيطان على كفة وحي الله.
{... (بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ) مَا لَمْ (يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) ... [آل عمران : 151] }
{ ... (أَشْرَكْتُم بِاللّهِ) مَا لَمْ (يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً) ... [الأنعام : 81] }
{ ... (لِتُشْرِكَ بِي) مَا (لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ... [العنكبوت : 8] }
{ ... (أَن تُشْرِكَ بِي) مَا (لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ... [لقمان : 15] }
وهذه هي أشد (حالتي) (الشرك بالله) إن لم تكن هي (فاحشة الشرك بالله الوحيدة) التي لا يغفرها الله ويغفر ما دونها , وهي أحد الفواحش المميزة بالعذاب في الآخرة جزاءً لمن يقترفها بمجرد (القول أو الاعتقاد الفكري) حتى وإن لم يعمل بها وتقترفها جوارحه , وقد ذكرت الآية (93) من سورة الأنعام ثلاثاً من هذه الفواحش , الأولى والثانية تندرج تحت (الشرك بالله) ما لم ينزل به سلطان , ويتحققان فيمن (افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً) أَوْ (قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) , أما الثالثة المتحققة في من (قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) هي ليست من (الشرك بالله) لأنها لم تنسب لله أو تربط به شيء , وإنما تعتبر من جرائم وفواحش (مشاركة الله في الملك) وقد خصص هذا القول بالعذاب في الآخرة لأنه ناتج عن التكبر والاستعلاء وادعاء مساواة الله ومعادلته وتحدٍّ له.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ (افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً) أَوْ (قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) وَمَن (قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ (تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) (بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ) عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام : 93] }
وهذا يعتبر تمييز واستثنى للقاعدة العامة التي يبينها القرآن وهي (أن الجزاء في الآخرة سواءً كان نعيماً في الجنة أو عذاباً في النار لا يكون إلا جزاءً لما تقترفه الجوارح من الأعمال) ولن يجازا العباد في الآخرة على الأقوال والأفكار المجردة دون أن تمارس أعمالاً تقترف بالجوارح عدى ما يماثل ما ذكرته الآية (93) من سورة الأنعام.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التحريم : 7]
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ (تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : 28]
أما الحالة الثانية لـ (الشرك بالله) لا تتعلق بـ (الأقوال والشرائع والحلال والحرام) وإنما تتحقق عن طريق(تقديس أفرادً من الخلق) خاصة الذين ننسبهم لله ونربطهم به زوراً وافتراءً. كما يفتريه النصارى عندما نسبوا له عيسى ولداً , وكما افتراه مشركو مكة عندما نسبوا له من الملائكة بناتاً.
{ لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا (أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف : 38]
{ ... (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) [الكهف : 42] }
{ قُلْ إِنَّمَا (أَدْعُو رَبِّي) وَلَا (أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) [الجن : 20] }
لم يقترف المسلمون هذه الحالة من (الشرك بالله) لأن الشيطان أذكى من أن يخوض في وسيلته القديمة لإضلال البشر التي استخدمهامع مشركي العرب وأهل الكتاب من قبل , خاصة وقد جاء القرآن ليفضحها إلى يوم القيامة , ومع أنه لم يستخدمها مباشرة إلا أنه قد ألتف على ما جاء في القرآن بشأنها من بيان ومواعظ عن ما أقترفه أهل الكتاب من (الشرك بالله) ليجعله هو وأعوانه من شياطين الإنس (عن طريق رواياتهم التاريخية أو المفتراة كحديث نبوي) أحد وسائلهم المستخدمة لخلق الإفك والتضارب حول مفهوم (الشرك بالله) وتبديل دلالات مفردات القرآن الواردة بشأنه , وذلك لتظليل المسلمين عن ما يقترفونه حالياً من (شرك بالله) ظناً منهم أن (الشرك بالله) ما هو إلا ما كان يقترفه مشركو مكة وأهل الكتاب.
وإن كنت أنا شخصياً أرجح أن الحالة الثانية من (الشرك بالله) السابق ذكرها والمتعلقة بـ (تقديس أفرادً من الخلق) ونسبتهم لله وربطهم به , هي ليست مرتبطة بفاحشة (الشرك بالله) التي لا يغفرها الله ويعذب في الآخرة جزاءً لمن يفتريها بمجرد القول والاعتقاد الفكري دون أن تمارس وتقترف أعمال السوء.
ودليلي على ترجيحي وإن كنت لا أجزم بذلك هو:- إن الله قد وصف الذين (قالوا أن الله ثالث ثلاثة) جميعهم بالكفر , ثم في نفس الآية (قد استثنى) مجموعة جزئية منهم بالعذاب الأليم وهم (الذين كفروا منهم) , أي سيكون العذاب في الآخرة جزاءً للذين كفروا من الذين كفروا وليس كلهم.! كيف يكون ذلك؟
أي أن الذين (قالوا أن الله ثالث ثلاثة) قد تحقق فيهم الكفر الفكري نتيجة اعتقادهم بأن (لله شركاء في الملك ) وهذا القول أو الاعتقاد هو ما يحبط العمل في الآخرة.
أما الذين (كفروا عملياً ) منهم أي اقترفوا أعمال السوء من الذين كفروا فكرياً هم من سيكون جزائهم العذاب في الآخرة بما عملوا وليس بما قالوا أو اعتقدوا فكرياً.
ومع أنهم بفئتيهم قد قالوا أن عيسى هو ابن الله , إلا أن القول أو الاعتقاد بإنساب المخلوقات لله وربطها به قد يكون (إشراكاً) لله في الملك ولا يعتبر من فاحشة (الشرك بالله) ما لم ينزل به سلطان , لأنهم قد يقولوا ذلك على الله بما لا يعلمون , أي من تلقى أنفسهم فيما بينهم ظناً وخرصاً دون أن يفتروا على الله أنه قاله أو أوحى إليهم به.
(قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً)سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ (لَهُ) مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ (إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يونس : 68]
وَ(قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً) سُبْحَانَهُ بَل (لَّهُ) مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [البقرة : 116]
الَّذِي (لَهُ) مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَ(لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) وَ(لَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان : 2]
وَ(قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ) وَ(قَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ) ذَلِكَ (قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ) يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة : 30]
وبالتالي فإن الذين (قالوا أن الله ثالث ثلاثة) هم من (الذين أشركوا) من أهل الكتاب ’ أي جعلوا له شركاء في الملك.
لا يعذب أو يؤخذ العبد بمجرد تكذيبه بآيات الله أو كفره بها وإنما يؤخذ بذنوبه المتكونة عليه نتيجة ما اقترفته جوارحه من أعمال السوء.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ (كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا) (فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ) وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [آل عمران : 11]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ (كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ) (فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ) إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال : 52]
وَ(قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ) وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ (فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم) بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ) وَ(يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) وَ(لِلّهِ مُلْكُ) السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [المائدة : 18]
ولم يرد في القرآن ما يفيد أن الله سيعذب في الآخرة نتيجة أقوال مجردة أو معتقدات فكرية لا تتبعها ممارسات لأعمال السوء عدى القول بـ(الشرك بالله) ما لم ينزل به سلطان , وهي الفاحشة التي لا يغفرها الله ويغفر ما دونها وبها يتم التعذيب في الآخرة جزاءً لمجرد القول بها أو اعتقادها فكرياً., لأنها كذباً وافتراءً عليه ومنسوباً له , وهذا غير (الإشراك) في ملك الله.
ورغم أني قد توسعت في الكلام عن مفهومي (الإشراك) و (الشرك بالله) أو أن عذاب الآخرة مقصور على الأعمال دون الأقوال والأفكار , إلا أني قد لا أتمكن من الإقناع بما تبنيته من آراء من خلال هذا العرض , وذلك لأن إعطاء هذه الجزئية حقها من البيان يتطلب التطويل والتوسع بشكل أكبر ليشمل تقريباً كل آيات القرآن الواردة بشأن هذين المفهومين.
وهذا لا يعني أن ما رأيته هو عين الحق وإنما هي وجهة نظر ناتجة عن محاولة ومجهود مبذول للبحث عن الحق , لذا فمن يجد خطاء فيما رأيناه فلينبهنا له ولا يبخل علينا بالتصويب.
وحتى لا نترك علامات استفهام دون توضيح وكذا لتتحقق الفائدة مما رأيناه فإني إنشا الله سأخصص البحث القادم لهذه المفاهيم حتى نوفيها حقها إنشا الله.
وعودة لأصل الموضوع ومن خلال ما سبق بيانه يتضح أن مسلمي هذا الزمان قد (اشركوا) عندما عبدوا ودعوا البشر واتخذوهم أولياء وشفعاء من دون الله. أي جعلوهم لله شركاء في الملك.
وكذا (أشركوا بالله) عندما نسبوا له وربطوا به (أقوال وشرائع وحلال وحرام) كذباً وافتراءً بما لم ينزل به عليهم من سلطان تحت دعوى الوحي الخارج عن وحي القرآن.
ومع ذلك لا زال المسلمين فرحين مطمئنين ظناً بأن (الشركبالله) بعيداً عنهم , لأن أعوان الشيطان قد طمسوا المفهوم الحق لـ (الشركبالله) و (الإشراك في ملك الله) والخلط بينهما في مفاهيمهم واستبدلوه بمسميات وتصنيفات وتعريفات معقَّدة ومتشعِّبة لا ضابط ولا نهاية لها.
كـ ((شرك ألوهية وشرك وجوب الوجود وشرك عبادة وشرك تقريب وشرك تسمية وشرك علم وشرك قدرة وشرك ربوبية وصفات وشرك سجود وشرك تصرف وشرك عادة وشرك دعاء وشرك فعلي وشرك عملي وشرك اختيار وشرك ملكية وشرك تصرف وشرك أكبر وشرك أصغر وشرك ظاهر وشرك خفي و...و...و...!! إلخ.)) , بحيث في النهاية لا يستقر في مخيلتنا من هذه الشخابط والشعابط المنسوبة لـ (الشرك بالله) شيء , اللهم إلا ما يُكَسِّرون به رؤوسنا ليلاً ونهاراً في وسائل الإعلام والمساجد والمدارس من مزاعم بشأن ما كان له روح من (الصور والتماثيل), لنعتقد مطمئنين أننا بما نقترفه من جرائم القهر والكبت في حق أطفالنا واسرنا وقتل رغبتهم المشروعة في اقتنائها للتعلم أو اللعب وتزيين غرفهم وملابسهم بنهرهم وزجرهم عنها بالباطل. قد نزهنا أنفسنا من (الشركبالله) وأن ما نقوم به هو توحيداً لله ووسيلة لنيل رضوانه!!؟. هيهات هيهات أن نجد في (وعود الشيطان) ما يرضي الله ويدخلنا في رحمته!. (يا رب) نسألك أن تخرجنا من هذا المتاهات والخزعبلات وتهدينا إلى الحق.
في حين أن العرب في زمن نزول القرآن قد قالوها صراحةً { ... أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ... [الأعراف : 70]} أو { ... لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ... [الأنعام : 148] } لأنهم كانوا يعرفون المدلول الحق لكلمات (العبادة) و (الإشراك) ولم يكن لديهم مشكلة في ذلك , وهم يعلمون أنهم قد أشركوا بعبادتهم للمخلوقات من دون الله وإنما كانت مشكلتهم فيما (ورثوه من معتقدات) تبيح لهم عبادة المخلوقات مع الخالق أو فيما تزينه لهم من أعمال السوء.
إذاً كيف تم هذا التحريف للمعنى؟ وفي أي زمن حدث ذلك ؟
الإجابة:- صاحب القلب الحي والبصيرة النافذة يقول: لا حاجة لي في الخوض عبر متاهات المصادر البشرية من كتب الدين أو اللغة أو التاريخ أو غيرها , ولا يهم معرفة من قام بتحريف الكلم عن مواضعه أو متى أو كيف تم ذلك. طالما وقد فَصَّل الله في كتابه (القرآن الكريم) كل شيء ويسره للذكر.
(كتاب لله) الذي إن قرأناه وتدبرنا آياته وحده متفرداً دون غيره , سنكون قادرون على استبيان الحق منه دون عناء ( سواءً كان في المفاهيم ومدلول الكلمات , أو في الأحكام والسلوكيات , أو في الإنباء بالغيب , أو في كيفيات وماهيات الأعمال والأفعال والأشياء , أو في كل ما ستتبينه البشرية مستقبلاً خلال مراحل حياتها في الدنيا والآخرة مما لم تكن قد أحاطت به علماً) وكل ذلك يخبر به القرآن الكريم ويفصله كـ (حقائق مطلقة) لا نسبية فيها.
لذا فإن (أهل القرآن) فيما يتعلق بدين الله وما يترتب عليه مصيرهم في الحياة الآخرة قد حرصوا بشأنه وتحرروا من (اسر الروايات البشرية ومصادرها ورجالها), وكذلك هم يعملون بإصرار للتحرر من (الأغلال) التي في أعناق مجتمعهم نتيجة ما ترسب في أذهانهم من الطرق والكيفيات أو المفاهيم ودلالات مفردات اللغة حتى وإن أجمع عليها أهل الأرض كثوابت متواترة مسلم بها, ما دامت قد عُرِفَت واكتُسِبَت بالوراثة والتفاعل فيما بينهم "بني البشر" , فهي بالنسبة لأهل القرآن لا ترقى عن مستوى (الظن) الخاضع للدراسة والبحث , وليست حق يقين ما لم تكن قد صُدِّقَتْ بـ (العلم اليقين) المُنَزَّل من عند الله.
وبالتالي هم لن يعتمدوا مصادراً أخرى للحكم على الأشياء بـ (الحق اليقين)غير (القرآن الكريم) كتاب الله مصدراً وحيداً متفرداً. والعمل في حياتهم الدنيا بما (جاء به من أحكام وعلوم) وبما لا يتعارض معه من(أعراف وظنون البشر) خاصة وأن الله قد تكفل بحفظه لهم إلى قيام الساعة وسيكون حجة عليهم يوم الحساب.
نسأل الله أن يتجاوز عن ما جهلنا فيه ويهدينا للحق يوفقنا للعمل به
علي السعيدي