مولد وصاحبه تائه

كمال غبريال في السبت ١٢ - مارس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

مصر بعد ثورة اللوتس، والتي لا نستحسن وصفها بثورة الشباب، رغم أن الشباب هم من صنعها، وإليهم ينسب هذا الإنجاز الرائع غير المسبوق في التاريخ المصري بقديمه وحديثه، فمالبث المصريون جميعاً أن تجاوبوا مع الثورة، وقد لفحتهم نيران حماسها وشعاراتها، التي رفعت راية الحرية والكرامة الإنسانية. . مصر هذا قد دخلت بلاشك إلى مرحلة "الفوضى الخلاقة"، وشطري المصطلح معاً يحكمان ويحددان بعضهما البعض، نعم هي "فوضى" لكنها ليست بأي حال تلك الفوضى المدمرة التي لا يت&rc;رتب عليها سوى الخراب والتدمير. . هي مرحلة مخاض وتشكل لحياة جديدة مختلفة كل الاختلاف عما سبق. . ففي خلال صراع المتناقضات القائمة مع بعضها البعض، سوف يتولد الجديد الذي لم يسبق لنا التعرف عليه، لسبب بسيط هو أن ولادته كانت مستحيلة في ظل حالة الجمود والتيبس التي عشنا فيها خلال الثلاثة عقود المباركية غير المباركة بأي وجه. . كنا كأي مجتمع شرقي مستقر ومتجمد ومتخلف، بما يضم من تناقضات وصراعات مكتومة، في أمس الحاجة لحلحلة هذه الحالة، لنصل إلى سيولة تتيح حدوث التفاعلات الضرورية لتشكل الجديد المنتظر.
ومع ذلك فالارتباط بكلمة "خلاقة" لا ينزع عن مصطلح "فوضى" طبيعته الأصيلة، وهو أنه حالة اضطراب وتخبط وتصادم، وهي حالة كما نتعشم إيجابياتها، فإننا لابد أيضاً وأن نتوقع ونقبل سلبياتها، فلا تدهشنا ولا تحبطنا، بل نترصدها محاولين تحجيمها قدر الاستطاعة، دون أن نبالغ في الذهاب باتجاه التقييد، فنطفئ بالتبعية نيران الثورة، ونحرمها من حالة السيولة الضرورية لحدوث التفاعلات واكتمال نتائجها.
اعتدنا في مصر وصفاً للفوضى بأن نقول عنها "مولد وصاحبة غائب"، لكن هذا التوصيف ينطبق حصرياً على مرحلة ما قبل الثورة، حين كان الشعب صاحب المصلحة غائباً ومغيباً، وتفرغ ولي الأمر والسلطان لمكاسبه ومكاسب بطانته من شذاذ الآفاق الذين اجتمعوا حوله، فعشنا مرحلة عشوائية بجدارة. . لكن "صاحب المولد" لم يعد بعد غائباً، بل حاضراً بقوة ونشوة وحماس، ربما لهذا ولأنه كان نائماً أو مخدراً لدهور طويلة، فلابد لنا أن نتوقع أنه الآن تائه، تتراقص الخيالات أمام عيونه التي انفتحت للتو، وقد انحسر عنه غطاء الكبت والضبط والحماية.
إذا فهمنا ما يحدث ودوافعه ومحركاته، فإننا لابد وأن نتفهم، وعندها سنقبل بغير امتعاض أو إحباط أو يأس. . سنرى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وهو يفرج عن عتاة المجرمين الذين صدرت ضدهم أحكام رادعة، سواء لقيامهم بأعمال إرهابية وصلت لذروتها في اغتيال رئيس سابق للجمهورية، أو هؤلاء الذين أدينوا لقيامهم بغسيل الأموال، لتمويل ممارسات سرية أو شبه علنية، تضرب سلامة مصر الوطن في مقتل. . بالتوازي مع هذا كان طبيعياً أن ينال الأقباط نصيبهم من كعكة التوهان والتهاون، مستغلين قيام الغوغاء بهدم كنيسة في قرية، وشروعهم في تحويلها إلى مسجد، في سابقة لم تشهد لها البلاد مثلاً. . كان نصيب الأقباط من كعكة التهاون والعسف بسيادة القانون، هو الإفراج عن قسيس صدر عليه الحكم بالسجن لتزويره في أوراق رسمية، ليستمرئوا طعم الإطاحة بسيادة القانون، فاسمع الآن في فضائية تليفزيونية قبطية مطالبتهم بالإفراج عمن صدرت عليهم أحكام لقيامهم بالمتاجرة في الأطفال!!
صاحب المولد الآن تائه بالفعل، وهو يرى المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية يقف عاجزاً عن التعامل مع الغوغاء، الذين مازالوا يحتلون موقع الكنيسة التي هدموها، كما هو عاجز عن إقناع الأقباط الذين خرجوا أخيراً للدفاع عن وجودهم، بأن يصدقوا وعوده بإعادة بناء كنيستهم في ذات موقعها. . وكيف يستطيع إقناعهم بقدرته على الوفاء بوعده، وهو يقف بلا حيلة أمام استمراء الدهماء ومحرضيهم لغيهم وضربهم عرض الحائط بكل القيم الأخلاقية والدينية؟
في مرحلة التخبط هذه كان من الطبيعي أن وسائل الإعلام المسماة قومية، والتي تقدر رواتب قياداتها بملايين الجنيهات شهرياً، نراها بعد أن ظلت للرمق الأخير تدافع عن سيدها الطاغية وزبانيته، تستدير الآن ليس لتؤيد الثورة، وهو ما كان من الممكن أن نقبله منهم ولو على مضض، لكننا نراها تنهج ذات نهجها المنافق والمبتذل، بنفاق أصحاب السلطة الجدد، وعجزوا عن الأداء الاحترافي لمهامهم، والتي تتلخص ببساطة في نقل صورة الواقع كاملة وصادقة ليس أكثر ولا أقل. . ربما هم لم يتعلموا أصلاً كيف يؤدون مهامهم بحرفية نزيهة، وربما قد تعلموا ثم نسوا ما تعلموه، وقد اعتادوا العمل كمرتزقة. . الأمثلة كثيرة على هذا، لكننا هنا يلفت نظرنا تلك الحرائق الطائفية المشتعلة الآن.. نرى وسائل الإعلام التي يأكل منتسبوها الشهد من عرق دافعي الضرائب، وهي إما تتجاهل التظاهرات المشتركة للأقباط والمسلمين معاً احتجاجاً على المعالجة العرفية المرفوضة لحوادث الاعتداءات الطائفية الإجرامية، والتي يخرج فيها الجاني منتصراً، ويخرج المجني عليه خانعاً ذليلاً. . وإما تعرض وسائل الإعلام العاهرة بكل ما تعنيه الكلمة الأحداث، فتبرز المتظاهرين المحروقة قلوبهم مما يحيق بها من ظلم، وكأنهم مثيرو فتنة طائفية، أو سذج مغيبين من قبل أصابع خارجية (لاحظ نفس شماعة العهد البائد)، أو من الشماعة الجديدة "قوى الثورة المضادة"!!
يقف مع هؤلاء الإعلاميين في ساحة التيه قداسة البابا المعظم وأساقفته وكهنته، والذين لم تصل بعد لآذانهم المقدسة أنباء الثورة، وانقضاء عهد النفاق والارتزاق والهيمنة. . جهلوا أو بالأصح تجاهلوا أن الأقباط (أو جلهم) قد خرجوا وانتهى الأمر من قوقعة الكنيسة، وانتقلت إليهم عدوى الكرامة وعشق الحرية، وصاروا لأول مرة مستعدين لدفع ثمنها. . أصحاب العظمة والقداسة والنيافة مصرون على الخروج علينا بنفاقهم للمجلس العسكري، وإلقاء تصريحاتهم التي لا تجد الآن من يسمعها. . العجيب أن ذكاءهم دون تمكينهم من إدارك أن كلامهم هذا ليس فقط لن يطفئ ناراً، وإنما يفقدهم البقية المتبقية لهم من احترام الشعب!!
السلفيون أيضاً يسبحون مع أقرانهم في بحر التيه العظيم، فيخرجون بلحاهم الكثة وسراويلهم القصيرة، صائحين مهددين، رافعين شعارات كانت تدغدغ مشاعر الشعب الدينية في مرحلة مضت.. يتصورون أنه كلما ارتفعت أصواتهم بالتهديد والصراخ، وكلما غطت لافتاتهم السوداء كل الجدران، كلما انساق الشعب وراءهم انسياق النعاج. . هم ومن يخشونهم مغيبون تماماً عن واقع الشعب بعد الثورة وربما قبلها أيضاً. . لا يدرك هؤلاء المساكين أن أقل القليل هم من يمكن أن يتأثروا بجئيرهم، أما أغلبية الشعب المصري الكاسحة، فسوف تنظر إليهم شذراً، فهم يعرفونهم حق المعرفة. . يعرفون أنهم أهل مشاكل ومصائب وكراهية، والشعب المصري طيب ومحب للحياة ومقبل عليها، ولن يسمح خاصة بعد الثورة، أن يسد أحد عليه طريق الحياة والتقدم والرفاهية.
التائهون المترنحون الآن كثر في الساحة المصرية، لكن هذا هو بداية الطريق نحو مصر الجديدة، وكلما كانت الولادة عسيرة، كلما كان الطفل الوليد ثميناً وجميلاً حد الروعة.

 

اجمالي القراءات 8536