القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم "
ابن الزيات صاحب التنور:(مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ )(النساء 123 )
1ـ السجون العربية وسلخانات التعذيب تشهد وستشهد تحولا خطيرا ، يخرج منها الأبرياء والمعذبون ( بفتح الذال ) ويدخلها مجرمو التعذيب . تحول هام ندعو الله جل وعلا أن ينجح ويستمر ويستقر لتؤدى السجون مهمتها الأصلية فى عقاب المجرمين وليس فى التنكيل بالشرفاء والأبرياء .
إن من سنن الله جل وعلا فينا أنه يعاقب فى الدنيا ـ قبل الآخرة ـ الظالمين ويجزيهم سوءا بنفس السوء الذى كانوا يقترفونه، فالذى يقترف الشّر ليجمع المال لأبنائه يصير أبناؤه سبب عذابه و بلائه ، وهذا ما يجرى اليوم فى مصر وليبيا ، مبارك يعيش الذّل لأنه أذّل المصريين ونهبهم وقهرهم حبّا فى إبنه جيمى ، وهو الآن لا يطيق رؤية ابنه جيمى . والقذافى جعل ليبيا مزرعة خاصة بأولاده ، وهو الآن يدفع الثمن وسيدفعه معه أبناؤه.
المستبد العربى ـ من سقط منهم ومن ينتظر ـ كانت سجونهم تتسع للشرفاء ، ولكن الفضاء المحيط بها كان يضيق بصرخات المعذّبين الشرفاء . من اليوم ستسعد وستستعد نفس السجون لاستقبال أباطرة التعذيب ، ولقد بدأت فى مصر بالعادلى و رفاقه ، وتقول : هل من مزيد .
أى إن قوله جل وعلا ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ )( النساء 123 ) يتجلى فى عصرنا مهددا المستبد العربى وكلاب حراسته ، كما تجلى من قبل مع الوزير العباسى إبن الزيات المشهور بصاحب التنور.
2 ـ ابن الزيات هو (محمد بن عبد الملك بن أبان بن أبي حمزة ) وكنيته (أبو يعقوب ).ولقبه المشهور (ابن الزيات ). وكان أبوه تاجرًا من تجار الكرخ المياسير ، يعمل فى تجارة زيت الطعام ، وتوريد المواد الغذائية الى مطابخ الخلفاء . وكان الأب يتمنى أن يعمل ابنه معه فى التجارة ، ولكن الولد كان منشغلا بالثقافة والأدب ، وطامحا للوصول الى المناصب العليا فى البلاط العباسى ـ وليس مورّد طعام للبلاط العباسى . وساعده على هذا عقلية متفتحة أصبح بها من مشاهير المعتزلة ، مع موهبة أدبية فى الشعر و النثر ومعرفة بعلوم اللغة والأدب .
بدأ مشواره بالاتصال بالوزير المشهور للخليفة المأمون ، وهو الحسن بن سهل فمدحه بقصيدة فأعطاه عشرة آلاف درهم . واستعان بهذا على الوصول الى الحلقة الضيقة من حاشية الخليفة المعتصم . لزم باب المعتصم منتظرا الفرصة ، وواتته الفرصة حين عجز المحيطون بالمعتصم عن معرفة لفظ عربى فغضب المعتصم وطلب من يعرف ، فنودى على ابن الزيات ، فأبهر الخليفة بمعرفته وثقافته ، ولم يلبث أن قلّده المعتصم الوزارة .ومات المعتصم عام 227 ، وتولى الخليفة الواثق فعهد بالوزارة الى ابن الزيات ، فأصبح له النفوذ الأكبر ومات هارون الواثق بالله ابن المعتصم .ت 232 وتولى أخوه المتوكل فكانت محنة ابن الزيات وتعذيبه وموته .
3 ـ نتوقف هنا مع الوجه الآخر لابن الزيات . الى جانب علمه وأدبه و معرفته بالفلسفة وكونه من مشاهير المعتزلة فقد كان فى وزارته ظالما لا تأخذه فى الجور لومة لائم . الدليل على هذا تلك العداوة التى جمعته برفيقه فى تزعم التيار الفكرى المعتزلى ، وهو أحمد بن داود . عملا معا بالسياسة وظهرا معا فى البلاط العباسى الذى كان يمرح فيه المثقفون المتأثرون بالانفتاح على الثقافة اليونانية والهلينية ، وحيث برع المعتزلة فى المزج بينها وبين فكرهم الاسلامى. واستخدم المعتزلة نفوذهم السياسى فى عهد المأمون و المعتصم والوائق فى اضطهاد الفقهاء التقليديين المحافظين الذين لجأوا الى اختراع أحاديث نسبوها للنبى محمد عليه السلام يزينون بها آراءهم الفقهية و العقيدية لتتسلح بها ضد النقد ، وأكبوا على تلك الأحاديث يروون ويحفظون ، وبها فى المناظرات يستشهدون ، فأطلق عليهم المعتوزلة لقب الحشوية ،اى الذين يحشون رءوسهم بأقاويل كاذبة. بينما أطلق المعتزلة على أنفسهم لقب ( أهل العدل و التوحيد ). وبنفوذ المعتزلة استطاعوا اضطهاد الفقهاء الحشوية وزعمائهم ابن حنبل و محمد بن نوح ومحمد بن سعد فيما عرف بفتنة القول بخلق القرآن . وتولى هذا الإثم ابن أبى داوود وابن الزيات . أى تعاونا معا ضد الفقهاء المحافظين مع وجود العداء بينهما لأنه عداء مبعثه التنافس السياسى داخل البلاط العباسى . وهذا يعطى لمحة عن الوجه الآخر لابن الزيات .
4 ـ على أن الملمح السىء الآخر فى شخصية ابن الزيات هو الذى رسم نهايته المأساوية ، وهى اندفاعه فى الظلم بلا تقدير للعواقب ، وتجلى هذا فى موقفين : التنور و معاملته مع جعفر ولى العهد الذى تولى الحكم فيما بعد تحت لقب المتوكل .
4/ 1 :صنع ابن الزيات ( التنور ) لتعذيب خصومه .وهو مثل كهف حديدى في داخله مسامير حادة تدمى من يلمسها ، ويتم تسخينه بالنار من الخارج ،وكان ابن الزيات يلقى فيه خصومه ويغلقه عليهم ، ويوقد فيه النار من الخارج ، ويلجأ الضحية للهرب من الحديد الملتهب للتعلق بالمسامير فتدمى يديه ، ويضطر للجلوس فلا يجد سوى المسامير المحماة ، ويظل المسكين يصرخ ويستمع له ابن الزيات متلذذا ، وحين يطلب الضحية منه الرحمة يقول له ابن الزيات كلمته المشهورة : الرحمة خور في الطبيعة وضعف في المنة ما رحمت أحدا قط ).
4/ 2 : فى خلافة الواثق انتهز ابن الزيات فرصة انغماس الواثق فى المجونو اللهو و الشذوذ الجنسى لكى يتحكم ليس فقط فى الخلافة ولكن أيضا فى أخ الواثق الذى تعين وليا للعهد . وهو المتوكل . عمل ابن الزيات على الوقيعة بين الواثق واخيه المتوكل وأوعز للواثق ان يعزل أخاه المتوكل ويولى إبنه مكانه . وراقت الفكرة للواثق ، وكان من خطط تنفيذها تحقير ولى العهد لتسقط هيبته فى البلاط ولدى الحاشية . وتولى هذا الأمر ابن الزيات بجدارة .
أحاط ابن الزيات ولى العهد بالجواسيس يحصون عليه أنفاسه وصار بينهم كالسجين ، وحاول جعفر ( المتوكل ) أن يتصل بأخيه الخليفة الواثق فلم يفده ذلك شيئا ، فاضطر للذهاب صاغرا الى الوزير خصمه اللدود ابن الزيات ، فعامله ابن الزيات باحتقار شديد . دخل عليه يسأله أن يكلم أخاه الخليفة ان يرضى عنه،(..فلما دخل عليه مكث واقفًا بين يديه مليًا ، وابن الزيات متشاغل عنه لا ينظر اليه و لا يكلمه ، ثم أشار إليه أن اقعد فقعد ، فلما فرغ من نظره في الكتب التفت إليه كالمتهدد له فقال له: ما جاء بك ؟ قال: جئت أسأل أمير المؤمنين الرضا عني ) فنظر ابن الزيات الى الحاضرين فقال (: انظروا إلى هذا .! يغضب أخاه ويسألني أن أسترضيه! اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك ) . . واحتاج المتوكل الى راتبه ونفقاته فأتى عمربن فرج مسئول الخزانة يسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه، فلقيه عمر بالخيبة وأخذ الصك فرمى به إلى صحن المسجد .
وافتخر ابن الزيات بما فعله بولى العهد وكتب بذلك للخليفة الواثق:( أتاني جعفر بن المعتصم يسألني أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه في زي المخنثين له شعر قفا) أى قد طال شعره حتى غطى قفاه .(فكتب إليه الواثق: ابعث إليه وأحضره ومر من يجز شعره واضرب به وجهه ففعل ذلك .)
ثم مات الخليفة الواثق فجأة وهو فى غمرة شبابه ، بسبب وصفة طبية خاطئة أراد بها تقوية قدرته الجنسية . وآلت الخلافة الى ولى العهد المتوكل ، فكانت محنة ابن الزيات . وفيها تعاون احمد بن داود مع المتوكل ضد ابن الزيات حيث تولى الوزارة مكانه .
5 ـ عن محنة ابن الزيات ، يقول ابن الجوزى ـ وهو من ننقل عنه إن قائد الشرطة إيتاخ جاءه أمر المتوكل بالقبض على ابن الزيات ،(.. فلما دخل عليه أخذ سيفه وقلنسوته ودراعته فدفعها إلى غلمانه وقال: انصرفوا .وبعث إلى داره فأخذ جميع ما فيها من متاع وجوار وغلمان ودواب )، وأمرالمتوكل بقبض ضياعه وضياع أهل بيته ، فكان الذي أخذ منه قيمته تسعون ألف دينار .ثم قيدوه ، ( فامتنع عن الطعام وكثر بكاؤه ، ثم سوهر ومنع من النوم بمسلة ينخس بها ، ثم أمر بتنور من حديد فيه مسامير إلى داخله فأدخل فيه ، وهو الذي كان صنعه ليعذب به من يطالب بأمر، فجعل يقول لنفسه: يا محمد بن عبد الملك لم تقنعك النعمة والدوابا لفارهة والدار النظيفة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة ، ذق ما عملت بنفسك! وكان لا يزيد على التشهد وذكر الله تعالى). يقول ابن الجوزى : ( وقد روينا أنه كان يقول: " الرحمة خور في الطبيعة ما رحمت شيئًا قط."فلما وضع في التنور قال: ارحموني قالوا له: وهل رحمت شيئًا قط.!! ) . وقال أحد الرواة : (:لما قبض على محمد بن عبد الملك (ابن الزيات ) تلطفت في أن وصلت إليه ، فرأيته في حديد ثقيل ، فقلت:يعزّ علي ما أرى !! فقال:
سل ديار الحي ما غيرها وعفاها ومحا منظرها
وهي الدنيا إذاما انقلبت صيرت معروفها منكرها
إنما الدنيا كظل زائل نحمد الله كذا قدرها).
وظل فى التنور يتعذب فيه بلا نوم إلى أن مات فيه . ويقولون : ( لما حمل ابن الزيات في التنور الذي مات فيه كتب هذه الأبيات بفحمة:
من له عهد بنوم يرشد الصبّ إليه
رحم الله رحيمًا دلّ عيني عليه
سهرت عيني ونامت عين من هنت عليه )
ومات في التنور .ولما مات طرح على باب فغسل عليه وحفر له . ولم يعمقوا حفرته ، فذكر أن الكلاب نبشت الحفرة فأكلت لحمه..!
وبدأت صفحة جديدة للفقهاء الحشوية تحت لقب السّنة ، افتتحها الخليفة المتوكل بسبب حفده على ابن الزيات .