هذه ندوة من ندوات رواق مركز ابن خلدون حول
الدولة الدينية والدولة المدنية
مدير الرواق د / صابر أبو خضرة
بدأ حديثه قائلا : موضوع اليوم متواكب مع الأحداث ، وأسلوب عملنا ليس خطابي ولا اعلامي ولكنه علمي وهذا هو اسلوب الدكتور سعد الدين ابراهيم وهو صاحب الدور الريادي ، وعلى اثره سار المهندس احمد رزق حاملا الشعلة من حيث وحدة الهدف ولكن باسلوب مختلف فلكل منا اسلوبه ، ولكل منا سلبياته وايجابياته .
وهذا المنهج العلمي هو ما نتمنى ان يكون &g;ن منهج المرحلة القادمة " عدم تغيير الاهداف " .
منهج المجتمع الآن هو الدولة المدنية .
لذلك كانت دعوتنا لكل من القس رفعت فكري ، والاستاذ على يوسف على .
فلكل منهم منهجيته بصرف النظر عن الدين الذي ينتمي إليه ، وهذا هو توجيه المهندس احمد رزق .
وسيوزع على حضراتكم نموذج قياس رأي حول الدولة المدنية ، والسؤال الأساسي به " هل ما نريده هو الدولة المدنية أم الدولة الدينية " ، والسؤال سيجاب عليه مرتين " قبل الندوة وبعد الندوة ، فإن كان هناك تغيير في التوجه فهذا ما نرحب به ، وإن كان تأكيدا للرؤية فنعم به .
ندير الرواق بشكل سلس وبأسس ثابتة .
لكل من المحاضرين نصف ساعة ثم نبدأ المداخلات .
وسأعرض رؤيتي لأني مررت بثلاث عصور " ناصر ، السادات ، ومبارك " .
عبد الناصر سبق أمته " كان يسبق حلم الأمة ، لكن كانت إدارته بشكل فردي .
السادات سبق الأمة وكان لديه دائما الجديد في المواقف ومات في عيد نصره .
ومبارك تخلف عن أمته عندما أراد الشباب أن يسبق الجميع .
وهذا هو الخطأ الجسيم الذي دفع إلى توجه جديد للأمة والتي احتوت خبرات من سبقوه .
كيف كان شباب التحرير ، كان لدينم قلق من أن تسرق الثورة ، وهذا ما يشغل الشيوخ والشباب الذين قاموا بالثورة ، فالثورة قام بها الشباب وشجعها الشعب وساندها الجيش .
فهل يمكن بمزيد من الضغط السلمي تحقيق أهداف الثورة ، ووضع إطار محكم للدستور .
وسؤالي للقس رفعت : هل لدى الانجيل تصور لبناء الأمم وبناء الشعوب لأني وجدت إجابات عديدة من كافة التيارات الفكرية ، ولكني لم أستمع لرؤية الإخوة المسيحيين .
ثم تحدث الأستاذ / على يوسف علي قائلا :
المفترض أن أتحدث عن القضية من منظور إسلامي : لكن من محاسن الصدف أن وقع بين يدي بحث لأستاذ فلسفة اسمه مردخاي روزفلت بعنوان أصول الديمقراطية في التوراه " الجذور الديمقراطية في القراءة الكهنوتية ، حتى نتعرف على القضية من خلال كافة الأديان السماوية .
من وجهة نطرالباحث تتبلور القضية في التفرقة بين القراءة الربانية للكتاب المقدس وما أسماه بالقراءة الكهنوتية ، والتي ينجم عنها نظام سياسي يقوم مقام الديمقراطية ، وهو يرى أن هذا منافي لما جاء بالكتاب المقدس ، أما الرؤية الربانية فتقوم على حرية الإنسان في العقيدة ، فإن كان الإنسان حر في معاملاته مع الرب فكيف يكون عبدا في علاقته مع الإنسان ، وهذا مدخل جيد جدا حين دخولنا على القرآن الكريم الذي جاء فيه " من يشأ فليؤمن ومن يشأ فليكفر " .
ونجد نفس الأزمة لدينا في عدم التفريق بين القراءة الربانية والقراءة الكهنوتية في الدين الإسلامي .
وسأضرب مثالا لما جاء بالديانة المسيحية بالنسبة للقراءتين جاء في أحد الروايات من العصور الوسطى .
مواجهة ممثلة فيمن يمثل القراءة الربانية المستنيرة ، والقراءة الكهنوتية التي تدار بها البلاد . وهذه المقابلة تتطابق تماما مع المقابلة التي تمت مابين محمد عبده ومابين الرجعية الدينية .
وهذا ينقلنا إلى أساس غاية في الأهمية وهو " وحدة الرسالة السماوية " .
فالمولى سبحانه وتعالى لا يغير عدالته أو سنته بين رسول ورسول ، وعليه ورد بعد سرد الرسل في القرأن القول لسيدنا محمد " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " فيما يعني يامحمد أنت متبع لمن سبقك من الرسل ، لذا فقد وضع في أصول الفقه الإسلامي شريعة من قبلنا من الرسل ، فأصبحت الشريعة الإسلامية منفتحة على الشرائع الأخرى ، وممن عبروا عن ذلك تعبيرا رائعا الأمير تشالرز في خطبة له في الأزهر الشريف ، حينما قال إن في التراث الإبراهيمي من القيم والمبادئ ما يجعلنا نتعايش في محبة وسلام .
ولكن ما هى الرؤية من المنظور الإسلامي ، ما هى طبيعة الدولة في الفقه الإسلامي .
لقد اتفقنا بأن القراءة الربانية لا تنتج نظاما سياسيا ، ومعظم المفكرين الإسلاميون يقرون بأن الشريعة الإسلامية لا تنتج نظاما سياسيا ، لذلك نجد أن فكرة الخلافة هي مقحمة على الفكر الإسلامي ، والدليل على ذلك أن سيدنا محمد أسس دولة بمجهوده ، وقد تحول بها من خلفوه إلى امبراطورية ، والرسول لم يفرض نظاما لتداول السلطة فهى لم تكن دولة دينية قط ، وأعطى إشارة من بعيد بأن جعل أبي بكر يصلي بالمسلمين خلفا عنه ، ولكن الملزم بالتأكيد هو العدالة والتي لا يختلف معها أي أحد من أي دين أو جنس أو لون .
وعليه يمكن الانتقال من وحدة العدالة السماوية إلى وحدة العدالة الإنسانية .
فما هى ملامح الدولة المدنية حين التطبيق العملي
وكما نقول أن الدولة المدنية هى ظهر كل مواطن حتى لا يضرب على بطنه ، وقد عبر عن ذلك الخليفة عمر ابن الخطاب حين قال " الضعيف عندي قوى حتى آخذ له حقه ، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه " ، وهذا هو نمط الدولة المدنية التي عبر عنه عمر ابن الخطاب .
ثم نأتي لوضع الحاكم بالنسبة للرعية ، ولذلك عبر المولى عن نموذج الحاكم الصالح كما عبر عن نموذج الحاكم الظالم حينما يخاطب مجتمعه: الأول في قصة ذي القرنين حين قوله : ما مكنني فيه ربي خير فأعينوني بقوة ، وكذلك في قول الخليفة أبي بكر حين قوله : لقد وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتم مني خيرا فأعينوني وإن رأيتم مني غير ذلك فقوموني
والحاكم الظالم في قوله " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ، وقد وصف القرآن ذلك بقوله " استخف قومه فأطاعوه .
ومن تاريخنا قول عبد الناصر : لقد خلقت فيكم العزة وخلقت فيكم الكرامة ، وكان الرد عليه " لبيك عبد الناصري " ، ولم يقفوا منه موقف مناهض .
والنقطة الثالثة : هل يمكن مساءلة الحاكم ؟ وهل لو سئل فهل يحاسب ، ورسول الله كمثال ، حينما جاءه رجل وقال أريد القصاص منك ، فرفع الرسول ملابسه وقال له خذ حقك .
وعليه فما تتطلبه الدولة المدنية موجود في صميم العقلية والفلسفة الإسلامية شريطة قراءتها قراءة ربانية .
وحين القراءة الكهنوتية نجد الصورة مختلفة تماما مثل : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وهذا القول يقال حتى اليوم ، والقائلين به نجدهم حائزين عن جدارة دينية كبيرة .
في العهد الملكي كان الأزهر يتمتع بإستقلاله وكان شيخ الآزهر ينتخب من لجنة كبار العلماء ، وحينما ألغى عبد الناصر هذه اللجنة ليجعل الأزهر موظفين تحت أمره ، لذا كانوا فقهاء سلطة ، وعليه نجد منهم من أفتى بمشروعية تعذيب المتهم أثناء التحقيق وكتبت هذه الفقرة بجريدة الأهرام ، ولذلك أنبه على وجوب إعادة لجنة كبار العلماء حتى ينضبط الفكر الإسلامي .
ثم تحدث القس / رفعت فكري قائلا :
الظروف الآن تفرض علينا الحديث حول الدولة الدينية والدولة المدنية ، وهذا الموضوع ليس جديدا فلطالما تحدثنا عنه هنا بمركز ابن خلدون وفي أماكن أخرى ، لخوفنا من أن يحدث مالا تحمد عقباه ، والمولى يرعانا دائما طالما نناضل وسوف نناضل حتى النفس الأخير
بداية اسمحوا لي بتعريف ما تعنيه الدولة الدينية وما تعنيه الدولة المدنية ومتى بدأت تاريخيا كل منهما .
من الناحية التاريخية وحتى قبل الأديان الإبراهيمية السلطة كانت تنتمي إلى الدهر ، وبعض الفراعنة كانوا يعتبرو أنفسهم آلهة ، والبعض من الفراعنة كنوع من التواضع كانو يعتبرون أنفسهم أبناء الآلهة ، وتطورت الأمور إلى أن أصبح الحكم بمقتضي الحق الإلهي المقدس ، وحين الرجوع لتلك الصورة قبل الأديان الابراهيمية سنجد صور جديدة من الدولة الدينية قبل صدور الأديان وهذا يؤكد لنا حتى الدين الإلهي اختلط بالدولة وصبغها بصبغته ، وحين جاءت اليهودية ، وبدأت في الظهور كدولة دينية كانت دولة لمجموعة من الناس هم بني إسرائيل " شعب الله المختار " والدولة اليهودية حسب الفهم اليهودي لم تكن دولة لكل الناس ولكن كانت مقصورة على اليهود فقط ، بعد اليهودية جاءت المسيحية ، وهى تختلف تماما عن اليهودية ، حقيقة أنها بدأت بمجموعة من اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح
لكنها في جوهرها تختلف عن الدين اليهودي .
دعوة السيد المسيح كانت عامة لجميع الناس ، والمسيحية انتشرت بكثرة عندما اعتنقها الأباطرة الرومان ـ وأصبحت الدين الغالب في العالم .
وعلاقة المسيحية بالدولة منذ نشأتها مرت بثلاث مراحل رئيسية :
المرحلة الأولى
التي سادت فيها تعاليم السيد المسيح وكانت واضحة وماثلة في الأذهان ، وحين الرجوع للكتاب المقدس وقصة حياة المسيح نجد أن السيد المسيح نادى سواء بتعاليمه أو بحياته بالفصل التام بين الدين والدولة ، ومن خلال تعاليمه نكتشف أنه لا يجوز أبدا الخلط بينهما بأي حال من الأحوال ، في أحد المرات ذهب إليه أناس لاحراجه واليهودية كانت محتلة من المستعمر الروماني وسألوه عن وجوب إعطائهم لقيصر أموال أم لا ، فرد عليهم بمقولته " اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله " ، وعليه فالمبدأ واضح للدولة ما لها ولله ما له ، ولا يجوز الخلط بين ما هو لقيصر وما هو لله ، المواطن له أن يتعبد وأيضا يكون مواطنا صالحا فلا تعارض بينهما وأيضا لا يجوز الخلط بينهما ، وبالرجوع لتعليمات المسيح نجده لم يضع تشريعا معينا ، ولكنه وضع مجموعة من المبادئ ومجموعة من القيم ، وتلك المبادئ والقيم هى صالحة لكل عصر وكل مكان ، وفي أحد المرات تحدث رجل مع المسيح قائلا قل لأخي أن يقاسمني الميراث ، فقال له من أقامني عليكما قاضيا أو مقسما ، ولكن ما يمكنني هو تقديم نصيحة أقول احذروا من الطمع ، وحين نقول أن المسيحية لم تضع تقسيما للميراث فهذا أمر لا يحسب على المسيحية ، ولكن يحسب لها أن المسيح وضع مبدأ عام يجب الالتزام به " مبدأ المحبة ، عدم الطمع والجشع ، ومن هنا لدينا مساواة كاملة بين الرجل والمرأة ، ولم يجبر المسيح أحدا على تبعيته .
وحين قراءة الأناجيل نجد الكثير من الناس لم يفهموا الأناجيل ومنهم بعض تابعيه الذين أحسوا بأن ما يقوله غير مفهوم لهم وغير ملائم لمطالبهم ، لأن منهم يتبعه لكي يشبع معدته ومن أجل ذلك تراجع عنه الكثيرين ، وحين ذلك قال المسيح لتلاميذه لكم مطلق الحرية في اتباعي من عدمه ، وعليه فهو لم يجبر أحدا مكرها على اتباعه ، فقال له بطرس إلى من نذهب والحياة الأبدية عندك .
احبوه لأنه احترم حريتهم وإرادتهم ولم يجبرهم على شيء ، وكان ذا قلب كبير بلا جدران يتسع لأي إنسان مهما كان توجهه ، وكان يسمح للجميع أن يعتقد أيا منهم ما يريد
ويالنسبة للسامرة الذين منعو دخوله إلى قريتهم ، ونصيحة تابعيه له أن يتخلص منهم بنار من السماء فقال " أنا لم آتي لأهلك أنفس الناس ولكن لأخلص " فلا يجب إهلاك الآخر لمجرد أنه مختلف ، فالمسيح احترم الاختلاف في الأفكار ، ومن هنا نجد أن السيد المسيح يرفض تماما الخلط بين الدين والدولة .
المرحلة الثانية :
بعد أن انتشرت المسيحية وأصبحت أكبر مالك للأرض واصبحت قوة روحية وسياسية هائلة فبدأ انحراف كبير في التاريخ الكنسيي عن تعاليم المسيح وهذه هى الفترة المسماه بالعصور المظلمة ، في هذه الفترة استطاع بباوات الكنيسة أن يفرضوا سلطانهم على الدولة وكان الحكام يكتسبون شرعيتهم من الكنيسة ، وكان الباباوات هم من ينصبون الأباطرة ، فإن سحب الباباوات الشرعية من الأباطرة ماكان للشعب طاعتهم ، في هذه الفترة يمكننا القول أن أوربا عرفت الدولة الدينية في هذه العصور المظلمة ، ومسألة الاصلاح الديني جاءت نتيجة ماساد بالكنيسة من فساد ، وما كان من شر ساد رجال الدين والشعب .
أشر الموبقات كانت تحدث في أعلى المستويات الكنسية ، وكان الناس يتنافسون للحصول على وظيفة كهنوتية بسبب ما كانت تدره عليهم من مكتسبات ، وكانت تشترى هذه الوظائف بالرشوة والمال دون أن يكون لهم رسالة روحية ، والنتيجة فساد الأخلاق وتعميم الرذيلة ، وكان من الطبيعي أن توضع الديانة في بعض الطقوس الجوفاء " شكليات " أما عن الأخلاق فقد فسدت " صكوك الغفران حتى ترفع عنهم الكنيسة خطاياهم من أجل رفع العقوبات الكنسية ، والكتاب المقدس لم يكن في أيدي الشعب إنما كان في أيدي الكنيسة مع البابا ، لذلك لم يكن الناس تقرأ وإنما الخضوع لرجال الدين ، كانت أنواع الصكوك مختلفة النوع والسعر حسب الجرم ، وأيضا كانت كنيسة العصور الوسطى حرمت على الناس التفكير الحر .
وخلال الأربعين سنة التي سبقت الإصلاح أحركت الكنيسة حوالي 1300 شخص بتهمة الهرطقة ، وكان هذا نتيجة أي اختلاف مع الكنيسة ، وكان هناك حجر على كل تفكير حر ، وبالمقارنة بين هذه الفترة وما نادى به السيد المسيح فهو لم ينادي أبدا بكل ما حدث في كنيسة العصور الوسطى ، لذلك كان ولابد من أن يحصل إصلاح " يشرق فجر الإصلاح المسيحي " بنور حرية الفكر والضمير .
يقول المؤرخون أن القرن ال 15 ، 16 عرفوا بعصر النهضة أو التنوير أو الإحياء ، لأن في هذا العصر غزا العقل البشري مختلف الميادين ، وحين نتحدث عن القرن ال18 وإيمانويل كانت ، ووضع مبدأ ألا تتحكم أي سلطة على الإنسان إلا سلطة العقل .
العقل رقم 1 وكل النصوص تخضع للنقد العقلي ، ومن هنا سادت فكرة سيادة العقل في أوربا ومن أجل هذا ظهر مارتن لوثر وكان كاثوليكي ويمارس الطقوس الكاثوليكية ، وعايش ما كان يحصل في كنيسة القرون الوسطى من استبداد سياسي واستبداد ديني ، وبدأ مارتن لوثر يقود فكرة الإصلاح الديني في ذلك الوقت وجمع بعضا مما رآه خاطئا ووضعه أمام الكنيسة في وتنبرج وبدأ في مهاجمة البابا ومن الطبيعي أن يحاكم وسار وراء مارتن الكثيرين وحصلت ثورة اصلاح في اوربا ، مجموعة من النبلاء الإنجيليين قالو عبارتهم المشهورة we protest نحن نحتج ومن هنا ظهرت الحركة البروتستانتية في اوربا حركة احتجاجية ضد الدمج بين الدين والدولة وضد فساد رجال الدين في ذلك الوقت وضد ما كان يحدث في كنيسة العصور الوسطى ، نحن نحتج على الظلم وعلى القوانين الجائرة التي تعيق تقدم الفكر ، ومن هنا ظهرت كلمة البروتستانتية التي ترمز إلى ريادة حرية الفكر وحرية الاعتقاد التي فتحت أمام العالم باب الحضارة والتقدم في مختلف المجالات والتي أصبحت حقا أساسيا تكفله دساتير العالم المتحضر ، الحرية التي هى حق كل إنسان سواء كان ضد الأقلية أو من الأقلية .
كيف بدأ الإصلاح ؟
كيف تبدد أمام التنوير تلك الظلمات الحالكة للأصولية ؟
إذا ما نظرنا للتجربة الأوربية في التنوير وجدنا أنها صعبة ومريرة ، المعركة مع الإصلاح الديني في أوربا استغرقت ثلاثة قرون متتالية ويقول البعض أنها وصلت أربعة قرون ، وحين النظر إلينا في العالم العربي فلا نتعجل ، الإصلاح يأخذ وقت كبير ويدفع له ثمن وقد يكون الثمن باهظا ، وقد ظهر فلاسفة ورجال دين ، كل الفلاسفة في أوربا ركزوا جهدهم ضد مرض خطير ظهر في ذلك الوقت وهو الأصولية الدينية الذي نتج عنها التعصب الديني ، كل المفكرين كانو واضحين في حربهم ضد الأصولية الدينية في أوربا ، جيشو طاقتهم أمام هذا المرض الخطير الذي يصيب أي دين .
ولذلك كانت البداية هى كيفية التعامل مع النص الديني لأن النص الديني لا جدال في أنه محور الارتكاز في كل أفق ديني سواء كان منغلقا أو مستنيرا لأن الإتجاه المستنير لإيماني بقدرة العقل واقع يتعامل مع النص الديني بمناهج قادرة على التحديث وبعث الحياة فيه ليتجدد ويصبح ملائما لكل العصور ولكل الأزمنة والأمكنة فيكون الدين شاملا حقا ، من أجل ذلك يوجد من يمسك النص الديني ويصر على الأخذ بحرفيته وفصله عن سياقه التاريخي وعن سياقه اللغوي وفصله عن سياقه الحضاري فالنتيجة أزمة ، فهذه النصوص كتبت في أزمنة بعيدة ولأسباب مختلفة ، وحتى في الفكر الإسلامي يوجد أسباب النزول ، لابد أن أضع كل ذلك وأنا أتعامل مع النص الديني ، ولا يجب أن آخذ النص الديني معزولا عن سياقاته وأطبقه في عالم وحضارة القرن الواحد والعشرين ، ولذلك ظهرت فكرة التأويل وفي الحقيقة يرجع الفضل في تأويل النص الديني للفيلسوف الإسلامي ابن رشد وأوربا استفادت من ابن رشد في تأويل النص الديني لكن من المؤسف أن اوربا لأنها استفادت من ابن رشد نجحت وتقدمت لكن العالم العربي قالو ان ابن رشد رجل كافر وتم حرق كتبه ونكتفي بابن تيمية وبالتالي هم وصلو لما وصلو إليه ، ونحن للأسف هذا حالنا " للخلف در " .
لابد من حوار متجدد ومستمر مع النص الديني ، هذا الحوار المتجدد يجعل النص مفتوحا لفهم جديد يبنى على الاستنارة الدينية لقدرة الدين الذي يرتكز على النص لكى يتجدد مع كل طلعة شمس وقدرته على البقاء والاستمرار وأداء المهام الروحية المنوطة به مهما تعمقت المتغيرات الحضارية وعلى رأسها العلم ، هذه كانت المرحلة الثانية مرحلة مظلمة في اوربا لكن ظهر مصلحين وتعاملو جديا مع النص الديني ، وخلصوا إلى أن الدين يجب أن ينفصل كليا عن الدولة .
داخل الكنيسة صلي كما تريد ولكن حين الخروج من الكنيسة فالمناخ العام هو ملك لكافة المواطنين ، مناخ مدني لايجوز لرجال الدين أن يتسيدوا عليه لذلك انتهت الحالة في اوربا بالتجديد والاصلاح الديني
المرحلة الثالثة هى :
عصر التنوير والاصلاحات الدينية وهنا عادت الفكرة مرة أخرى " أعطو ما لقيصر لقيصر وما لله لله " وبقيام الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 انتهت تماما فكرة الدولة الدينية في أوربا وتم الفصل بين الدين والدولة والإقرار بحرية الدين والاعتقاد والحريات السياسية والدستورية .
هذه هى الثلاث مراحل بعلاقة الدين والدولة في المفهوم المسيحي .
ولكن ما مفهومنا اليوم عن الدولة المدنية ؟
إذا كانت المرجعية في الدولة للدين لأمور خارج نطاق البشر وفوق عقولهم ، والنص الديني غالبا هو فوق عقول البشر
وإذا كانت المرجعية في الدولة مدنية فهى تعبير عن إرادة الناس وفكرهم ذلك أن الدولة المدنية تقوم على مبدأ أساسي مقتضاه أن إرادة الناس هى مصدر كل السلطات ومرجعيتها النهائية ، الدولة الدينية تستند في مرجعيتها إلى المطلق لا يجوز لأحد أن يختلف معه بأي حال من الأحوال في الدولة الدينية ستقول لي قال الله وقال الرسول فكيف أختلف معه انك تتحدث عن مطلق ونحن نعيش في النسبي وبالتالي فالمرجعية في الدولة الدينية مطلقة لا يجوز الاختلاف معها وبالتالي ففكرهم فكر إقصائي وفكر تكفيري وسيكون الحال كما حدث في اوربا في العصور الوسطى تختلف معه يحرقك تختلف معه يولع فيك بالنار لأنه يري أنه يطبق شرع الله كما قال الله والرسول وأنت لابد أن تسير مثلما قال الله فالدولة الدينية تستند للمطلق ولا يجوز لأحد أن يختلف مع المطلق بينما المرجعية في الدولة المدنية تكون للنسبي القابل للحوار والنقاش والجدل والاختلاف دون تكفير ديني ولا تخوين وطني ، الدولة المدنية تقوم على أساس القانون وتتبنى النظام الديمقراطي وعلى مبدأ المواطنة أي أن مواطنيها جميعا مهما اختلفت أصولهم العرقية أو معتقداتهم أو أفكارهم أو ديانتهم فهم أمام القانون سواء في حقوقهم المدنية والسياسة ، الدولة المدنية دولة مواطنة تصلح فيها المرأة أن تكون رئيس جمهورية ولكن في الدولة الدينية الإجابة بالنفي ، وفي الدولة الدينية رفض أن يكون رئيس الدولة مسيحيا .
المرجعية في الدولة الدينية إقصائية ، ولا يمكن أن تتمشى المواطنة مع المرجعية الدينية .
أخطر ما في الدولة الدينية هو قول لا بالنسبة لأي حاكم في الدولة الدينية لأنها تجعل الحاكم يتكلم بإسم الله ومن ثم لا تجوز مراجعته أو محاسبته وبذلك يتم فتح الباب واسعا للاستبداد باسم الدين وهو أسوأ أنواع الاستبداد لعدم القدرة على معايشته مثل الاستبداد السياسي .
الاستبداد الديني كارثة لا يمكن التعايش معها .
من الغريب أن يظهر في القرن 21 ما يسمى بالدولة الدينية ، والتي هى بطبيعتها دولة دكتاتورية ومستبدة يكون الحاكم فيها هو ظل الله في الأرض يحكم ويصدر التشريعات والقوانين باسم الله ويرسم السياسات باسم الله ومن يطيعه فقد أطاع الله ومن يختلف معه أو حاربه فكأنما يحارب الله مع انه مجرد بشر يخطئ ويصيب ولكن في هذه الحالة تضفى على الحاكم علامات التقديس ليكون هو الوكيل الوحيد والمتحدث الرسمي باسم الله ، " أي استبداد هذا !!! "
من المؤسف وجود أناس على مر التاريخ أصبغو على حكمهم صبغة دينية تحت دعاوي الحاكمية لله والعصمة والقداسة في حين أن العصمة والقداسة هى لله وحده كل البشر يخطئ ويصيب وليس هناك ضمان أن يخرج الحاكم عن جادة الصواب ويضع عنوانا للفساد والاستبداد .
إن خلط الدين بالسياسة يفسد الدين والسياسة معا لأن الدين ثابت ومطلق ومنزه عن الخطأ والسياسة متغيرة تبعا للظروف والمصالح .
اننا اليوم لسنا في حاجة لدولة ترعى الارهاب الفكري باسم الدين ، لسنا في حاجة لدولة ترفع سلاح التكفير لمواجهة آية محاولة للتفكير ، لسنا في حاجة لدولة يخوضها أمراء الجماعات ويهيمن عليها المهووسين دينيا الذين لا يفرقون بين النص المقدس وبين تأويله الذي هو من صنع البشر ومجرد اجتهاد قد يصيب وقد يخطئ ، والاختلاف مع رأي إنسان ليس خروجا عن الدين والملة .
نريد دولة مدنية تحترم المساواة بين جميع البشر بغض النظر عن الجنس واللون والدين دولة تحترم المواطنة الكاملة غير المنقوصة دولة تتعامل مع المرأة كإنسان وتعطيها الفرصة للتنافس في مجال العلم والعمل مع الرجل يدا بيد وفي نفس الظروف ولا تختصر المرأة أو تختزل أو ننظر إليها كمجرد جسد أو أداة لمتعة لحظية .
الدولة المدنية بهذا المعنى لاتتصادم مع الدين إذا ابقينا الدين في دائرة العلاقة بين العبد وربه ، وتركنا إدارة الدولة للناس بلا سلطان من طبقة كهنوت وبلا سلطان أيضا من طبقة دين فالناس أدرى وأعلم بشئون دنياهم .
من يتحدثون عن الدولة المدنية ليسوا بكفرة ، ادخل الجامع أو الكنيسة كما تريد ، وبخروجك من أي منهما فأنت مواطن ، ولا يجوز لأحد أن يسأل أحدا بخصوص هذا الشأن هذه حرية شخصية .
الدولة المدنية هى دولة القانون والدستور الوضعي المستمدان من التجارب الإنسانية ومن الواقع لتنظيم حياة المجتمع بتمديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتحديد حقوق وواجبات المواطن ، وتوجد في المجتمع ثلاث سلطات أساسية هى السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية وعدم تداخل هذه السلطات بل تكاملها وتتوفر في المجتمع الحرية واحترام الرأي الآخر .
وآخر نقطة أختم بها هى :
قد تكون الدولة المدنية متفق عليها ولكن المرجعية هى المختلف عليها البعض يراها مرجعية بشرية لا دينية وهم النخب والتيارات العلمانية والبعض الآخر يراها مرجعية دينية إلهية وهم الجماعات الإسلامية ومنهم الاخوان المسلمين ، وهنا الاختيار بين دولة مدنية بمرجعية دينية أو بمرجعية بشرية ، أنا أرى دولة مدنية بمرجعية دينية جملة لا أستطيع فهمها ، لا فارق عندي أن يحكمني رجل دين أو عسكري وقد يكون مدني ، لكن الفارق هو المرجعية ، بماذا ستحكمني ؟
لا نريد مرجعية دينية اسلامية أو مسيحية ، لا نريد سوى دولة مدنية بمرجعية مدنية يدخل فيها الدين داخل المسجد أو الكنيسة ، نريد أن يكون الشارع مدني ولا يسيطر فيه الدين .
في الخاتمة إذا أردنا في مصر دولة على أساس ديني في وجود أقليات أخرى وألزمناهم بتشريع ديني فعليك أن تقبل دولة أخرى على أساس ديني في دول يمثل فيها المسلمون أقلية فعليهم الالتزام بتشريعاتهم الأخرى ، وهذا لا يصح ولا يليق ، وبالمناسبة فالدول الدينية تكاد أن تختفي ولم يتبقى منها سوى دولتين أو ثلاثة كنماذج فجة .
في الختام " المسيحية ترفض رفضا باتا الدولة الدينية " ومن حق الناس انشاء دولتهم على أساس حر يتوافق مع ظروف حياتهم وطلباتهم فلكل عصر ظروفه ومتطلباته .
نريد دولة مدنية بمرجعية نسبية وليست بمرجعية مطلقة وشكرا ،،، .
المداخلات
تحدث احمد شعبان قائلا :
بداية اتفق مع السادة المحاضرين بوجوب الدولة المدنية ، وأن حرية الاعتقاد مكفولة للكافة من يريد أن يؤمن فليؤمن ومن يريد أن يكفر فليكفر ، وما دام السقف " حرية الاعتقاد " مكفولة ، فعليه كافة الحريات مكفولة ، من يود أن يختار الصواب فله ما شاء ومن يريد الخطأ فله أيضا ما يشاء .
ولكن اتوجه بسؤالي للأستاذ على عن الفارق بين الربانية والكهنوتية رغم أني أرى لا فارق وتوجد نصوص تدعو إلى العنف وأخرى تدعو إلى التسامح ، ونحن نخلط بين الإثنين أو نقصي أحدهما ونقول هذا ناسخ وهذا منسوخ .
وبالنسبة لحديث القس رفعت الذي تحدث عن ثلاث مراحل للمسيحية ، وسؤالي كيف بدأ الكهنوت الديني في العصور الوسطى وكيف تم حجب النص الديني عن الناس وكيف فسر الكهنوت هذه النصوص .
وما نريده هو إصلاح الفكر الديني حتى لا نعيش في ازدواجية ، نعيش في المسجد بوجه نأخذه من الدين ونعيش في الشارع بوجه مختلف ، كيف نعيش هذه الازدواجية ، وقد قال القس رفعت أن بداية الإصلاح هى كيفية التعامل مع النص الديني ، وهذا هو مربط الفرس .
وحين نتحدث عن الدولة الدينية فماذا أختار ، هل أختار النموذج الوهابي أو النموذج السوداني أو الطالباني أو الإيراني ، والدين الإسلامي لا يقبل الاختلاف إطلاقا والذي يعني ثبات الرؤية وعدم الانفتاح على الأطر الفكرية للآخرين ويمكن وصفه " بالجمود الفكري " ، ولكن التعدد والتنوع الساعي للتكامل بالحوار فهو ظاهرة صحية لابد منها ، وهذه نقطة فارقة ، والقرآن الكريم لم ينزل من عند الله إلا لهذه النقطة تحديدا " وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفو فيه و ... 64 النحل " والمختلفين أصحاب الجمود الفكري هم كفرة بنص القرآن ، ثم نأتي لمسألة التأويل التي وضعها ابن رشد فهى في منتهى الخطورة ، لأن كل إنسان يؤول كما يريد وهذا ما أوجد ما نعيشه من اختلاف ، فالتأويل مرفوض .
ومن ناحية القراءة الحرفية للنص تجعلنا نعود إلى النقطة الأساس وهى كيفية التعامل مع النص ، فإذا ما تعاملنا معه بصورة صحيحة على أساس علمي فسوف نفهمه بصورة صحيحة لا اختلاف حولها ، وهذه الطريقة هى ما يجب البحث عنها ، ولن أتطرق الآن لهذه الكيفية ، يجب أن يكون تعاملنا مع النص الديني على أساس علمي والذي بنيت عليه حضارتنا الإنسانية وشكرا .