كيف روى الحديث:
بعد نهي النبي عن كتابته يحسب الذين لا خبرة لهم بالعلم، ولا علم عندهم بالخبرة، أن أحاديث الرسول التي يقرؤونها في الكتب، أو يسمعونها ممن يتحدثون بها، قد جاءت صحيحة المبنى محكمة التأليف، وأن ألفاظها قد وصلت إلى الرواة مصونة كما نطبق النبي بها، بلا تحريف فيها ولا تبديل. وكذلك يحسبون أن الصحابة ومن جاء من بعدهم، ممن حملوا عنهم أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى زمن التدوين، قد نقلوا هذه الأحاديث بنصها كما سمعوها، وأدوها على وجهها كما تلقوها، فلم ينلها تغيير ولا اعتراها تبديل، ومما وقر في أذهان الناس أن هؤلاء الرواة قد كانوا جميعا صنفا خاصا بين بني آدم في جودة الحفظ، وكمال الضبط وقوة الذاكرة، وأن أذهانهم قد فطرت على صورة خاصة غير ما فطرت عليه أذهان البشر جميعا، فكل ما يسمعونه ينقش على ألواحها، فلا تفلت منه كلمة، ولا يشذ عنه حرف. ولقد كان ولا جرم لهذا الفهم أثر بالغ في أفكار شيوخ الدين - إلا من عصم ربك - فاعتقدوا أن هذه الأحاديث في منزلة آيات الكتاب العزيز، من وجوب التسليم بها، وفرض الإذعان لأحكامها، بحيث يأثم أو يرتد أو يفسق من يخالفها، ويستتاب من أنكرها أو شك فيها.
من أجل ذلك رأينا أن نشبع القول في هذا الأمر، ليعلم الناس وجه الحق فيه، ويدركوا أن الأحاديث التي جاءتهم عن رسول الله صلوات الله عليه قد رويت عنه بمعناها، لما لم يستطيعوا أن يأتوا بها على حقيقة مبناها، لنسيان أصلها أو لمضي الزمن عليها في أذهانهم عندما رووها، وأن كل راو قد روى ما بقي في ذهنه من هذا المعنى بعد أن عجزت ذاكرته عن ضبط ألفاظه. ولم يكونوا قد عنوا في أول الأمر بتدوينه، وعلى أن الأمر قد جرى على رواية الحديث بالمعنى، حتى لم يختلف في ذلك أحد من العارفين ، فقد وقع الاختلاف بعد ذلك بين العلماء في أمر هذه الرواية، فمنهم من منعها ومنهم من أجازها، ولأن هذا الأمر مما يجب بيانه لأهميته رأينا أن نذكر هنا طرفا من أدلة هؤلاء وهؤلاء، ولم نجد أحدا عرض بتحقيق شامل لهذا الأمر مثل العلامة الشيخ طاهر الجزائري في كتابه النفيس " توجيه النظر " وهاك ما قاله: رواية الحديث بالمعنى واختلاف العلماء في ذلك " اختلف العلماء في رواية الحديث بالمعنى. فذهب قوم إلى عدم جواز ذلك مطلقا منهم ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي، ويروى ذلك عن ابن عمر.
وذهب الأكثرون إلى جواز ذلك - إذا كان الراوي عارفا بدقائق الألفاظ بصيرا بمقدار التفاوت بينها، خبيرا بما يحيل معانيها فإذا أبدل اللفظ الذي بلغه بلفظ آخر مقامه بحيث يكون معناه مطابقا لمعنى اللفظ الذي بلغه جاز ذلك.
وقد تعرض لهذه المسألة علماء الأصول - ولما كانت من المسائل المهمة جدا فقد أحببت أن أروى من عباراتهم هنا ما يكون فيه الكفاية: قال أبو إسحاق الشيرازي في اللمع: والاختيار في الرواية أن يروي الخبر بلفظه، لقوله صلى الله عليه وسلم نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فإن أورد الرواية نظر! فإن كان ممن لا يعرف معنى الحديث لم يجز لأنه لا يؤمن أن يغير معنى الحديث، وإن كان ممن يعرف معنى الحديث نظر! فإن كان ذلك في خبر محتمل لم يجز أن يروي بالمعنى، لأنه ربما نقله بلفظ لا يؤدي مراد الرسول فلا يجوز أن يتصرف فيه، إن كان خبرا ظاهرا ففيه وجهان: من أصحابنا من قال: لا يجوز، لأنه ربما كان التعبد باللفظ كتكبير الصلاة، والثاني أنه يجوز. وهو الأظهر لأنه يؤدي معناه ولهذا روى عن النبي أنه قال: إذا أصبت المعنى فلا بأس. وهذا الحديث قد رواه ابن منده في معرفة الصحابة والطبراني في المعجم الكبير من حديث عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي قال: قلت يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك، يزيد حرفا أو ينقص حرفا، فقال: " إذا لم تحلوا حراما ولم تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس " فذكر للحسن فقال: لولا هذا ما حدثنا. وقد احتج من منع الرواية بالمعنى بالنص والمعقول، أما النص فقوله عليه السلام " رحم الله أمرا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع " قالوا: وأداؤه كما سمع هو أداء اللفظ المسموع، ونقل الفقيه إلى من هو أفقه منه معناه - والله أعلم - أن الأفطن ربما فطن بفضل فقهه من فوائد اللفظ بما لم يفطن له الراوي، لأنه ربما كان دونه في الفقه.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول - إنا لما جربنا رأينا أن المتأخر ربما استنبط من فوائد آية أو خبر ما لم يتنبه له أهل الأعصار السالفة من العلماء والمحققين - فلو جوزنا النقل بالمعنى فربما حصل التفاوت العظيم، مع أن الراوي يظن أن لا تفاوت. الثاني - أنه لو جاز للراوي تبديل لفظ الرسول بلفظ نفسه، كان للراوي الثاني تبديل اللفظ الذي سمعه بلفظ نفسه - بل هذا أولى لأن تبديل لفظ الراوي أولى بالجواز من تبديل لفظ الشارع، وإن كان ذلك في الطبقة الثالثة والرابعة فذلك يفضي إلى سقوط الكلام الأول، لأن الإنسان وإن اجتهد في تطبيق الترجمة لكن لا ينفك عن تفاوت وإن قل، فإذا توالت التفاوتات كان التفاوت الأخير تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة. وقال القرافي في شرح تنقيح الفصول في الأصول: ونقل الخبر بالمعنى عند أبي الحسين وأبي حنيفة والشافعي جائز خلافا لابن سيرين وبعض المحدثين بشروط أن لا تزيد الترجمة ولا تنقص ولا تكون أخفى ولا أجلى - لأن المقصود إنما هو إيصال المعاني فلا يضر فوات غيرها، ومتى زادت عبارة الراوي أو نقصت فقد زاد الشرع أو نقص، وذلك حرام إجماعا - ومتى كانت عبارة الحديث جلية فغيرها بعبارة خفية، فقد أوقع في الحديث وهنا يوجب تقديم غيره عليه بسبب خفائه، فإن الأحاديث إذا تعارضت في الحكم الواحد، يقدم أجلاها على أخفاها فإذا كان أصل الحديث جليا فأبدله بخفي فقد أبطل منه مزية حسنة تخل به عند التعارض، وكذلك إذا كان الحديث خفي العبارة فأبدلها بأجلى منها، فقد أوجب له حكم التقديم على غيره - وحكم الله أن يقدم غيره عليه عند التعارض، فقد تسبب بهذا التغيير في العبارة إلى تغيير حكم الله تعالى - وذلك لا يجوز - فهذا هو مستند هذه الشروط فإذا حصلت هذه الشروط فحينئذ يجري الخلاف في الجواز، أما عند عدمها فلا يجوز إجماعا.
ومن حجج المانعين حديث البراء بن عازب. وحجة " الجواز " أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسمعون الأحاديث ولا يكتبونها ولا يكررون عليها، ثم يروونها بعد السنين الكثيرة ومثل هذا يجزم الإنسان فيه بأن نفس العبارة لا تنضبط بل المعنى فقط، ولأن أحاديث كثيرة وقعت بعبارات مختلفة وذلك مع اتحاد القصة! وهو دليل جواز النقل بالمعنى، ولأن لفظ السنة ليس متعبدا به، بخلاف لفظ القرآن، فإذا " ضبط المعنى " فلا يضر فوات ما ليس بمقصود. وقال القاسمي في كتابه " قواعد التحديث ": رخص في سوق الحديث بالمعنى دون سياقه جماعة منهم: علي وابن عباس وأنس بن مالك وأبو الدرداء وواثلة بن الأسقع وأبو هريرة ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم، منهم إمام الأئمة حسن البصري ثم الشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة.
وقد اختلفت ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فمنهم من يرويه تاما، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصرا، وبعضهم يغاير بين اللفظين ويراه واسعا إذا لم يخالف المعنى، وكلهم لا يتعمد الكذب وجميعهم يقصد الصدق، ومعنى ما سمع، فلذلك وسعهم، وكانوا يقولون " إنما الكذب على من تعمده "، وقد روى عن عمران بن مسلم قال: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد إنما تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقا، وأجود تحبيرا، وأفصح به لسانا منه إذا حدثنا به! فقال، إذا أصبت المعنى فلا بأس بذلك. وقد قال النضر بن شميل: " كان هشيم لحانا فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة - يعني بالإعراب - وكان النضر بن شميل نحويا وكان سفيان يقول: " إذا رأيت الرجل يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس فاعلم أنه يقول: اعرفوني! وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه فقال له يحيى: يا هذا، ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى - قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف، فلا تشدد " وروى البيهقي عن مكحول قال دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله ليس فيه وهم ولا تزيد ولا نسيان! فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا؟ فقلنا: نعم وما نحن له بحافظين جدا، إنا نزيد الواو والألف وننقص، فقال: هذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظا، وإنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عسى ألا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة؟ حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى. وكان ابن أبي ليلى يروي الشيء مرة هكذا ومرة هكذا بغير إسناد - وإنما جاء هذا من جهة حفظه، لأن أكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون، ومن كتب منهم فإنما كان يكتب لهم بعد السماع، وكان كثير منهم يروي بالمعنى فكثيرا ما يعبر عنه بلفظ من عنده فيأتي قاصرا عن أداء المعنى بتمامه، وكثيرا ما يكون أدنى تغيير محيلا له وموجبا لوقوع الإشكال فيه - وقد أجاز الجمهور الرواية بالمعنى.
وفي سنن الترمذي - عن مكحول عن واثلة بن الأسقع قال: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم، ورواية الذهبي في سير أعلام النبلاء: إذا حدثتكم بالحديث على معناه فحسبكم. وقال وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال: إذا أصبت المعنى أجزأك، وقال: إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس، وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والاتقان والتثبت عند السماع - مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة.
وقال سفيان الثوري إن قلت إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني فإنما هو المعنى، وقيل له: يا أبا عبد الله، حدثنا كما سمعت. قال: والله ما إليه سبيل، وما هو إلا المعاني. ومن قوله: لو أردنا أن نحدثكم بالحديث كما سمعناه ما حدثناكم بحديث واحد! وقد قال الثقات من العلماء: إن الأولى هو إيراد الحديث بألفاظه دون التصرف فيه. ولكن أنى ذلك وقد جرى الأمر على غير الأولى! قال القاضي عياض: " ينبغي سد باب الرواية بالمعنى لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن، كما وقع لكثير من الرواية قديما وحديثا والله الموفق! ومما ذكره المحققون، أن الرواية بالمعنى لا تكون فيما يتعبد فيه باللفظ كالتكبير والتشهدات.
على أن التشهدات قد وردت بألفاظ مختلفة وإليك أكثرها.
صيغ التشهدات:
تشهد ابن مسعود: في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله التشهد وكفي بكفه كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - وكذلك رواه أصحاب السنن. وفي رواية: " ولقنيه كلمة كلمة " وفي رواية: إذا قلت هذا، أو قضيت هذا، فقد قضيت صلاتك - وقد اختاره أبو حنيفة وأحمد وأصحاب الحديث وأكثر العلماء.
تشهد ابن عباس: روى مسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس وكذلك روى الشافعي في الأم قال: كان رسول الله يعلمنا كما يعلمنا السورة من القرآن فيقول، قولوا: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
تشهد عمر بن الخطاب: روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يقول، قولوا: التحيات الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله. ورواية السرخسي في المبسوط: التحيات الناميات الزاكيات المباركات الطيبات لله. قال مالك: أفضل التشهد تشهد عمر بن الخطاب، لأن عمر قاله على المنبر بمحضر من الصحابة فلم ينكروه عليه إجماعا، ورواه أبو داود وابن مردويه مرفوعا.
تشهد أبي سعيد الخدري: التحيات الصلوات الطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. قال أبو سعيد: وكنا لا نكتب إلا القرآن والتشهد!
تشهد جابر: وفي حديث جابر المرفوع عند النسائي وابن ماجة والترمذي في العلل بلفظ: كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن " باسم الله وبالله التحيات إلخ وصححه الحاكم.
تشهد عائشة: روى مالك في الموطأ عن عائشة زوج النبي أنها كانت تقول إذا تشهدت: التحيات الطيبات الزاكيات لله. فتسقط (لله) عقب التحيات والصلوات بخلاف ما في حديث عمر وابن مسعود من إثباتهما، وهي مرفوعة، وزادت على حديث عمر " وحده لا شريك له " وكذلك ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى مرفوعا عند مسلم.
تشهد أبي موسى الأشعري: روى مسلم وأبو داود أن التشهد عند أبي موسى " التحيات الطيبات الصلوات لله ". وفيه " وحده لا شريك له ".
تشهد سمرة بن جندب: التحيات الطيبات والصلوات والملك لله إلخ. تشهد ابن عمر: روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتشهد فيقول باسم الله (في أوله) التحيات لله الصلوات لله السلام على النبي بإسقاط (كاف الخطاب ولفظ أيها) إلخ وقال فيه: " فإذا قضى تشهده وأراد أن يسلم قال السلام على النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وهذه زيادة تكرير في التشهد. ورواية " السلام على النبي " التي جاءت في هذا التشهد - قد وردت في رواية البخاري عن ابن مسعود في " باب الاستئذان " فقد قال في آخره: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وهو بين ظهرانينا فلما قضى (صلى الله عليه وسلم) قلنا السلام على النبي. وقد علق ابن حجر على ذلك بقوله: ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه (صلى الله عليه وسلم) فيقال بلفظ الخطاب وأما بعده فيقال بلفظ الغيبة، وفي الاستئذان في صحيح البخاري من طريق أبي معمر عن ابن مسعود بعد أن ساق حديث التشهد قال: وهو بين ظهرانينا فلما قضى قلنا السلام يعني على النبي.
وقال السبكي في شرح المنهاج: إن صح هذا عن الصحابة دل على أن الخطاب في السلام بعد النبي غير واجب فيقال السلام على النبي - قال الحافظ قد صح بلا ريب. قال عبد الرازق: أخبرنا ابن جريج أخبرنا عطاء أن الصحابة كانوا يقرءون والنبي " حي " السلام عليك أيها النبي فلما مات قالوا: السلام على النبي وهذا إسناد صحيح.
ولهذا الاختلاف قال القاضي: هذا يدل على أنه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بعض التشهدات المروية صح التشهد، فعلى هذا يجوز أن يقال: أقل ما يجزئ في التشهد " التحيات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - أو أن محمدا رسول الله ".
هذه تشهدات تعسة وردت عن الصحابة وقد اختلفت ألفاظها، ولو أنها كانت من الأحاديث القولية التي رويت بالمعنى لقلنا عسى! ولكنها من الأعمال المتواترة التي كان يؤديها كل صحابي مرات كثيرة كل يوم وهم يعدون بعشرات الألوف، ومما يلفت النظر أن كل صاحب تشهد يقول، إن الرسول كان يعلمه التشهد كما يعلمهم القرآن، وأن تشهد عمر قد ألقاه من فوق منبر رسول الله والصحابة جميعا يسمعون فلم ينكر عليه أحد منهم ما قال، كما ذكر مالك في الموطأ. ومما يلفت النظر كذلك، أن هذه التشهدات على تباين ألفاظها وتعدد صيغها وكثرة رواتها، قد خلت كلها من الصلاة على النبي فكأن الصحابة كانوا كما قال إبراهيم النخعي يكتفون بالتشهد والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله.
ولقد اختلفت الأئمة في وجوب الصلاة على النبي في الصلاة المفروضة فأبو حنيفة وأصحابه لا يوجبونها فيها وأما الشافعي فقد جعلها شرطا! وفي البحر الزاخر لابن نجيم: وأما موجب الأمر في قوله تعالى: " صلوا عليه " فهو افتراضها في العمر مرة واحدة في الصلاة أو خارجها، لأن الأمر لا يقتضي التكرار وهذا بلا خلاف.
وقد قال بذلك السرخسي في المبسوط وابن همام في شرح فتح القدير والقسطلاني في إرشاد الساري. وقال القاضي عياض في الشفاء، وقد شذ الشافعي فقال من لم يصل على فصلاته فاسدة، ولا سلطان له في هذا القول ولا سنة يتبعها، وشنع عليه في ذلك جماعة منهم الطبري والقشيري، وخالفه من أهل مذهبه الخطابي فقال إنها ليست بواجبة ولا أعلم له فيها قدوة، والتشهدات المرويات عن الصحابة لم يذكر فيها ذلك أما حديث " لا صلاة لمن لم يصل على " فقد ضعفه أهل الحديث، وحديث ابن مسعود " من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه " فقد قال الدار قطني إنه من قول أبي جعفر محمد الباقر بن علي وبن الحسين. ونص قوله: لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم.... وكلمة التوحيد وما قاله هؤلاء الأئمة في الصلاة على النبي، قد جاء مثله في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله). قال العلامة سعيد بن حجى في رسالة " الكلام المنتقى فيما يتعلق بكلمة التقوى - لا إله إلا الله ". وأما حكمها فقال " في فاكهة القلوب والأفواه ": " أما المؤمن بالأصالة فيجب أن يذكرها مرة في عمره، وينوي بها الوجوب ". ولا نطيل في ذلك حتى نستطرد إلى ما ليس من موضوعنا. وقال الفقيه المحدث رشيد رضا رحمه الله عند كلامه على أحاديث أشراط الساعة في تفسيره.
" لا شك في أن أكثر الأحاديث قد روى بالمعنى كما هو معلوم واتفق عليه العلماء، ويدل عليه اختلاف رواة الصحاح في ألفاظ الحديث الواحد حتى المختصر منها، وما دخل على بعض هذه الأحاديث (في المدرجات) وهي ما يدرج في اللفظ المرفوع من كلام الرواة فعلى هذا، كان يروي كل أحد ما فهمه، وربم وقع في فهمه الخطأ وربما فسر بعض ما فهمه، بألفاظ يزيدها، إلى أن قال: فهل من الغرابة أن يقع الخلط والتعارض فيما يروى عنه بالمعنى بقدر فهم الرواة؟ وسئل رحمه الله عن رأيه فيمن قال: إنه لم يثبت عن النبي إلا 12 أو 14 حديثا فأجاب: هذا القول غير صحيح، ولم يقل به أحد بهذا اللفظ، وإنما قيل هذا أو ما دونه، في الأحاديث التي تواتر لفظها.
ولا بأس من أن نثبت هنا كلمة لنا نشرناها في العدد 957 من مجلة الرسالة الصادر في 5 نوفمبر سنة 1951 تصحيحا لما نشره الأستاذ عبد السلام هارون في كتاب البيان والتبيين للجاحظ وها هي ذي: هو سماع الحديث لا سماع الغناء! يعثر الإنسان أحيانا أثناء مطالعاته في الصحف على أشياء تستدعي النقد، وتستوجب التصحيح فيتجاوزها ولا يعني بها، لأنه إذا تولى نقد أو تصحيح كل ما يعثر عليه من الغلط فإنه لا يجد من الوقت ما يسعه، ولا من هدوء البال ما يعينه، وقد ينشط أحيانا فينهض لبيان ما يجد من خطأ، وبخاصة عندما يقف على أمر لا يصح السكوت عليه أو الإغضاء عنه. ومن ذلك أني كنت أقرأ في الجزء الثاني من كتاب " البيان والتبيين " للجاحظ الذي خرج بتحقيق وشرح الأستاذ عبد السلام هارون فإذا بي أجد في الصفحة 322 من هذا الجزء ما يلي: " وقال ابن عون: أدركت ثلاثة يتشددون في السماع، وثلاثة يتساهلون (في المغانى) فأما الذين يتساهلون، فالحسن والشعبي والنخعي، وأما الذين يتشددون، فمحمد بن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة ".
وقد حسب الأستاذ هارون أن السماع في هذا الخبر هو سماع الأغاني! فآثر كلمة " المغانى " بالمعجمة التي وجدها في بعض نسخ الأصول، على لفظها بالمهملة التي جاءت بأصول أخرى، وأخذ يفسرها على ما ظن تفسيرا لا أدري إن كان يرضى أئمة اللغة أم يغضبهم! فقال في شرح الكلمة: " المغانى جمع مغنى مصدر ميمى من غنى يغنى! وفي التيمورية المعاني بالمهملة تحريف، أي أن هذه الكلمة قد جاءت في نسخة مكتبة كوبرلى والنسخة التيمورية بالمهملة وهو تحريف. والذي قال عنه الأستاذ إنه تحريف هو الصحيح، وإن صحة الكلمة المعاني بالمهملة كما جاءت بهاتين النسختين، والسماع هنا هو سماع الحديث النبوي، لا سماع الأغاني! وقد جاءت عبارة ابن عون هذه، لأن نقل حديث رسول الله على حقيقة لفظه أو بمعناه، كان موضع خلاف بين الصحابة، ثم امتد هذا الخلاف إلى التابعين ومن بعدهم، فكان من الصحابة الذين يجوزون رواية الحديث بالمعنى، كما يقولون، على وابن عباس وأنس وجماعة معهم. وكان الذي يمنع ذلك ابن عمر، أما التابعون فكان الذين يتشددون في رواية الحديث على لفظه محمد بن سيرين والقاسم ابن محمد ورجاء بن حيوة، والذين يتساهلون في ذلك الحسن والشعبي والنخعي ، ومن هنا جاءت كلمة ابن عون التي رواها الجاحظ وأخطأ في فهمها الأستاذ عبد السلام هارون...
أمثلة من رواية الحديث بالمعنى:
حديث الإسلام والإيمان
روى مسلم عن طلحة بن عبيد الله: جاء رجل إلى رسول الله من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله: خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل على غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل على غيره؟ فقال: لا إلا أن تطوع. وذكر له رسول الله الزكاة. فقال، هل على غيرها؟ فقال: لا، إلا أن تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه. فقال رسول الله أفلح إن صدق، وفي رواية أخرى أفلح وأبيه إن صدق، وفي رواية ثالثة دخل الجنة وأبيه إن صدق.
وعن أبي هريرة في حديث جبريل. قال رسول الله: سلوني فهابوه فجاء رجل فجلس عند ركبتيه وقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئا. وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان. قال: صدقت، ثم قال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالغيب، وتؤمن بالقدر كله قال: صدقت، قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك إلخ.
وقد تكلمنا عن هذا الحديث في كتابنا " شيخ المضيرة " فيرجع إليه ويقرأ ما قاله الدكتور طه حسين فيه. وعن أبي أيوب قال: جاء رجل إلى النبي فقال: دلني على عمل أعمله يدنيني من الجنة، ويباعدني من النار. قال: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك. قال رسول الله: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة.
وفي رواية ابن أبي شيبة إن تمسك به. وعن أبي هريرة: أن أعرابيا جاء إلى رسول الله فقال يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئا ولا أنقص منه. فلما ولى قال النبي: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
قال الإمام النووي معلقا على هذه الأحاديث ما نصه: " اعلم أنه لم يأت في حديث طلحة - ذكر (الحج) ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غير هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها " الصوم " ولم يذكر في بعضها " الزكاة " وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر " الإيمان " - فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصا وإثباتا وحذفا.
وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح وهذبه فقال: ليس هذا باختلاف صادر من رسول الله. بل هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وإن كان اقتصاره على ذلك يشعر بأنه (الكل) فقد بان بما أتى به غيره من الثقات أن ذلك ليس " بالكل " وأن اقتصاره عليه كان لقصور حفظه عن تمامه.
ألا ترى حديث النعمان بن توقل الذى اختلفت الرواية في خصاله بالزيادة والنقصان، مع أن راوي الجميع راو واحد؟! وهذا هو حديث النعمان بن توقل: عن أبي سفيان عن جابر أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) النعمان بن توقل فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال أأدخل الجنة؟ فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): نعم.
وعن الأعمش عن أبي صالح وأبي سفيان عن جابر قال: قال النعمان بن توقل: يا رسول الله بمثله، وزادا فيه، ولم أزد على ذلك شيئا.
حديث زوجتكها بما معك جاءت امرأة إلى النبي وأرادت أن تهب نفسها له، فتقدم رجل فقال: يا رسول الله: أنكحنيها؟ ولم يكن معه من المهر غير بعض القرآن، فقال له النبي: أنكحتكها بما معك من القرآن، وفي رواية: " قد زوجتكها بما معك من القرآن " وفي رواية ثالثة: " زوجتكها على ما معك " وفي رواية رابعة: " قد ملكتكها بما معك "، وفي رواية خامسة: " قد ملكتكها بما معك من القرآن " وفي رواية سادسة: " أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها "، وفي رواية سابعة: " أمكناكها.. ". وفي رواية ثامنة: " خذها بما معك " فهذه اختلافات ثمانية - في لفظة واحدة.
قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة واختلف فيها مع اتحاد مخرج الحديث! وقال العلائي: من المعلوم أن النبي لم يقل هذه الألفاظ كلها تلك الساعة فلم يبق إلا أن يكون قال لفظة منها، وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى، فمن قال بأن النكاح ينعقد بلفظ التملك ثم احتج بمجيئه في هذا الحديث، إذا عورض ببقية الألفاظ لم ينتهض احتجاجه! فإن جزم بأنه هو الذي تلفظ به النبي - ومن قال غيره ذكره بالمعنى! - قلبه عليه مخالفه وادعى ضد دعواه، فلم يبق إلا الترجيح بأمر خارجي. وهذا الحديث ومثله كان مما دعا سيبويه وغيره إلى عدم جعلهم الحديث من شواهدهم في إثبات اللغة والنحو كما ستراه في محله من هذا الكتاب.
حديث الصلاة في بني قريظة:
روى البخاري عن ابن عمر أن النبي قال يوم الأحزاب: لا يصلين أحد " العصر " إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم. قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري ووقع في جميع النسخ عند مسلم " الظهر " مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد واحد، وقد وافق مسلما أبو يعلى وآخرون، وكذا أخرجه ابن سعد، وأما أصحاب المغازي فقد اتفقوا على أنها العصر. ثم قال ابن حجر بعد ذلك: إن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك، بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيرا، ولم يجوز مثله لموافقة من وافق مسلما على لفظه بخلاف البخاري.
وقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى كتب السنة. قال العراقي في شرح ألفيته: إن البيهقي في السنن والمعرفة والبغوي في شرح السنة وغيرهما، يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم، ثم يعزونه إلى البخاري ومسلم مع إختلاف الألفاظ والمعاني، فهم إنما يريدون أصل الحديث لا عزو ألفاظه ا ه.
ومن هذا القبيل قول النووي في حديث " الأئمة من قريش " أخرجه الشيخان مع أن لفظ الصحيح " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " وبين اللفظين والمعنيين تفاوت عظيم كما ترى ا ه.
حديث تأبير النخيل روى مسلم في كتابه عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: مررت مع رسول الله بقوم على رؤوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقلت: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح! فقال رسول الله: ما أظن يغني ذلك شيئا! قال: فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل. وعن رافع بن خديج قال: قدم نبي الله المدينة وهم يأبرون النخل فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا، قال: فتركوه فنفضت، أو قال فنقصت، قال: فذكروا ذلك له فقال: إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر. رواه مسلم والنسائي.
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وعن أنس، أن النبي مر بقوم يلقحون فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا: فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم. وفي رواية أحمد: ما كان أمر دينكم فإلي، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، وفي رواية رويت عن ابن رشد في كتاب التحصيل والبيان " ما أنا بزارع ولا صاحب نخل ".
حديث صحيفة علي رضي الله عنه:
هذا الحديث رواه الجماعة أحمد والشيخان وأصحاب السنن بألفاظ مختلفة. أما البخاري فقد رواه عن أبي جحيفة في كتاب العلم بلفظ قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهما أعطيه رجلا مسلما، أو ما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر. ورواية الكشميهنى " وإن لا يقتل " إلخ.
وفي كتاب الجهاد بلفظ: قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي، إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، وما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة؟ قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر. وفي باب الديات: سألت عليا رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتابه، وما في هذه الصحيفة. قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير إلخ.
وفي باب حرم المدينة من كتاب الحج عن إبراهيم التيمي عن أبيه بلفظ ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) " المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل " وقال: " ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولى بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل ".
وفي باب ذمة المسلمين من كتاب الجزية بلفظ، خطبنا علي فقال: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، قالوا، وما في هذه الصحيفة فقال، فيها الجراحات وأسنان الإبل والمدينة حرام ما بين عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى فيها محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك، وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه مثل ذلك.
وفي باب إثم من عاهد ثم غدر بلفظ، عن علي قال: ما كتبنا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا القرآن وما في هذه الصحيفة: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. وفي باب إثم من تبرأ من مواليه بلفظ: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وغير هذه الصحيفة، وأخرجها فإذا فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل، وفيها - المدينة حرام إلخ وذكر مسألة الولاء فمسألة الذمة بمثل ما تقدم. وفي باب كراهة التعمق والتنازع والغلو في الدين من كتاب الاعتصام بلفظ: خطبنا علي على منبر من آجر فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم من عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله... وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر فعليه... وإذا فيها: من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه... (إلا أنه قال): لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (هذه روايات البخاري). وروايات مسلم وأصحاب السنن بمعنى روايات البخاري - وصرح مسلم بحدي المدينة، وهما عير وثور (جبلان) وقال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث علي رضي الله عنه من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه: إن الصحيفة كانت مشتملة على كل ما ورد - أي فكان يذكر كل راو منها شيئا، إما لاقتضاء الحال ذكره دون غيره، وإما لأن بعضهم لم يحفظ كل ما فيها، أو لم يسمعه، ولا شك أنهم نقلوا ما نقلوه بالمعنى دون التزام اللفظ كله، ولذلك وقع الخلاف في ألفاظهم، ولم يقل الرواة " إنه قرأها عليهم " برمتها فحفظوها أو كتبوها عنه بل (تدل ألفاظهم) على أنه كان يذكر ما فيها أو بعضه من حفظه، ومن قرأها لهم كلها أو بعضها لم يكتبوها، بل حدثوا بما حفظوا، ومنه ما هو من لفظ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومنه ما هو إجمال للمعنى كقوله " العقل وفكاك الأسير " فإن المراد بالعقل دية القتل وسميت عقلا لأن الأصل فيها أن تكون إبلا تعقل أي تربط بالعقل في فناء دار المقتول أو عصبته المستحقين لها، وقوله (أسنان الإبل) في بعض الروايات، معناه ما يشترط في أسنان إبل الدية أو الصدقة إلخ...
وجملة القول: أننا لا نعلم أن أحدا كتب عن أمير المؤمنين ما كان في تلك الصحيفة بنصه، ولا أنه هو كتبها بأمر النبي (صلى الله عليه وسلم) لأنه قال في رواية قتادة عن أبي حسان إنه سمع شيئا فكتبه. ا ه باختصار.
وإذا كان لنا من كلمة نعلق بها على أمر هذه الصحيفة المنسوبة إلى علي رضي الله عنه - وما جاء فيها من روايات مختلفة في كتب الحديث فهي أننا لا نطمئن إلى ما جاء فيها من روايات مهما كان رواتها، وبحسبك أن تجد ابن حجر قد قال في هذه الروايات ما قال. ومرد شكنا إلى أن عليا رضي الله عنه إذا كان قد أراد أن يكتب عن رسول الله ما يراه نافعا للدين وللمسلمين فلا تكفيه مثل هذه الصحيفة التي كان يضعها كما يقولون في قراب سيفه وإنما كان يكتب آلاف الأحاديث في جميع ما يهم المسلمين وهو صادق في كل ما يكتب إذا أراد، على أننا قد أفدنا من أخبار هذه الصحيفة فائدة كبيرة إذ أثبتت لنا كيف تفعل الرواية بالمعنى فعلها، وأنها كانت ضررا على الدين وعلى اللغة والأدب كما سنبينه قريبا إن شاء الله. ونختم هذا الفصل بكلمة صغيرة جامعة للحافظ ابن كثير جاءت في كتاب الباعث الحثيث ، قال بعد أن تكلم عمن جوزوا رواية الحديث بالمعنى: " ومنع الرواية بالمعنى طائفة آخرون من المحدثين والفقهاء والأصوليين، وشددوا في ذلك آكد التشديد - وكان ينبغي أن يكون هذا هو الواقع، ولكن لم يتفق ذلك " وذلك لأن الذي جرى عليه الأمر، هو رواية الحديث بالمعنى، وهو ما تجده في جميع كتب الحديث بلا استثناء. وستعرف من تاريخ البخاري أنه ممن كانوا يروون بالمعنى - ويراجع فصل " موقف النحاة من كتب الحديث " في موضعه من هذا الكتاب.
ضرر رواية الحديث بالمعنى:
لما كانت أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم) قد جاء نقلها بالمعنى - كما بينا من قبل - وأنهم قد أباحوا لرواتها أن يزيدوا فيها ويختصروا منها، وأن يقدموا ويؤخروا في ألفاظها - بله ما سوغوه من قبول الملحون منها - لما كان الأمر قد جرى على ذلك فقد نشأ من أثر ذلك كله - ولا جرم وبخاصة بسبب نقل الحديث بالمعنى - ضرر عظيم. وقال العلامة الجزائري في كتابه " توجيه النظر ".
[بعد البحث والتتبع تبين أن كثيرا ممن روى بالمعنى قد قصر في الأداء ولذلك قال بعضهم: ينبغي سد باب الرواية بالمعنى لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن، كما وقع لكثير من الرواة قديما وحديثا. وقد نشأ عن الرواية بالمعنى ضرر عظيم حتى عد من جملة أسباب اختلاف الأمة، قال بعض المؤلفين في ذلك في مقدمة كتابه: إن الخلاف قد عرض للأمة من " ثمانية أوجه "، وجميع وجوه الخلاف متولدة منها، ومتفرعة عنها.
" الأول " منها اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة،
" الثاني " الحقيقة والمجاز،
" الثالث " الإفراد والتركيب،
" الرابع " الخصوص والعموم،
" الخامس " الرواية والنقل،
" السادس " الاجتهاد فيما لا نص فيه،
" السابع " الناسخ والمنسوخ،
" الثامن " الإباحة والتوسيع –
وقال في باب الخلاف العارض من جهة الرواية والنقل: هذا الباب لا تتم الفائدة التي قصدناها منه إلا بمعرفة العلل التي تعرض للحديث فتحيل معناه، فر بما أوهمت فيه معارضة بعضه لبعض، وربما ولدت فيه إشكالا يحوج العلماء إلى طلب التأويل البعيد. ونحن نذكر العلل كم هي؟
ونذكر من كل نوع منها مثالا أو أمثلة يستدل بها على غيرها إن شاء الله.
قال البطليوسي: اعلم أن الحديث المأثور عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعن أصحابه والتابعين لهم، تعرض له " ثماني علل "
- أولاها: فساد الإسناد،
(الثانية) من جهة نقل الحديث على معناه دون لفظه،
(والثالثة) من جهة الجهل بالإعراب،
(والرابعة) من جهة التصحيف،
(والخامسة) من جهة إسقاط شيء في الحديث لا يتم المعنى إلا به،
(والسادسة) أن ينقل المحدث الحديث ويغفل نقل السبب الموجب له، أو بسط الأمر الذي جر ذكره، (السابعة) أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه،
(الثامنة) نقل الحديث من الصحف دون المشايخ.
العلة الأولى وهي فساد الإسناد، وهذه العلة أشهر العلل عند الناس حتى إن كثيرا منهم يتوهم أنه إذا صح الإسناد صح الحديث! وليس كذلك فإنه قد يتفق أن يكون رواة الحديث مشهورين بالعدالة، معروفين بصحة الدين والأمانة، غير مطعون عليهم، ولا مستراب بنقلهم، ويعرض مع ذلك لأحاديثهم أعراض على وجوه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك - والإسناد يعرض له الفساد من أوجه: (منها) الإرسال وعدم الاتصال، (ومنها) أن يكون بعض رواته صاحب بدعة، أو متهما بكذب وقلة ثقة، أو مشهورا ببله وغفلة، أو يكون متعصبا لبعض الصحابة منحرفا عن بعضهم، فإن كان مشهورا بالتعصب ثم روى حديثا في تفضيل من يتعصب له، ولم يرد من غير طريقه، لزم أن يستراب به، وذلك أن إفراط عصبية الإنسان لمن يتعصب له وشدة محبته يحمله على افتعال الحديث، وإن لم يفتعله بدله وغير بعض حروفه...
ومما يبعث على الاسترابة بنقل الناقل أن يعلم منه حرص على الدنيا وتهافت على الاتصال بالملوك ونيل المكانة والحظوة عندهم - فإن من كان بهذه الصفة لم يؤمن عليه التغيير والتبديل والافتعال للحديث والكذب حرصا على مكسب يحصل عليه.
وقد نبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على نحو هذا الذي ذكرنا بقوله: إن الأحاديث ستكثر بعدي كما كثرت عن الأنبياء قبلي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه كتاب الله فهو عني قلته أو لم أقله.
وقد روي أن قوما من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوا الإسلام قد ظهر وعم ودوخ وأذل جميع الأمم، ورأوا أنه لا سبيل إلى مناصبته، رجعوا إلى الحيلة والمكيدة فأظهروا الإسلام من غير رغبة فيه، وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف، فلما حمد الناس طريقتهم ولدوا الأحاديث والمقالات، وفرقوا الناس فرقا...
وإذا كان عمر بن الخطاب يتشدد في الحديث ويتوعد عليه والزمان زمان، والصحابة متوافرون، والبدع لم تظهر، والناس في القرن الذي أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بالحال في الأزمنة التي ذمها! وقد كثرت البدع وقلت الأمانة...
العلة الثانية وهي نقل الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه - وهذا الباب يعظم الغلط فيه جدا. وقد نشأت منه بين الناس شغوب شنيعة، وذاك أن أكثر المحدثين لا يراعون ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم التي نطق بها، وإنما ينقلون إلى من بعدهم معنى ما أراده بألفاظ أخرى، ولذلك نجد الحديث الواحد في المعنى الواحد يرد بألفاظ شتى، ولغات مختلفة، يزيد بعض ألفاظها على بعض. على أن اختلاف ألفاظ الحديث قد تعرض من أجل تكرير النبي (صلى الله عليه وسلم) له في مجالس عدة مختلفة وما كان من الحديث بهذه الصفة فليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا في اختلاف الألفاظ التي تعرض من أجل نقل الحديث على المعنى. ووجه الغلط الواقع من هذه الجهة، أن الناس يتفاضلون في صورهم وألوانهم وغير ذلك من أمورهم وأحوالهم، فربما اتفق أن يسمع الراوي الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره، فيتصور معناه في نفسه على غير الجهة التي أرادها، وإذا عبر عن ذلك المعنى الذي تصور في نفسه بألفاظ أخرى، كان قد حدت بخلاف ما سمع من غير قصد منه إلى ذلك - وذلك أن الكلام الواحد قد يحتمل معنيين وثلاثة، وقد تكون فيه اللفظة المشتركة التي تقع على الشيء وضده، كقوله صلى الله عليه وسلم: " قصوا الشارب واعفوا اللحى " ففي مثل هذا يجوز أن يذهب النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المعنى الواحد ويذهب الراوي عنه إلى المعنى الآخر، فإذا أدى معنى ما سمع دون لفظه بعينه، كان قد روى عنه ضد ما أراده غير عامد، ولو أدى لفظه بعينه، لأوشك أن يفهم منه الآخر ما لم يفهم الأول، وقد علم (صلى الله عليه وسلم) أن هذا سيعرض بعده فقال محذرا من ذلك: " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها. فرب مبلغ أوعى من سامع "...
العلة الثالثة وهي الجهل بالإعراب ومباني كلام العرب ومجازاتها، وذلك أن كثيرا من رواة الحديث قوم جهال باللسان العربي لا يفرقون بين المرفوع والمنصوب والمخفوض. ولعمري لو أن العرب وضعت لكل معنى لفظا يؤدى عنه لا يلتبس بغيره، لكان لهم عذر في ترك تعلم الإعراب، ولم يكن بهم حاجة إليه في معرفة الخطأ من الصواب. ولكن العرب قد تفرق بين المعنيين المتضادين بالحركات فقط، واللفظ واحد - ألا ترى أن الفاعل والمفعول ليس بينهما أكثر من الرفع والنصب - فربما حدث المحدث بالحديث، فرفع لفظة منه ينوي بها أنها فاعلة، ونصب أخرى ينوي بها أنها مفعولة، فنقل عنه السامع ذلك الحديث فرفع ما نصب ونصب ما رفع جهلا منه بما بين الأمرين فانعكس المعنى إلى ضد ما أراده المحدث الأول.
العلة الرابعة وهي التصحيف، وهي أيضا باب عظيم الفساد في الحديث جدا - وذلك أن كثيرا من المحدثين لا يضبطون الحروف، ولكنهم يرسلونها إرسالا غير مقيدة ولا مثقفة اتكالا على الحفظ، فإذا غفل المحدث عما كتب مدة من زمانه ثم أحتاج إلى قراءة ما كتب، أو قرأه غيره، فربما رفع المنصوب، ونصب المرفوع - فانقلبت المعاني إلى أضدادها، وربما تصحف له الحرف بحرف آخر لعدم الضبط فيه، فانعكس المعنى إلى نقيض المراد به - وذلك أن هذا الخط العربي شديد الاشتباه، وربما لم يكن بين المعنيين المتضادين غير الحركة أو النقطة، كقولهم مكرم بكسر الراء إذا كان فاعلا، ومكرم بفتح الراء إذا كان مفعولا، ورجل أفرع بالفاء إذا كان تام الشعر، وأقرع بالقاف لا شعر في رأسه. وفي الحديث - كان رسول الله أفرغ. وقد جاءت من هذا الباب أشياء طريفة من المحدثين نحو ما يروى عن يزيد بن هارون أنه روي: كنا جلوسا حول بشر بن معاوية وإنما هو حول بسر بن معاوية، وكما روى عبد الرزاق: يقاتلون خور كرمان، وإنما هو خوز (بالزاي معجمة).
وهذا النوع كثير جدا وقد وضع فيه الدارقطني رحمه الله كتابا مشهورا سماه " تصحيف الحفاظ ". ومن ظريف ما وقع منه في كتاب مسلم ومسنده الصحيح: نحن يوم القيامة على كذا - أنظر - وهذا شيء لا يتحصل له معنى، وهكذا تجده في كثير من النسخ وإنما هو " نحن يوم القيامة على كوم) والكوم جمع كومة وهو المكان المشرف. فصحفه بعض النقلة فكتب: نحن يوم القيامة على كذا، فقرأ من قرأ فلم يفهم ما هو! فكتب في طرة الكتاب: انظر - يأمر قارئ الكتاب بالنطر فيه وينبهه عليه، فوجده ثالث فظنه من الكتاب فألحقه بمتنه.
العلة الخامسة وهي إسقاط شيء من الحديث لا يتم إلا به: وهذا النوع أيضا قد وردت منه أشياء كثيرة في الحديث كنحو ما رواه قوم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن ليلة الجن، فقال: ما شهدها منا أحد - وروي عنه من طريق آخر أنه رأى قوما من الزط فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن. فهذا الحديث يدل على أنه شهدها - والأول يدل على أنه لم يشهدها - فالحديثان كما ترى متعارضان - وإنما أوجب التعارض بينهما - إن الذي روى الحديث الأول أسقط منه كلمة رواها غيره - وإنما الحديث - ما شهدها منا أحد غيري.
العلة السادسة وهي أن ينقل المحدث الحديث ويغفل عن نقل السبب الموجب له فيعرض من ذلك إشكال في الحديث أو معارضة لحديث آخر، كنحو ما رواه قوم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالعرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وأغاروا على لقاحه فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وتركوا بالحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا. وقد وردت عنه الروايات من طرق شتى أنه نهى عن المثلة - وإنما عرض هذا التعارض من أجل أن الذي روى الحديث الأول أغفل نقل سببه الذي أوجبه، ورواه غيره فقال إنما فعل بهم ذلك لأنهم مثلوا برعائه فجازاهم بمثل فعلهم...
العلة السابعة وهي أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه: كنحو ما روي من أن عائشة رضي الله عنها، أخبرت أن أبا هريرة حدث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: " إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس "، وهذا الحديث معارض لقوله (صلى الله عليه وسلم): " لا عدوي ولا هامة ولا صفر ولا غول " - وقد روي في أحاديث عنه كثيرة أنه (صلى الله عليه وسلم) نهى عن التطير، فغضبت عائشة (رضي الله عنها) وقالت: والله ما قال هذا رسول الله قط، وإنما قال: " أهل الجاهلية يقولون إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس "، فدخل أبو هريرة فسمع الحديث ولم يسمع أوله - وهذا غير منكر أن يعرض لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يذكر في مجلسه الأخبار حكاية ويتكلم بما لا يريد به أمرا ولا نهيا ولا أن يجعله أصلا في دينه وشيئا يستسن به، وذلك معلوم من فعله، مشهور من قوله.
العلة الثامنة وهي نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ والسماع عن الأئمة - وهذا باب عظيم البلية والضرر في الدين فإن كثير من الناس يتسامحون فيه جدا وأكثرهم إنما يعول على إجازة الشيخ له دون لقائه، والضبط عليه يأخذ بعد ذلك علمه من الصحف المسودة والكتب التي لا يعلم بصحتها من سقمها. وربما كانت مخالفة لرواية شيخه، فيصحف الحروف، ويبدل الألفاظ، وينسب جميع ذلك إلى شيخه ظالما له - وقد صار علم أكثر الناس في زماننا هذا على هذه الصفة ليس بأيديهم من العلم غير أسماء الكتب ا ه باختصار.
إلى هنا ينتهي ما نقلناه من كتاب البطليوسي عن الخلاف العارض بين المسلمين من جهة الرواية، ونعود إلى العلامة الجزائري الذي وقف ينتظرنا لكي يسمعنا ما بقي من كلامه عن ضرر رواية الحديث بالمعني فإذا به يقول: واعلم أن الرواية بالمعنى قد أحس بضررها كثير من العلماء وشكوا منها على اختلاف علومهم، غير أن معظم ضررها كان في الحديث والفقه لعظم أمرهما. وقد نسب لكثير من العلماء الأعلام أقوال بعيدة عن السداد جدا اتخذها كثير من خصومهم ذريعة للطعن فيهم والإزراء بهم، ثم تبين بين البحث الشديد والتتبع أنهم لم يقولوا بها، وإنما نشأت نسبتها إليهم من أقوال رواها الراوي عنهم بالمعنى، فقصر في التعبير عما قالوه فكان من ذلك ما كان. هذا وقد تعرض العلامة النحرير نجم الدين أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي للضرر الذي نشأ من الرواية بالمعنى في مذهبه فقال في آخر كتاب " صفة المفتي " في باب جعله لبيان عيوب التأليف وغير ذلك ليعرف المفتي كيف يتصرف في المنقول ويقف على مراد القائل بما يقول، ليصح نقله للمذهب وعزوه إلى الإمام أو إلى بعض من إليه ينسب. " اعلم أن أعظم المحاذير في التأليف النقلي إهمال نقل الألفاظ بأعيانها والاكتفاء بنقل المعاني مع قصور الناقل عن استيفاء مراد المتكلم الأول بلفظه، وربما كانت بقية الأسباب مفرعة عنه، لأن القطع بحصول مراد المتكلم بكلامه، أو الكاتب بكتابته مع ثقة الراوي، تتوقف على انتفاء الاضمار والتخصيص والنسخ، والتقديم والتأخير، والاشتراك والتجوز والتقدير، والنقل، والمعارض العقلي، فكل نقل لا يؤمن معه حصول بعض الأسباب، لا نقطع بانتفائها نحن ولا الناقل، ولا نظن عدمها، ولا قرينة تنفيها ولا نجزم فيه بمراد المتكلم، بل ربما ظنناه أو توهمناه - ولو نقل لفظه بعينه وقرائنه وتأريخه وأسبابه انتفى هذا المحذور أو أكثره، وهذا من حيث الإجمال، وإنما يحصل الظن به حينئذ بنقل المتحري، فيعذر تارة لدعوى الحاجة إلى التصرف لأسباب ظاهرة، ويكفي ذلك في الأمور الظنية وأكثر المسائل الفروعية ا ه.
وإليك كلمات قيمة في رواية الحديث نستوفي بها هذا الفصل المهم من كتابنا: قال الخطابي: ولا يبدل لفظ بأظهر منه، إذ الشارع ربما قصد باللفظ الجلي تارة، وبالخفي أخرى، وكذا بالعكس. وقال ابن حزم: وحكم الخبر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يورد بنص لفظه، لا يبدل ولا يغير إلا في حال واحدة - وهي أن يكون المرء قد تثبت فيه، وعرف معناه يقينا، فيسأل فيفتى بمعناه وموجبه فيقول: حكم رسول الله بكذا، وأباح عليه السلام كذا، ونهى عن كذا، وحرم كذا، والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو كذا، وكذلك القول فيما جاء من الحكم في القرآن ولا فرق، وجائز أن يخبر المرء بموجب الآية: ويحكيها بغير لفظها - وهذا ما لا خلاف فيه من أحد في أن ذلك مباح، وأما من حدث وأسند القول إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فلا يحل له إلا تحري الألفاظ كما سمعها لا يبدل حرفا مكان آخر، وإن كان معناهما واحدا، ولا يقدم حرفا ولا يؤخر آخر - وكذلك من قصد تلاوة آية أو تعلمها ولا فرق. وبرهان ذلك، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) علم البراء بن عازب دعاء وفيه " ونبيك " الذي أرسلت، فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي قال وبرسولك الذي أرسلت، فقال النبي: " لا. ونبيك الذي أرسلت " فأمره (صلى الله عليه وسلم) أن لا يضع لفظة " رسول " - في موضع لفظة " نبي " وذلك حتى لا يحيل معنى، وهو عليه السلام رسول دين، فكيف يسوغ للجهال المغفلين أن يقولوا إنه عليه السلام كان يجيز أن يوضع في القرآن مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع عليم، وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا، والله يقول مخبرا عن نبيه: " ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي "، ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى.
بعثت بجوامع الكلم وقال ابن حجر العسقلاني في شرح قول الرسول صلوات الله عليه: " بعثت بجوامع الكلم " من فتح الباري ما من الأنبياء نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا، أوحاه الله إلى، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة. معنى الحصر في قوله " إنما كان الذي أوتيته ": أن القرآن أعظم المعجزات وأفيدها وأدومها، لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع إلى آخر الدهر - فلما كان لا شيء يقاربه فضلا عن أن يساويه، وكان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع، قيل: يؤخذ من إيراد البخاري هذا الحديث عقب الذي قبله - أي بعثت بجوامع الكلم - أن الراجح عنده أن المراد بجوامع الكلم القرآن، وليس ذلك بلازم، فإن دخول القرآن في قوله: " بعثت بجوامع الكلم " لا شك فيه - وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن؟ وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلام في القرآن قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون "، وقوله: " ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون " إلى غير ذلك.
ومن أمثلة جوامع الكلام من الأحاديث النبوية حديث عائشة: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " وحديث " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل "، وحديث " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " وحديث المقدام " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه " إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبع وإنما يسلم ذلك فيما لم تتصرف الرواة في ألفاظه، والطريق إلى معرفة ذلك أن تقل مخارج الحديث وتتفق ألفاظه، وإلا فإن مخارج الحديث إذا كثرت قل أن تتفق ألفاظه لتوارد أكثر الرواة على الاقتصار على الرواية بالمعنى بحسب ما يظهر لأحدهم أنه واف به، والحاصل لأكثرهم على ذلك إنهم كانوا - لا يكتبون ويطول الزمان فيتعلق المعنى بالذهن فيرتسم فيه، ولا يستحضر اللفظ فيحدث بالمعنى لمصلحة التبليغ ثم يظهر من سياق ما هو أحفظ منه أنه لم يوف بالمعنى. ا ه.
ولكي يزداد اليقين بما نجم من الضرر البالغ لعدم كتابة الحديث في حياته صلوات الله عليه، ومن أن هذا الحديث قد تغير لفظه وضاع الكثير منه - نسوق في ختام هذا الفصل دليلا من أقوى الأدلة على إثبات ما نقول، وهذا الدليل نأخذه مما فعلت الرواية في خطبة الوداع التي ألقاها النبي في آخر حياته - وبعد ثلاث وعشرين سنة من بعثته وأجمل فيها وصاياه العظيمة وتعاليمه الجليلة - وكانت هذه الخطبة في يوم مجموع له الصحابة كافة وكانوا حوال مائة وخمسين ألفا فقد كان المعقول واليقين أن تأتي هذه الخطبة الجامعة محفظة بألفاظها ومعانيها كما نطق النبي بها، وأن يحرص الصحابة جد الحرص على حفظها، وأن يؤدوها إلى من بعدهم كما سمعوها! ولكنهم برغم ذلك كله قد تركوها بغير قيد كتابي أو ذهني يعبث الرواة بها. ولو أنك اطلعت على ما نشر منها متناثرا في كتب الحديث المشهورة والسير الكبيرة ثم درستها دراسة لا تتأثر فيها بالعاطفة فإنك تجد ألفاظها متباينة ومعانيها مختلفة، وعباراتها غير مؤتلفة، مما يثير عندك الدهش، ويبعث العجب! ومن عجيب أمر الذين يكابرون في أن الحديث قد روي بالمعنى ما يقرع آذانهم من جميع خطباء المساجد في أيام الجمع على مدار السنين من قولهم عندما يفرغون من تلاوة حديث الخطبة " أو كما قال! " حتى أصبحت هذه العبارة كأنها من أصل الحديث - فلم هذا الاحتياط - الواجب؟ ضرر الرواية بالمعنى من الناحية اللغوية والبلاغية هذا بعض ما قالوه في ضرر نقل الحديث بالمعنى في الأمور الدينية. أما الضرر اللغوي والبلاغي فقد بينه في عبارة وجيزة الأديب الإسلامي الكبير السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، وذلك عند كلامه عن البلاغة النبوية في كتابه النفيس " إعجاز القرآن " قال رحمه الله: إن ألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويصقله لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي، فقد جاءت من سبيله، وإن لم يكن لها منه دليل فقد كانت هي من دليله. محكمة الفصول، حتى ليس فيها عروة مفصولة، محذوفة الفضول، حتى ليس فيها كلمة مفضولة، وكأنما هي في اختصارها وإفادتها نبض قلب يتكلم، وإنما هي في سموها وإجادتها مظهر من خواطره صلى الله عليه وسلم "... إلخ.
وقال وهو يتحدث عن نسق البلاغة النبوية: " ليس كل ما يروى على أنه حديث يكون من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) بألفاظه وعبارته، بل من الأحاديث ما يروى بالمعنى، فتكون ألفاظه أو بعضها لمن أسندت إليه في النقل، ولجواز الرواية بالمعنى لم يستشهد سيبويه وغيره من أئمة المصرين (أي البصرة والكوفة) على النحو واللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصحيح النقل عن العرب، ولو كان التدوين شائعا في الصدر الأول، وتيسر لهم أن يدونوا كل ما سمعوه من النبي (صلى الله عليه وسلم)، بألفاظه وصوغه، وبيانه، لكان لهذه اللغة شأن غير شأنها ". وقد كان الأصل عندهم أن يضبط المحدث معنى الحديث، فأما الألفاظ فمنها ما يتفق لهم بنصه، وخاصة في الأحاديث القصار، وفي حكمه وأمثاله (صلى الله عليه وسلم)، ومنها ما لا يتفق فيلبسه الراوية من عبارته، حتى قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى.
وقد أطلنا القول في هذا الباب، لأنه من الأبواب المهمة في هذا الكتاب. اللحن والخطأ في الحديث بعد أن أباحوا لأنفسهم رواية الحديث بالمعنى، سوغوا كذلك أن يأتي الحديث ملحونا، ولا يرون بأسا في إصلاح لحنه وخطئه. قال حافظ المغرب ابن عبد البر في كتابه " جامع بيان العلم وفضله ":
حدث الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي يقول: لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث. وقال كذلك سمعت الأوزاعي يقول: اعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربا. وعن جابر قال: سألت عامرا - يعني الشعبي - وأبا جعفر - يعني محمد بن علي - والقاسم - يعني ابن محمد - وعطاء - يعني ابن أبي رباح - عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن، أأحدث به كما سمعت أم أعربه؟ قالوا: لا، بل أعربه! وقال يحيى بن معين: لا بأس أن يقوم الرجل حديثه على العربية. وقال النضر بن شميل: كان هشيم لحانا فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة - يعني بالإعراب. وحدث علي بن الحسن قال: قلت لابن المبارك: يكون في الحديث لحن، أقومه؟ قال: نعم لأن القوم لم يكونوا يلحنون! اللحن منا. وقد تعرض الإمام ابن فارس لهذا الأمر في رسالة سماها " مأخذ العلم " فقال: " ذهب أناس إلى أن المحدث إذا روى فلحن، لم يجز للسامع أن يحدث عنه إلا لحنا كما سمعه، وقال آخرون: بل على السامع أن يرويه إذا كان عالما بالعربية معربا صحيحا مقوما بدليل نقوله - وهو أنه معلوم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان أفصح العرب وأعربها، وقد نزهه الله عز وجل - وإذا كان كذا فالوجه أن يروى كلامه مهذبا من كل لحن. وكان شيخنا أبو الحسن علي بن إبراهيم القطان يكتب الحديث على ما سمعه لحنا. ويكتب على حاشية كتابه. (كذا) قال: يعني الذي حدثه والصواب كذا. وهذا أحسن ما سمعت في هذا الباب.
وقال ابن الأنباري في الإنصاف في منع (أن) في خبر كاد، وأما حديث كاد الفقر أن يكون كفرا. فإنه من تغييرات الرواة لأنه (صلى الله عليه وسلم) أفصح من نطق بالضاد، والأمثلة في ذلك كثيرة والكلام طويل
التقديم والتأخير في الحديث والزيادة والنقص:
وكذلك لم يروا بأسا من تقديم الحديث وتأخيره. فعن أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حفص عن أشعث عن الحسن والشعبي أنهما كانا لا يريان بأسا بتقديم الحديث وتأخيره.
وروي عن جابر بن عبد الله عن حذيفة أنه قال: إنا قوم عرب نورد الحديث فنقدم ونؤخر. وبلغ من صنيعهم في رواية الحديث أن يأتي أحد الرواة بزيادة في الحديث لا تكون في رواية غيره، وقد وضعوا لذلك قاعدة هي " الزيادة من الحافظ مقبولة ".
رواية بعض الحديث واختصاره ومما أجازوه اختصار الحديث ورواية بعضه. وفي سنن الترمذي عن مجاهد: أنقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. وقال ابن حجر في شرح النخبة: أما اختصار الحديث فالأكثرون على جوازه، بشرط أن يكون الذي يختصره عالما. وقال النووي في شرح مسلم: الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير والمحققون من أصحاب الحديث جواز رواية بعض الحديث من العارف، ثم قال: وأما تقطيع المصنفين الحديث في الأبواب فهو بالجواز أولى - بل يبعد طرد الخلاف فيه، وقد استمر عليه عمل الأئمة الحفاظ الجلة من المحدثين وغيرهم، من أصناف العلماء. وممن ذهب إلى جواز اختصار الحديث مسلم، وقد أشار إلى ذلك في مقدمته.
وقال أبو شامة في كتاب مختصر كتاب المؤمل: مما يفعله شيوخ الفقه في الأحاديث النبوية والآثار المروية، كثرة استدلالهم بالأحاديث الضعيفة على ما يذهبون إليه، نصرة لقولهم، وينقصون من ألفاظ الحديث وتارة يزيدون فيه، وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد. ومن قبيح ما يأتي به بعضهم أن يحتج بخبر ضعيف هو دليل خصمه عليه فيوردونه معرضين عما كانوا ضعفوه.
تساهلهم فيما يروى في الفضائل وضرر ذلك قال ابن مهدي: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال. أخرجه البهيقي في المدخل. وممن جوزوا التساهل في رواية الحديث، إذا كان في فضائل الأعمال أحمد ابن حنبل وعبد الله بن المبارك، وقال الحاكم سمعت أبا زكريا العنبري يقول: الخبر إذا لم يحرم حلالا، ولم يحل حراما، ولم يوجب حكما في ترغيب أو ترهيب، أغمض عنه وتسوهل في روايته. ولأحمد رأي آخر تراه فيما بعد. وقال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يحتج به، وقال: أحاديث الفضائل تسامح العلماء قديما في روايتها عن كل، ولم ينتقدوا فيها كانتقادهم في أحاديث الأحكام.
وقال السيد رشيد رضا في تعليقه على ما ذكره صاحب الآداب الشرعية لابن مفلح من أنه قد جاء عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يعمل بالحديث الضعيف في الفضائل والمستحبات: " رضي الله عن أحمد ما أوسع علمه وأدق فهمه! إن القول بالعمل بالحديث الضعيف فيما ذكر، والتساهل في روايته قد فتح على الأمة بابا من الغلو في الدين وتكثير العبادات المحرجة التي تنافي يسر الإسلام. حتى جعلوا بعضها من الشعائر فيه، مع تقصير الاكثرين في إقامة الفرائض والتزام الواجبات، وترتب عليه ما نقله المصنف بعده عن ابن تيمية في قبول الاسرائيليات والمنامات وكذا الخرافات، إن العبادات والفضائل الثابتة بالقطع من الكتاب والسنة كافية للأمة - ويا ليت يوجد فيها كثيرون ممن لا يقصر فيها " ا ه.
وحقا ما قاله هؤلاء الأئمة وما بينوه من ضرر نقل الأحاديث الضعيفة على الأمة بله ما ذهب إليه بعضهم من العمل بها في الفضائل. ومن أجل ذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إنه لا يجوز العمل بالأحاديث الضعيفة مطلقا.
وللكاتب الإسلامي البليغ السيد مصطفى صادق الرافعي رحمه الله فصل ممتع كبير على الرواية - وذلك في كتابه النفيس " تاريخ آداب العرب " نقتطف منه ما يلي: الرواية في الإسلام كان الصحابة يأخذون عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أخذا علميا ليتفقهوا في الدين - فكانت مجالسه (صلى الله عليه وسلم) هي الحلقات العلمية الأولى التي عرفت في سلسلة التاريخ العربي كله، كما هو (صلى الله عليه وسلم) أول من علم... فلما قبض (صلى الله عليه وسلم) بدأ من بعده علم الرواية. إذ لم يعد من سبيل إلى الاستدلال والفصل إلا بها. وكان أبو بكر لا يقبل من أحد إلا بشهادة على سماعه من الرسول والعهد يومئذ قريب، والصحابة متوافرون، والمادة لم تنقض بعد...
ثم كان عمر يتثبت في النقل إذ كانت طائفة من الناس قد مردت على النفاق وكانت الحاجة قد اشتدت إلى الرواية - وكان عمر وعثمان وعائشة وجلة من الصحابة يتصفحون الأحاديث، ويكذبون بعض الروايات التي تأتي، ويردونها على أصحابها، ثم خشي عمر أن يتسع الناس في الرواية، فيدخلها الشوب، ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، فكان يأمرهم أن يقلوا الرواية وكان شديدا على من أكثر منها أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، لأن المكثر وإن جاء بالصحيح فقد لا يسلم من التحريف أو الزيادة أو النقصان في الرواية، وقد سمعوه (صلى الله عليه وسلم) يقول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار.
وعلى هذه الجهة من التوقي والإمساك في الرواية كان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة بالرسول (صلى الله عليه وسلم) كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. وكان أكثر الصحابة رواية أبو هريرة وقد صحب ثلاث سنين وعمر بعده (صلى الله عليه وسلم) نحوا من خمسين سنة ولهذا كان عمر وعثمان وعائشة ينكرون عليه ويتهمونه وهو أول راوية اتهم في الإسلام وكانت عائشة أشدهم إنكارا عليه لتطاول الأيام بها وبه إذ توفيت قبله بسنة...
ثم كانت الفتنة أيام عثمان واضطرب من بعدها حبل الكلام في الخلافة وخاض الناس في ضروب من الشك والحيرة والقلق فكان فيهم من لا يتوقى ولا يتثبت، وألف كثير من الناس أمر هؤلاء فلم يبالوا أن يتبينوا فيرجعوا في الرواية إلى شهادة قاطعة أو دلالة قائمة. على أن كل ما كان يقع في الحديث قبلهم من خطأ فإنما كان من قبل ما يعترض المحدث من السهو والاغفال. وقد قال عمران بن حصين وهو من الصحابة والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون.
غير أن الأعلام كانت يومئذ لا تزال قائمة، والفروع لا تزال باسقة، فكان الخطب لم يستفحل حتى إذا خرجت الخوارج، وتحزب الناس فرقا، وجعلوا أهلها شيعا، بدءوا يتخذون من الحديث صناعة فيضعون ويصنعون ويصفون الكذب، ثم ظهر القصاص والزنادقة، وأهل الأخبار المتقادمة مما يشبه أحاديث خرافة، فوقع الشوب والفساد في الحديث من كل هذه الوجوه في عصور مختلفة، أما القصاص فإنهم كانوا يميلون وجوه القوم إليهم ويستدرون ما عندهم بالمناكير والغرائب والأكاذيب من الأحاديث، ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبا خارجا عن قطر المعقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون، وللقوم في هذه الفنون الأكاذيب العريضة والأخبار المستفيضة. وأما الزنادقة فقد جعلوا يحتالون للإسلام ويهجنونه بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة مما يشبه خرافات اليونان والرومان وأساطير الهنود والفرس ليشنعوا بذلك على أهل السنة في روايتهم ما لا يصح في العقول ولا يستقيم على النظر. وأما أهل الأخبار المتقادمة فقد قصدوا من ذلك إلى إثبات الخرافات الجاهلية وجعلها بسبيل من الصحة للاستعانة بها على التفسير وما إليه. وأمثلة ذلك كله فاشية.
إلى أن كان تدوين الحديث واستمر الحديث بعد الطبقة التي كان منها صغار الصحابة وكبار التابعين - كطبقة ابن عباس، على ما يعترض فيه من عوارض السهو والاغفال، وما يدخل عليه من الشبه والتأويلات - وعلى أن بعض الثقات ربما أخذه عن غير الثقة حتى كانت خلافة عمر بن عبد العزيز...
فخشى تزيد الناس وشيوع الكذب إذا قل الصحيح، وكانت قد فشت في زمنه أشياء مما يتعمد فيه الكذب لغير مصلحة يتأول عليها، كالأحاديث التي كان يكذب فيها عكرمة مولى ابن عباس وبرد مولى سعيد بن المسيب وغيرهما - خشى عمر عاقبة ذلك وما أشبهه فكتب إلى أبي بكر بن حزم نائبه في الإمرة والقضاء على المدينة أن انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. وكان هذا أول البدء في تدوين الحديث وجمعه ولم يكن الحديث يدون قبل ذلك... إلخ.
ونختم هذا البحث بذكر علة خطيرة من علل الرواية. علة خطيرة من علل الرواية كيف كانت رواياتهم كان لرواية الحديث عن رسول الله - بعد نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن كتابته علل كثيرة، منها أنه كان لا يروى عند سماعه، ومن أجل ذلك اضطر الرواة إلى أن يرووا (بالمعنى)، ومنها أنهم كانوا " يدلسون " فيروي الصحابي حديث رسول الله عن صحابي آخر من غير أن يذكر اسم من روى عنه - وكانوا لا يرون في ذلك بأسا، كما ذكر ذلك ابن قتيبة، إذ قال في كتابه " تأويل مختلف الحديث " وهو يتكلم عن روايات أبي هريرة التي لم يسمعها من النبي: إنه كان يقول: قال رسول الله " كذا " وإنما سمعه من الثقة " عنده " فحكاه، وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة. ومثل هذه الرواية يسميها رجال الحديث في علمهم " بالتدليس " وقد قال الحافظ الذهبي وهو يؤرخ لأبي هريرة " كان أبو هريرة يدلس " وتدليس الصحابة " كثير ولا عيب فيه ".
وقد بينا هذه العلل من قبل في كتابنا هذا وفي كتابنا " شيخ المضيرة " الذي طبعناه على حدة وأظهرنا أضرارها، ولكن ثم علة خطيرة لم نتكلم عنها من قبل كشف عنها الصحابي الكبير - عمران بن حصين في كلامه الذي أقسم عليه: إذ قال: " والله إن كنت لأرى أني لو شئت لحدثت عن رسول الله يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك، أن رجالا من أصحاب رسول الله سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون - وفي رواية - يخطئون - لا أنهم كانوا يتعمدون.
وروى ابن الجوزي في كتاب " شبهة التشبيه " قال: سمع الزبير (ابن العوام) رجلا يحدث، فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه، فقال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ فقال الرجل: نعم!! فقال الزبير: هذا وأشباهه مما يمنعاني أن أتحدث عن النبي! قد لعمري سمعت هذا من رسول الله، وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول الله ابتدأ بهذا الحديث فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث - وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله!! وقال بسر بن سعيد اتقوا الله وتحفظوا في الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا، يجعل حديث رسول الله عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله.
هذا ما ذكره عمران بن حصين، والزبير بن العوام، وبسر بن سعيد، وإن على كل مسلم مفكر غير مغلول العقل، أن يتدبره، ويطيل النظر فيه. فالصحابي عمران بن حصين يقسم بالله أنه لو شاء لحدث عن رسول الله يومين متتابعين ولكنه يأبى، لأنه رأى رجالا من من أصحاب رسول الله، يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وإنما يغلطون - أو يخطئون - فإذا كان هذا شأن غير المتعمدين من الصحابة الصادقين - فترى ماذا يكون أمر المتعمدين، ومن إليهم من المنافقين وأعداء الدين؟ إنها والله في الرواية لإحدى الكبر! ومن يبصر الناس بذلك يقولون عنه: إنه قد كفر. ويصف الزبير علة أخرى، هي أن يسمع بعضهم الحديث من النبي - بعد انقضاء صدر منه ثم يخرج فيروي ما سمعه - على أنه حديث كامل. ثم يأتي بسر بن سعيد، فينا شد الناس، أن يتقوا الله في الحديث لأن بعضهم كان يجعل حديث رسول الله عن كعب الأحبار ويجعل حديث كعب عن رسول الله وكل ذلك وغيره قد حملته بطون الكتب، وبقي على وجه الزمن، يرويه الخلف عن السلف إلى يوم القيامة - ولا حول ولا قوة إلا بالله. وثم كلام كثير في التحفظ من الحديث تجده مسطورا في كتابنا " شيخ المضيرة " فارجع إليه.
الوضع في الحديث وأسبابه:
كان من آثار تأخير تدوين الحديث وربط ألفاظه بالكتابة - إلى ما بعد المائة الأولى من الهجرة وصدر كبير من المائة الثانية - أن اتسعت أبواب الرواية، وفاضت أنهار الوضع، بغير ما ضابط ولا قيد، حتى لقد بلغ ما روي من الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف، لا يزال أكثرها منبثا بين تضاعيف الكتب المنتشرة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
نشأة الاختراع في الرواية والوضع على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد أجمع الباحثون والعلماء المحققون - على أن نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما كان في أواخر عهد عثمان وبعد الفتنة التي أودت بحياته، ثم اشتد الاختراع واستفاض بعد مبايعة علي رضي الله عنه فإنه ما كاد المسلمون يبايعونه بيعة صحيحة حتى ذر قرن الشيطان الأموي ليغتصب الخلافة من صاحبها، ويجعلها حكما أمويا! وقد كان واأسفاه! وإليك كلمة صادقة دقيقة كتبها الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله في " مقدمات " رسالة التوحيد بعد أن تكلم عن الفتنة الكبرى التي " هوى بها ركن عظيم من هيكل الخلافة، واصطدم الإسلام وأهله صدمة زحزحتهم عن الطريق التي استقاموا عليها وبقي القرآن قائما على صراطه ".
قال رضي الله عنه: " توالت الأحداث بعد ذلك ونقض بعض المبايعين للخليفة الرابع ما عقدوا، وكانت حروب بين المسلمين انتهى فيها أمر السلطان إلى الأمويين! غير أن بناء الجماعة قد انصدع، وانفصمت عرى الوحدة بينهم، وتفرقت بهم المذاهب في الخلافة، وأخذت الأحزاب في تأييد آرائهم، كل ينصر رأيه على رأي خصمه، بالقول والعمل، وكانت نشأة الاختراع في الرواية والتأويل، وغلا كل قبيل فافترق الناس... إلخ.
الحديث الموضوع والحديث الموضوع هو المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) زورا وبهتانا سواء أكان ذلك عمدا أم خطأ. ووضع الحديث على رسول الله كان - كما قال أحد الأئمة - أشد خطرا على الدين وأنكى ضررا بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربين. وإن تفرق المسلمين إلى شيع وفرق ومذاهب ونحل لهو أثر من آثار الوضع في الدين. وقال المرتضى اليماني في كتابه " إيثار الحق ": إن معظم ابتداع المبتدعين من أهل الإسلام إنما يرجع إلى هذين الأمرين الواضح بطلانهما وهما: الزيادة في الدين والنقص منه، ومن أنواع الزيادة في الدين - الكذب عليه. وقال النووي في شرح مسلم نقلا عن القاضي عياض: الكاذبون ضربان: أحدهما - ضرب عرفوا بالكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أنواع: منهم من يضع ما لم يقله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصلا كالزنادقة وأشباههم ممن لم يرج لله وقارا إما حسبة بزعمهم وتدينا كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب، وإما إغرابا وسمعة كفسقة المحدثين، وإما تعصبا واحتجاجا كدعاة المبتدعة ومتعصبي المذاهب، وإما إشباعا لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه، وطلب الفوز لهم فيما أتوه.
ومنهم من لا يضع متن الحديث ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسنادا صحيحا مشهورا. ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ويتعمد ذلك إما للإغراب على غيره، وإما لرفع الجهالة عن نفسه. ومنهم من يكذب فيدعي سماع ما لم يسمع ولقاء من لم يلق ويحدث بأحاديثهم الصحيحة عنهم، ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. هذا، وإن لوضع الحديث والكذب على رسول الله أسبابا كثيرة غير التي تكلم عنها النووي من قبل بينها العلماء نأتي هنا على أهمها.
أحدها - وهو أهمها ما وضعه الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشا ونفاقا وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين - قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث، وهذا بحسب ما وصل إليه علمه واختباره في كشف كذبها، وإلا فقد نقل المحدثون أن زنديقا واحدا وضع هذا المقدار قالوا: لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال: " وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرم فيها الحلال وأحل الحرام ". ثانيها - الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدين وفروعه: فإن المسلمين لما تفرقوا شيعا ومذاهب جعل كل فريق يستفرغ ما في وسعه لإثبات مذهبه لا سيما بعد ما فتح عليهم باب المجادلة والمناظرة في المذاهب، ولم يكن المقصود من ذلك إلا إفحام مناظره والظهور عليه حتى إنهم جعلوا " الخلاف " علما صنفوا فيه المصنفات مع أن دينهم ما عادى شيئا كما عادى الخلاف. وهذا السبب يشبه أن يكون أثرا من آثار السبب الذي قبله - وقد استشهد لهذا بعض المحدثين الذين كتبوا في أسباب الوضع بقوله: تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول: انظروا عمن تأخذون هذا الحديث، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا. وليس الوضع لنصرة المذاهب محصورا في المبتدعة وأهل المذاهب في الأصول، بل إن من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه أو تعظيم إمامه... وإليك حديثا واحدا وهو " يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي "، قالوا: وفي إسناده وضاعان أحدهما مأمون بن أحمد السلمي والآخر أحمد بن عبد الله الخونباري. وقد رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعا، واقتصر على ما ذكره في أبي حنيفة، وقال، موضوع وضعه محمد بن سعيد المروزي البورقي، ثم قال: هكذا حدث به في بلاد خراسان ثم حدث به في العراق وزاد فيه " وسيكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس فتنته أضر على أمتي من فتنة إبليس " قالوا وهذا الإفك لا يحتاج إلى بيان بطلانه - ومع هذا تجد الفقهاء المعتبرين يذكرون في كتبهم الفقهية شق الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه سراج الأمة ويسكنون عليه، بل يستدلون به على تعظيم إمامهم على سائر الأئمة، وهم مع هذا قدوة الأمة الذين يؤخذ بأقوالهم في الدين، ويتركون لهم الكتاب والسنة لأنهما على قولهم يختصان بالمجتهدين.
قال أبو العباس القرطبي في شرح صحيح مسلم: أجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس الجلي إلى رسول الله نسبة قولية، فيقولون في ذلك: قال رسول الله: كذا، ولهذا نرى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة لأنها تشبه فتاوى الفقهاء، ولا تليق بجزالة كلام سيد المرسلين ولأنهم لا يقيمون لها إسنادا. وقال أبو شامة في كتابه مختصر كتابه المؤمل: مما يفعله شيوخ الفقه في الأحاديث النبوية والآثار المروية كثرة استدلالهم بالأحاديث الضعيفة على ما يذهبون إليه نصرة لقولهم، وينقصون في ألفاظ الحديث وتارة يزيدون فيه، وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد.
ثالثها - الغفلة عن الحفظ اشتغالا عنه بالزهد والانقطاع للعبادة: وهؤلاء العباد والصوفية يحسنون الظن بالناس ويعدون الجرح من الغيبة المحرمة، ولذلك راجت عليهم الأكاذيب وحدثوا عن غير معرفة ولا بصيرة.. فيجب ألا يعتمد على الأحاديث التي حشيت بها كتب الوعظ والرقائق والتصوف من غير بيان تخريجها ودرجتها، ولا يختص هذا الحكم بالكتب التي لا يعرف لمؤلفها قدم في العلم ككتاب " نزهة المجالس " المملوء بالأكاذيب في الحديث وغيره، بل إن كتب أئمة العلماء كالإحياء للغزالي لا تخلو من الموضوعات الكثيرة. رابعها - قصد التقرب من الملوك والسلاطين والأمراء كما نص على ذلك غير واحد من الحفاظ. وكما كذب علماء السوء على الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل السلاطين، كذبوا كذلك في وضع الأحكام والفروع الفقهية لأجلهم. ومن الأحاديث الموضوعة في هذا الباب ما اشتمل على مدح السلاطين وتعظيم شأنهم، وهو ما يتملق به الجهال للملوك في هذا العصر كما تملقوا لهم فيما قبله. خامسها - الخطأ والسهو: وقع هذا لقوم ومنهم من ظهر له الصواب، ولم يرجع إليه أنفة واستنكافا أن ينسب إليهم الغلط. ولم تعرف رقة دين هؤلاء وعدم إخلاصهم في الاشتغال برواية الحديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع. سادسها - التحديث عن الحفظ ممن كانت له كتب يعتمد عليها فلم يتقن الحفظ فضاعت الكتب فوقع الغلط.
سابعها - اختلاط العقل في أواخر العمر - وقع هذا لجماعة من الثقات فكانوا معذورين، دون من سلم بكل ما نسب إليهم من غير تمييز بين ما روى عنهم في طور الكمال والعقل، وبين ما روي في طور الاختلاط والهرم. ثامنها - الظهور على الخصم في المناظرة ولا سيما إذا كانت في الملأ - وهو غير الوضع لنصرة المذاهب، قال ابن الجوزي: ومن أسباب الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع، من استدلال على ما يقوله كما يطابق هواه، تنسيقا لجداله وتقويما لمقاله، واستطالة على خصمه، ومحبة للغلب وطلبا للرياسة وفرارا من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره. تاسعها - إرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم واستمالتهم لحضور مجالسهم الوعظية، وتوسيع دائرة حلقاتهم، وقد ألصق المحدثون هذا السبب بالقصص... ولعل ابن الجوزي ما تصدى لتأليف كتابه في الموضوعات إلا بعد ما زاول الوعظ واختبر ما أفسد الوعاظ من دين الناس - وقد ذكر عن نفسه: أن الأحاديث كانت ترد عليه في مجلس وعظه فيردها فيحقد عليه سائر القصاص.
ضرر القصص والقصاص: أخرج السلفي من طريق الفضل بن زياد قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أكذب الناس السؤال والقصاص. وعن أبي قلابة قال: ما أمات العلم إلا القصاص. وأخرج العقيلي عن عاصم قال: كان أبو عبد الرحمن يقول: اتقوا القصاص. معاوية هو الذي أحدث القصص: أخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن نافع وغيره من أهل العلم قالوا: لم يقص في زمان النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا في زمان أبي بكر ولا زمان عمر، وإنما القصص محدث أحدثه معاوية حين كانت الفتنة. وأخرج ابن أبي شيبة مثل هذا الخبر عن ابن عمر وكان عمر قد نهى عن القصص. عاشرها - شدة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس، ولعل الذي سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث المكذوبة - هو قول العلماء إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال وما في معناها مما لا يتعلق بالأحكام والحقوق - وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام، والله سبحانه وتعالى يقول: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ".
وإن جميع البدع الدينية التي يسميها الناس " بدعا حسنة "... هي من الزيادة في الدين ويا ليتها كانت زيادة في الأعمال فقط ولكنها زيادة في العقائد أيضا - كاعتقاد وساطة بعض الصالحين " الأموات " بين الله والناس في قضاء حوائجهم - إما بأن يقضوها بأنفسهم لأن لهم سلطة غيبية وراء الأسباب، وإما بأن يقضيها الله تعالى لأجلهم فتكون إرادة الله تعالى تابعة في ذلك لإرادتهم، كما اشتهر من قولهم " إن لله عبادا إذا أرادوا أراد "! وغير ذلك، فإذا قلت لهم إن هذا شرع لم يأذن به الله يأتونك بأمثال ينزه الله عنها، كتشبيهه بالملوك والأمراء الذين يتقرب إليهم بمن يحبون ليفعلوا ما لم يكونوا يفعلونه لولاهم، وفاتهم أن إرادة الله تعالى لا تتغير لأجل أحد، لأن تخصيصها وترجيحها إنما يكون بحسب العلم القديم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل. حادي عشرها - إجازة وضع الأسانيد للكلام الحسن ليجعل حديثا،
ذكروا هذا سببا مستقلا وهو يدخل فيما سبقه. ثاني عشرها - تنفيق المدعي العلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض البحث عن حديث - فيقول من في دينه رقة وفي علمه دغل، هذا الحديث أخرجه فلان وصححه فلان ويسند هذا إلى كتب يندر وجودها، ليوهم أنه مطلع على ما لم يطلع عليه غيره أو يخلق للحديث إسنادا جديدا. ا ه وحكى السيوطي عن ابن الجوزي أنه من وقع في حديثه الموضوع " والكذب والقلب أنواع: منهم من غلب عليهم الزهد فغفلوا عن الحفظ، أو ضاعت كتبه فتحدث من حفظه فغلط، ومنهم قوم ثقات لكن اختلطت عقولهم في آخر أعمارهم ومنهم من روى الخطأ سهوا فلما رأى الصواب وأيقن به لم يرجع أنفة أن ينسب إليه الغلط، ومنهم زنادقة وضعوا قصدا إلى إفساد الشريعة، وإيقاع الشك والتلاعب بالدين.
وقد كان بعض الزنادقة يتغفل الشيخ فيدس في كتابه ما ليس من حديثه، ومنهم من يضع لنصرة مذهبه، ومنهم من يضع حسبة وترغيبا، ومنهم من أجاز وضع الأسانيد بكلام حسن، ومنهم من قصد التقرب إلى السلطان، ومنهم القصاص يروون أحاديث ترقق وتنفق ا ه.
ولأن الكلام قد طال في هذا الأمر فإنا نكتفي بما أوردناه. أما وضاع الحديث فكانوا كثيرين لا يحصيهم العدد وقد قالوا إن أشهرهم أربعة: ابن أبي يحيى في المدينة، والواقدي في بغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد ابن سعيد بالشام.
وإليك مثلا واحدا من أمثلة الوضع للتقرب من الملوك والأمراء: كان الرشيد يعجبه الحمام واللهو به، فأهدى إليه حمام وعنده أبو البختري القاضي فقال: روى أبو هريرة عن النبي أنه قال: لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح - فزاد جناح، وهي لفظة وضعها للرشيد، فأعطاه جائزة سنية. ولما خرج قال الرشيد والله لقد علمت أنه كذاب - وأمر بالحمام أن يذبح، فقيل: وما ذنب الحمام؟ قال: من أجله كذب على رسول الله! الوضع السياسي أو الوضع للسياسة ولا بد لنا قبل أن نختم هذا الفصل أن نكشف عن ناحية خطيرة من نواحي الوضع في الحديث كان لها أثر بعيد في الحياة الإسلامية، ولا يزال هذا الأثر يعمل عمله في الأفكار العفنة والعقول المتخلفة والنفوس المتعصبة، ذلك أن السياسة قد دخلت في هذا الأمر وأثرت فيه تأثيرا بالغا فسخرته ليؤيدها في حكمها، وجعلته من أقوى الدعائم لإقامة بنائها..
وقد علا موج هذا الوضع السياسي وطغى ماؤه في عهد معاوية الذي أعان عليه وساعده بنفوذه وماله، فلم يقف وضاع الحديث عند بيان فضله والاشادة بذكره بل أمعنوا في مناصرته، والتعصب له حتى رفعوا مقام الشام الذي يحكمه إلى درجة لم تبلغها مدينة الرسول صلوات الله عليه، ولا البلد الحرام التي ولد فيه، وأسرفوا في ذلك إسرافا كثيرا وأكثروا حتى ألفت في ذلك مصنفات خاصة. وإذا كان هذا الموضوع وحده يحتاج إلى مؤلف برأسه فإنا - في حدود هذا الكتاب - سنلتزم جانب الإيجاز ولا نبدي إلا علائم وشواهد قليلة.
ومن أمثلة هذا الوضع: مما وضعته البكرية وأخرجه ابن عساكر عن أبي هريرة: تباشرت الملائكة يوم بدر، فقالوا أما ترون الصديق مع رسول الله في العريش. وأخرج الخطيب عن ابن عباس عن النبي: هبط على جبريل عليه السلام وعليه طنفسة وهو يتخلل، فقلت له يا جبريل ما هذا؟ قال: إن الله تعالى أمر الملائكة أن تتخلل في السماء كتخلل أبي بكر في الأرض. وأخرج أبو يعلى عن أبي هريرة، قال رسول الله: عرج بي إلى السماء فما مررت بسماء إلا وجدت فيها اسمى (محمد رسول الله وأبو بكر الصديق خلفي).
وأخرج أبو يعلى كذلك عن ابن عمر أن النبي قال: إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله. وفي حديث أن رسول الله قال: فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام... وفي حديث أن صورتها قد جاءت النبي في سرقة من حرير مع جبريل وقال له: " هذه زوجتك في الدنيا والآخرة "!! وفي حديث آخر: خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء وفي رواية " خذوا شطر دينكم... " إلخ. وهذا باب واسع لا يمكن إحصاء كل ما فيه. معاوية والشام أما معاوية والشام الذي حكمه هو وأقاربه حقبة طويلة فهاك فذلكة مما وضعوه في فضلهما.
ومعاوية كما هو معروف أسلم هو وأبوه يوم فتح مكة، فهو بذلك من الطلقاء، وكان كذلك من المؤلفة قلوبهم الذين كانوا يأخذون ثمنا لإسلامهم، وهو الذي هدم مبدأ الخلافة الرشيدة في الإسلام فلم تقم لها من بعده إلى اليوم قائمة، وقد اتخذ " دمشق " حاضرة لملكه. وإليك بعض ما وضعوه من الأحاديث في فضله: أخرج الترمذي أن النبي قال لمعاوية: اللهم اجعله هاديا مهديا. وفي حديث آخر أن النبي قال: اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب - وهناك زيادة في هذا الحديث تقول: وأدخله الجنة. وعلى كثرة ما جاء في فضائل معاوية من أحاديث لا أصل لها، فإن إسحاق ابن راهويه وهو الإمام الكبير وشيخ البخاري قد قال: إنه لم يصح في فضائل معاوية شيء. وقد ذكر البخاري في باب " فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " فقال: باب ذكر معاوية رضي الله عنه ، ولم يأت في هذا الباب بأحاديث مرفوعة إلى النبي وإنما أورد قولين عن ابن عباس في وصف معاوية - قال في الأول: إنه صحب رسول الله، وقال في الثاني: إنه فقيه!
أما الشام: فقد ذكروا أنها أرض المحشر والمنشر وأرض الابدال... وأن نزول عيسى سيكون بهذه الأرض، وإليك بعض ما جاء فيه من الأحاديث الكثيرة: روى أحمد وأبو داود والبغوي والطبراني وغيرهم: عليكم بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، إن الله قد توكل بالشام وأهله. وفي حديث آخر: الشام صفوة الله في بلاده يجتبي إليها صفوته من عباده فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه، ومن دخلها من غيرها فبرحمته. وروى البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة مرفوعا: الخلافة بالمدينة والملك بالشام. وعن كعب الأحبار: أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم ممن عصاه! ومن حديث: ستفتح عليكم الشام، فإذا خيرتم المنازل فيها فعليكم بمدينة يقال لها " دمشق " - وهي حاضرة الأمويين - فإنها معقل المسلمين في المل كان مما خصوا به بلاد الشام من الفضل - بعد أن وصفوها وأهلها بما وصفوا - أن جعلوا منها " الأبدال "، وقد كانت هذه العقيدة من عوامل هدم الإسلام إذ اتخذها الصوفية أصلا لطريقتهم، وبنوا عليها ما بنوا من أوهامهم وخرافاتهم. روى الواقدي أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن (سنة 41 ه) خطب فقال: أيها الناس إن رسول الله قال: إنك ستلي الخلافة من بعدي! فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال - وقد أخبرتكم فالعنوا أبا تراب! - أي علي بن أبي طالب - فلما كان من الغد كتب كتابا ثم جمعهم فقرأه عليهم وفيه: هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمدا نبيا وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب، فاصطفى له من أهله وزيرا كاتبا أمينا، فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب، فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه، فقال الحاضرون: صدقت! وما كاد معاوية يذكر أن الشام أرض الأبدال حتى ظهرت أحاديث مرفوعة عن هؤلاء الأبدال نذكر منها ما يلي:
1 - الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلا، قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا (عن عبادة بن الصامت).
2 - الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض! وبهم تنصرون وبهم تمطرون! (عن عبادة).
3 - الأبدال في أهل الشام بهم ينصرون وبهم يرزقون (عن عوف بن مالك).
4 - الأبدال بالشام وهم أربعون رجلا، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا، يسقى بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب - (عن علي)...
5 - الأبدال أربعون رجلا وأربعون امرأة! كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة - (عن أنس بن مالك).
6 - الأبدال من الموالي - (عن عطاء بن أبي رباح). وقد رفع سؤال عن هذه الأحاديث إلى الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله، وقال السائل في سؤاله: وما معنى اختصاص الشام بهم؟ وما معنى رفع العذاب عن أهل الشام ونصرهم ورزقهم بالأبدال؟ وهل أهل الشام يرزقون وينصرون ويرفع العذاب عنهم دون غيرهم من أهل الأرض؟!
وقد أجاب السيد بجواب عالم مطلع دقيق نختصره هنا فيما يلي: بدأ رحمه الله جوابه بقوله: " إن هذه الأحاديث باطلة رواية ودراية، سندا ومتنا، وإنما راجت في الأمة بعناية المتصوفة، وقد ذكرها الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات وطعن فيها واحدا بعد واحد... وأحاديث الأبدال اشترك فيها المتصوفة والشيعة والباطنية ورواة الاسرائيليات ككعب الأحبار وغيره من أصحاب الترهات الصحاصح، دون أهل الأحاديث الصحائح - قال حكيمنا المحقق ابن خلدون في سياق كلامه في علم التصوف من مقدمة تاريخه، بعد أن بين منشأ التصوف وحال أهله في علمهم وعملهم، ما نصه: " ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة. وملأوا الصحف منه، مثل الهروي وغيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف... وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة. مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قاله الشيعة في النقباء، حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتخليهم، رفعوه إلى علي رضي الله عنه، وهو من هذا المعنى أيضا، وإلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخلية ولا طريقة في لباس ولا حال، بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة، ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص، بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة - ثم إن كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة ".
وأما أهل الحديث المحققون فقد تكلموا في أسانيد هذه الأحاديث فالحافظ ابن الجوزي حكم بوضعها - وتابعه شيخ الإسلام ابن تيمية - وكذلك السخاوي، وهو والسيوطي من تلاميذ الحافظ ابن حجر، إلا أن الأول أدق وأدنى إلى التحقيق وقد قال خبر الأبدال له طرق بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة.
وهذا القول أصح من كلام ابن حجر نفسه: منها ما يصح ومنها ما لا يصح! " وبعد أن فند السيد رشيد هذه الأحاديث حديثا حديثا قال:
وذكر ملا علي القارئ في الموضوعات عن ابن الصلاح أنه قال: أقوى ما روينا في الأبدال قول علي: إنه بالشام يكون الأبدال. هذا يوافق ما قاله ابن تيمية في رسالته في أهل الصفة والصوفية من جهة الرواية،
وأما ما حققه شيخ الإسلام في المسألة من جهة الدراية فهو غاية الغايات.. ونذكر هنا بعض جمل مما قال: قال رحمه الله تعالى: (فصل) وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلثمائة - فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله أنه قال " إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال أربعين رجلا كلما مات رجل أبدله الله مكانه رجلا " ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا الترتيب... إلخ،
ثم ذكر أن لفظ الغوث والغياث لا يستحقه إلا الله تعالى - ثم تكلم شيخ الإسلام في مسألة الأوتاد والقطب بكلام معقول موافق للغة، وعاد إلى الأبدال فقال " فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الإيمان كان بالحجاز واليمن قبل فتوح الشام وكانت الشام والعراق دار كفر، ثم في خلافة علي قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام ". ثم عاد السيد رشيد رحمه الله فقال: " إن سبب ما ورد من الأثر المروي عن علي رضي الله عنه هو أن بعض جماعته كانوا يسبون أهل الشام، فنهاهم عن ذلك الإطلاق وقال: إن فيهم الأبدال، أي أن الله تعالى يبدل من أنصار معاوية غيرهم أو ما هذا معناه، فزاد فيه الرواة المتزلفون لبني أمية، ثم الصوفية، ما زادو وجعلوه حديثا مرفوعا كما وضعوا أحاديث أخرى للأمصار المشهورة من مدح وذم - روى ابن عساكر أن كعب الأحبار قال: الأبدال ثلاثون. وقال أيضا الأبدال بالشام والنجباء بالكوفة، ثم ذكر كثيرا من هذه الأقوال عن أهل ذلك العصر في الأبدال والنجباء النقباء والأخيار. ولفظ الأبدال أشهر هذه الألفاظ ولم يكن الناس يفهمون في القرن الثاني والثالث من هذا اللفظ ما ادعاه الصوفية بعد، بل قال الإمام أحمد " إن الأبدال هم أهل الحديث ". وأما ما في هذه الروايات من أن الله تعالى ينصر أهل الشام ويرزقهم بالأبدال فهو من علل متونها، ودلائل وضعها فالله تعالى قد جعل للنصر أسبابا تعرف من كتابه ومن سننه في خلقه، وقد أخل أفضل الأمم بقيادة أفضل الرسل (عليهم السلام) ببعض أسبابه في غزوة أحد فانكسروا بعد انتصار، وظهر المشركون عليهم، ولما استغربوا ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ما بين له ذلك فقال (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم...) ومن هذه الأسباب الاجتماعية، ما بينه تعالى بقوله (إن تنصروا الله ينصركم) وقوله (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ومن أسبابه الحسية ما أمر به بقوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ومن أسبابه الروحية المعنوية قوله تعالى: (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا) الآية. وبعد أن بين ما كان عليه أهل الشام في سنة 1927 من البؤس وضيق الرزق، والجيوش الفرنسية تدمر بلادهم، وكثيرون منهم يهلكون جوعا وعريا قال: فأين الأبدال وأسرارهم؟! واختتم كلامه رضي الله عنه بقوله: " إن هذه الروايات قد أفسدت بأس الأمة الإسلامية وصار المتصوفة وأهل الطريق المتمسكون بها فتنة لنابتة المسلمين ينفرون أولي الاستقلال العقلي والعلوم العصرية من الإسلام، فيعدونه كغيره دين خرافات وأوهام، كما أنهم عار على المسلمين أمام شعوب البشر الراقين، وقد بلغ من جهلهم وفساد دينهم وأخلاقهم أنهم صاروا أعوان فرنسا في أفريقية من حدود تونس إلى ريف مراكش، وقد آن لنا أن نعقل ونفهم ديننا من القرآن لا من هذه الروايات المنكرة التي صرفتنا عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله التي لا تحتمل التأويل، ولا ينال منها التضليل، وآن لنا أن ندوس هؤلاء المضلين وكل من ينصرهم ويتأول لهم من سدنة القبور المعبودة، لاعتقاد العامة أن الرزق وسعادة الدنيا، تطلب من المدفونين فيها، فقد صارت أمتنا بهذه الخرافات تحت أرجل جميع الأمم، ولا تزال عامتها تعتقد أن الميتين ورجال الغيب هم سبب رزقها ودفع البلاء عنها " ا ه.
انتهى الجزء الثالث.