شعوبنا تقرع أبواب الحُرية

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٦ - فبراير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدّق

منذ سبعين عاماً حيّا أمير الشُعراء، أحمد شوقى، نضال الشعب السورى، وشُهدائه، فى انتفاضة الشعب السورى ضد الاستعمار الفرنسى، فى ثلاثينيات القرن العشرين. ولو عاش أمير الشعراء لقال شعراً مُماثلاً حول نضال شعوب الأمة من أجل استقلالها فى المغرب والجزائر والعراق واليمن.

ولكن لم يكن ليدور فى خُلد أحمد شوقى أنه بعد قرن من ال&acedil;لنضال والتضحيات ضد الاستعمار الأجنبى، أن شعوب الأمة العربية نفسها، من المُحيط إلى الخليج، ستخوض نضالاً أكثر دموية وشراسة ضد استبداد عصابات حاكمة من أبنائها، الذين اغتصبوا السُلطة والثروة فى غفلة من شعوبهم.

لقد بدأ مُسلسل استغفال الشعوب العربية بهزيمة جيوش بعضهم فى فلسطين (١٩٤٨/١٩٤٩)، فعاد العسكر المهزومون فى سوريا ومصر والعراق، يبحثون عن كبائش فداء لتفسير الهزيمة، فأسقطوا حكومات مدنية مُنتخبة، واستولوا على السُلطة، ووعدوا شعوبهم فى «البيان رقم ١» بغسل عار الهزيمة، والتخلص من فساد من كانوا يحكمون، ثم يُسلمون السُلطة لحكومات مُنتخبة ديمقراطياً.

ولكن هذه الحكومات العسكرية، لم تُحرر شبراً واحداً من فلسطين خلال السبعين عاماً التالية، بل هُزمت، واُحتلت أراضى بعضها فى مواجهات تالية مع إسرائيل.

طبعاً، كانت بعض هذه الأنظمة العسكرية المُغتصِبة للسُلطة فى بُلدانها، تجد مُبررات أخرى للاستمرار فى هذا الاغتصاب، مثل المُحافظة على الاستقلال، أو التنمية، أو تحقيق العدالة الاجتماعية، أو إنجاز الوحدة العربية، ولكن واقع الحال أن شيئاً مما وعدوا به قد تحقق.

حتى البُلدان العربية التى لا تُجاور فلسطين، ولم تكن قد استقلت عند ميلاد إسرائيل ـ مثل السودان وليبيا والجزائر وتونس واليمن وموريتانيا ـ شهدت نفس مُسلسل الانقلابات العسكرية، وما نشأ فيها من أنظمة حُكم استبدادية.

وترسّخ هذا الاستبداد للدرجة التى جعلت كثيراً من أساتذة السياسة والاجتماع الغربيين يعتقدون، ويُروجون لمقولة إن العرب غير مؤهلين، أو غير راغبين، أو غير قادرين على مُمارسة الديمقراطية. ومن الذين روّجوا لهذه المقولة كل من المؤرخ الإنجليزى برنارد لويس، وعالمى السياسة الأمريكيين صامويل هانتجنتون وروبرت فوكوياما. وقد رحّب الحُكّام العرب المُستبدون، أنفسهم بهذه المقولة، لتخليد أنفسهم وتوريث الحُكم لذويهم من بعدهم.

ولكن كان لشعوبنا العربية رأى آخر فى هذه المقولة. وفحوى هذا الرأى الآخر، هو أننا لسنا عقاراً يورّث، ولا متاعاً يُنقل من أيدى الآباء المُستبدين لأبنائهم المُدلّلين. قالها الشعب التونسى للمُستبد زين العابدين بن على، ثم قالها الشعب المصرى للفرعون حسنى مُبارك، ثم تبعهما الشعب اليمنى لعلى عبدالله صالح. وها هو الشعب الليبى يقتلع أقدم المُستبدين العرب فى العصر الحديث، وهو مُعمّر القذافى، وعما قريب ستلحق سوريا بركب الأحرار العرب، وتتخلص من آل الأسد.

العرب إذاً، ليسوا استثناء لقوانين التاريخ والسياسة. وها هى أجيالهم الشبابية ـ من سيدى بوسعيد فى تونس، إلى ميدان التحرير فى مصر، إلى ميدان اللؤلؤة فى البحرين، إلى الميدان الكبير فى بنغازى، يُفنّدون بأجسامهم ودمائهم، مقولة «الاستثناء العربى»، التى قال بها هانتجنتون فى «صراع الحضارات»، وردّدها فوكوياما فى «نهاية التاريخ».

إن العرب، بانتفاضاتهم من أجل الديمقراطية ـ فى تونس ومصر والبحرين والأردن واليمن وليبيا ـ يُسجلون «بداية تاريخ» فريد. فما يُمارسونه الآن هو انتفاضات شعبية سلمية. وما يُراق فيها من دماء، يتم على أيدى المُستبدين من حُكامهم، الذين يُحاربون معركة بقائهم الأخيرة.

إن زين العابدين بن على قد جاء للسُلطة بانقلاب على الرئيس الحبيب بورقيبة، «أبو الاستقلال»، عام ١٩٨٧، ووعد الشعب التونسى بأنه لن يمكث فى السُلطة إلا فترة رئاسة واحدة، أى ست سنوات، لكنه ظلّ فيها ٢٣ سنة، أى أربعة أمثال ما كان قد وعد.

وقد عدّل الدستور التونسى، لكى يسمح له بأن يظل رئيساً مدى الحياة، وفعل حسنى مُبارك الشىء نفسه، أما مُعمر القذافى، فلم يُكلف خاطره، لا بدستور ولا يحزنون، وظل يحكم ٤٢ سنة، وكان ينوى الاستمرار إلى آخر عُمره، ثم يُخلفه ابنه سيف الإسلام من بعده فى حُكم ليبيا.

وكانت مُمارسة التوريث فى الجمهوريات العربية هذه قد بدأت فى سوريا، بحافظ الأسد لابنه بشّار الأسد، وعندها تنبأت بأن هذه ستكون سابقة، لبداية شكل جديد من أشكال الحُكم سميته فى ذلك الوقت (يوليو ٢٠٠٠) بـ«الجملوكية» (أى الجمهورية شكلاً والملكية مضموناً)، وسميت البُلدان العربية المُرشحة لنظام الحُكم «الجملوكى»، وهى العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر، ولم أذكر تونس وقتها، لأن بن على لم يكن قد رُزق ابناً بعد.

ويوم ظهور المقال فى مجلة «المجلة» اللندنية، اختفت كل أعدادها من الأسواق المصرية، فى منتصف النهار، ثم تم القبض علىّ فى منتصف الليل، وحبسى فى سجون مُبارك ثلاث سنوات من (٢٠٠٠-٢٠٠٣)، إلى أن برّأتنى محكمة النقض، وهى أعلى محاكم الديار المصرية، فى ١٨ مارس ٢٠٠٣. وجاء فى حيثيات الحُكم، رداً على تُهمة «الإساءة إلى سُمعة مصر فى الخارج»، أن الذى يُسىء إلى مصر فى الداخل، وإلى سمعتها فى الخارج، هو تركيز السُلطة فى يد رجل واحد، فلم يعد يتم فيها شىء يُذكر إلا بتعليمات أو توجيهات، أو قرارات الرئيس. والذى سطر هذه الكلمات هو المُستشار فتحى خليفة، رئيس محكمة النقض فى ذلك الوقت.

أدعو له أن يمدّ الله فى عُمره إذا كان حياً يُرزق، ويرحمه إذا كان قد توفاه الله، فقد كانت هذه الكلمات مسماراً فى نعش الطُغيان فى مصر.

وعلى الله قصد السبيل

اجمالي القراءات 9957