لو كان هناك اجتماعٌ في الأسبوع الثالثِ من يناير الماضي وحـَضَرَه أشهر المُنـَجّمين والضاربين بالودع والعرّافين والسَحَرَة ومعهم الألوسي وبلـّورته لـَما تمكنوا من تصوير شبرٍ واحدٍ من مشهدٍ مُسْتـَقْبَلي لميدان التحرير ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً!
الثوراتُ كالبراكين تبدأ هادئةً، وادعةً، خاملةً فيظن مَنْ يراها من بعيد أنها كالمرأةِ المُسالمة القادمة لتوّها من أقصىَ الريفِ تنظر إلىَ الأرض كلما وجَّه إليها أحدٌّ سؤالا، وهي لا تثور قبل أنْ تصل حرارةُ جهازها العصبي إلى درجة الغليان.
كانت الدولةُ كلُّها في جـِلبابه رغم أنه لم يعلن كالسادات، رحمه الله، بأنه كبير ُالعائلة، لكنه ترك لكلابِه حُرّية افتراسِ مَنْ لا يُصَدّق أنه كبير الأسرة والعائلة والدولة والأمة والقارة و .. العالم.
لذا لم يـُصَدّق رئيسُ تحرير الصحيفةِ الكُبْرىَ أنَّ سَيّده يسير خلف زعماء آخرين، بحُكم السِنّ والحركة البطيئة، فاستعان بالفوتوشوب وجعله قبل الجميع، ولولا الحياء لجعلهم تحت قدميه.
عندما ألقى بيانَه قبل الأخير ارتفعت في ميدان التحرير قبل الدقيقة الثانية عشر أحذيةٌ غير تلك التي قذفها منتظر الزايدي، فغضبُ أبناءِ النيل علىَ المحتل الداخلي يعادل غضبَ أبناءِ دجلة والفـُرات علىَ المحتل الخارجي!
في اليوم الثالث والعشرين كَبُرَ بـَعْلُ ليلىَ الطرابلسي عشرين عاماً، وفي اليوم الثامن عشر أكمل مبارك عامـَه المئة قبل الموعد بسبع عشرة سنة، ولكن ما يجمعهما هو الكفيل في الخليج الذي لن يحتفظ بجوازِ سفر أيًّ منهما، فالمليارات التي سرقاها تضمن لكل منهما حرية البحث عن كفيل في بلد آخر!
كلمتان لو تفوَّه بهما أي شخص أمام مبارك وهو يستلقي علىَ غضروفه في قصره الخليجي لا يضمن له أحدٌ أن يتنفس بعدها: الشباب، وميدان التحرير، فإذا تذكر فجأة أنَّ حراسَ الثورة الايرانية على الجانب الآخر من المياه الدافئة، فقد أحكَم لنفسِه العُقدةَ التي لا حَلَّ لها، فَمَلـَكُ الموّتِ لا يحتاج لسفر ٍشاق حتى يصل إليه، وهو يعمل أوفر تايم في العراق بعيداً عن المنطقة الخضراء.
لم أتخل أو أتزحزح عن قناعاتي لسنواتٍ كثيرة وهي أن قلبَ مبارك مصنوعٌ من مواد صخريةٍ صُلْبَة وسوداء، ولو كان الأمرُ بيده لأمـَرَ بمسح شباب ميدان التحرير من علىَ وجه الأرض أو احراقهم، فهو طاغيةٌ ليس كالطـُغاةِ الآخرين، ويمكنه افتتاح مَدْرَسة للشياطين يكون هو مديرَها و.. مُعَلمَها الوحيد.
كان العالم كلٌّه مبهوراً، ومُندهشاً، وغيرَ مُصَدِّقٍ لمشهدٍ قال فيه شبابُ الثورة للملائكة: شكراً، لا تساعدونا فنحن قادرون على هَزِّ عرشه، وتقديم عشرة ملايين شهيد من أجل مصر.
المساحات الفراغية خلال الثورة في القصر ، والثكنات العسكرية، وأروقة أجهزة الأمن، والسفارات الأجنبية والعربية، سيكشف عنها المستقبلُ ليتضاعف حُبُّ المصريين لشبابهم لدىَ اكتشافهم أن مبارك كان يلعب لعبةً أكبر مما فعله الطغاةُ كلهم من كاليجولا ونيرون وهولاكو إلى زين العابدين بن علي قبل أن تدوس شعوبُهم على رقابهم!
كنت أقوم بتأجيل فرحتي الكبرى يوماً بعد يوم، فبياناتُ نِصْفِ الحقيقة لا تروي ظمأي، وعمر سليمان الوجه الآخر لمبارك، ولغةُ مِكِرٍ، مِفَرٍ، مُقْبِلٍ، مُدْبٍر كالتفويض والتنازل والانتقال السلس كلها كانت كوعد الذئب في ذات الرداء الأحمر قبل أن ينام في فراش الجدة.
فجأة وقف نائبُ الرئيس كأن سلاحا مُصَوَّبًا إلى ظهره يأمره بالقاء بيان كأنه تنزيلٌ من التنزيل علىَ عدة ملايين من الأنبياء في وقت واحد، وكان عمر سليمان خائفا حتى خِلْتُه قد لفظ أنفاسَه الأخيرة أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة!
مصر بدون مبارك!
فركت عيني كـَرَّتين فتحقيقُ الأحلام كان مُحَرَّماَ على المصريين منذ أن تولى الطاغية اِمساكَ رقابـِنا لثلاثين عاماً خَلَت، ومَرَّ شريطٌ في ذهني كأنه عَقْدٌ انفرطتْ حـَبَّاتُه فظللتُ أجمعها، وأعيدها، وأتأملها فإذا هي تاريخُ كتاباتي ضد سفاح مصر الأشر.
أتذكر يوم كان قلمي نِصْفَ حاد، وطلبتُ اجراءَ حديث مع الرئيس، وعندما اتصلت من أوسلو بسكرتير وزير الاعلام صفوت الشريف، ظن أنه يُبشرني وقال لي بأن الوزير وافق، وأنه أَعَدَّ الأسئلة لي لأطرحها على الرئيس مبارك!
سألته في المكالمة الهاتفية عن دوري أنا إذا كانت وزارةُ الاعلام سَتُعِد الأسئلة! فقال لي بأنني سأتشرف بلقاء الرئيس وطرحِ الأسئلة المُعَدَّة سلفاً!
غضبت لكرامتي، وقلت له بأن الرئيس سيتشرف لو أنني أعددت الأسئلة بمفردي، فصَدَمَه حديثي المغرور، وقال لي اعتبر الأمر مُنتهياً عند هذا الحد، وأغلب الظن أنه قال لصفوت الشريف بأن صاحبكم الذي أُرْسِل إليكم لمجنون!
الكتب السبعة الأولى أصدرتها في مصر، وحصلتُ على ترخيص من مباحث أمن الدولة بالاسكندرية، وفي واحد منها قام صاحب المطبعة بتشويه متعمد، وتغيير صفحات خمس مقالات عن مبارك خشية أن يغلق الأمن مطبعته، أما دور النشر فلم توافق أي منها على نشر كتاب لي!
كان ذلك قبل وضع اسمي في المترقب وصولهم!
أرسلت 600 نسخة من طائر الشمال إلى مكتبة مدبولي باتفاق مسبق، وعندما ذهب أحدهم لتسلم المجلة في المطار، واطّلع عليها، هرّوَل منها فِراراً، وتركها في المطار.
كنت أسافر إلى بلدي مرة في كل عام، وأكتب، وأنشر، وأنتقد نظام مبارك من الداخل والخارج، لكن الكثيرين من أصدقائي طلبوا مني عدم ارسال المجلة إليهم خشية استدعاء أمن الدولة لهم.
واتخذتْ كتاباتي منحىً حاداً، وصريحا، ومباشراً، ونشرت مقالي ( فخامة الرئيس جمال مبارك)، وبعدها تم وضع اسمي في القائمة السوداء لخصوم مبارك ونظامه العفن.
كان هناك جبل من الخوف يحجب رؤية زملائي عن وصف المشهد الكارثي لأم الدنيا في عهد طاغيتها المستبد.
ونشرت( ولكن عزرائيل لا يزور ميونيخ )و ( وقائع محاكمة الرئيس مبارك ) و ( ورسالة مفتوحة إلى أم الدنيا .. ماذا فعل بكِ هذا الرجل؟)، وبدأ جهازي العصبي يعمل جنبا إلى جنب مع قلمي، طلب مني البعض أن أحذف أسماءهم من البريد الالكتروني خوفا من كمبيوتر مطار القاهرة الدولي الذي سيكتشف أن لهم علاقة بي.
ونشرت ( سيدي الرئيس .. استحلفك بالله أن تهرب- سبتمبر 2004) و ( صناعة العبودية .. لماذا يحتقرنا الرئيس مبارك؟) و ( دموع المصريين تفيض على ضفتي النيل)، ثم دخلت في عالم المنتديات على الإنترنيت، وتم الغاء اشتراكي في أكثر من عشرين منها، حتى أن أحدهم اعتذر لي عن الغاء اشتراكي، ومنع مقالاتي لأن والد مصمم الصفحة يعمل في مكتب محافظ البحر الأحمر، وقام موقع للطلاب بالتهديد برفع دعوى قضائية ضدي، وأوحى أحدهم إلى صحيفة ( النبأ ) فقامت بنشر مقالٍ مسيئٍ لي.
ونشرتُ ( سيدي الرئيس .. وهل هناك غيرك؟) و ( رد من الرئيس مبارك .. لا ليس هناك غيري!) و ( وحوار بين الرئيسين حسني مبارك و .. جمال مبارك)!
ثم صدر كتابي الثامن في أوسلو ( وقائع محاكمة سيد القصر)، وكان على نفقتي الخاصة، كالعادة!
تم اتهامي بأن هناك ثأراً شخصيا بيني وبين مبارك، وكان ردي أنني أتحدى أن يكون هناك مصري شريف ليس بينه وبين مبارك ثأر شخصي!
ونشرتُ ( الرئيس مبارك يضحك في جنازة وطن) و ( البحث عن زعيم لمصر ) و ( حوار بين إبليس و.. الرئيس مبارك )!
كانت الدعوة لأول عصيان مدني في 2 مايو 2005، وكتبت مقالات، وبيانات، ومنشورات للثورة، وتلقيت كَمَّاً هائلا من رسائل التهكم والسخرية، وفي المقابل صدَّق دعوتي حفنةٌ صغيرة من شباب كانوا يرون في كتاباتي غضبا يعتمل في نفوسهم ضد الطاغية، وفشلت الدعوة، وخرج بضعة عشرات فقط وفي المقدمة الشاب الرائع والمتحمس محمد الشرقاوي.
في كل مرة ينتابني اليأس والاحباط والقنوط لدقائق معدودات، ثم يتسلل الأمل إلى كياني كله، ويبشرني بأن المرة القادمة ستطيح بالمجرم حسني مبارك.
ويبتسم من حولي، فهذا شخص مجنون يظن أن مقالاته قد تحُرّك شعرة من موضعها، ونشرت كتابي التاسع في أوسلو ( دعوة إلى التمرد).
وتقفز فكرة ( الانتفاضة الشعبية ) في عام 2006، وأتعاون مع الكثيرين من المتحمسين في مندرة كفاية، ولكن تصل رسالة من قوى المعارضة، واضحة وصريحة، بأنها لن توافق على دعوة للتمرد من الخارج، ونقوم بالغاء الدعوة.
وأنشر ( البيان رقم واحد- انقلاب عسكري في مصر ) و ( كلاب السيد الرئيس) و ( هل المعارضة المصرية ترقص مع النظام؟ ) و ( حمار يقدم أوراق ترشحه إلى الرئاسة) ..