بين شرعية الاستبداد والاستعباد وشرعية الحرية الشعبية
في فقه الشرعية السياسية :

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٢ - فبراير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

في الثورة الوطنية المصرية القائمة الآن للتحرر من الاستبداد اعلن المتحدث بإسم الجيش المصري وقوفه مع الشرعية ، وهي عبارة غامضة، هل هي شرعية مبارك القائمة على الاستبداد والاستعباد، أم هي شرعية الشعب المصري الذي أعلن رفضه لمبارك وصمد أمام جحافل جنوده وكلاب حراسته ..

حقيقة الأمر أن الثورة المصرية الشعبية أظهرت التناقض بين نوعى الشرعية :شرعية الاستبداد والاستعباد ، وشرعية الحرية الشعبية .

وهذا يستلزم شيئا من التوضيح ..

أولاً :

/p>

1 : من الناحية الدستورية ، فالشعب المصري أو " الأمة " هي مصدر السلطات ، ولكن تلك المادة تعطلها وتناقضها مواد اخرى تضع كل السلطات الفعلية التنفيذية والتشريعية في يد الرئيس مبارك، مما يجعله من الناحية الواقعية مصدر السلطات وليس الشعب ؛ فبكلمة منه باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة يتحكم في الجيش وقادته،وبكلمة منه بإعتباره الرئيس الأعلى للشرطة يستطيع أن يحرك الشرطة حيث اراد.ثم هو الرئيس الأعلى للقضاة،  ومجلس الشعب تابع له ، ومجلس الوزراء منفذ لأوامره ، وبعد كل هذا فليس مساءلاً أمام أي جهة ، أي جعله الدستور إلاهاً . وقد استخدم مبارك هذا الدستور لكي يحكم مستبداً كيف شاء . ولم يكفه هذا ، إذ قام بتعطيل القانون العادي واقام مكانه قانون الطوارئ . وظل يستخدمه فى قهر المصريين طيلة حكمه.

2 ـ وبمراجعة قانون الطوارئ وطبيعته يمكن اثبات عدم شرعيته حكم مبارك ، لأنه قانون بمواصفات وقتيه ووصفية محددة بالزمان والمكان ، مثل حالة الحرب والكوارث الطبيعية . والتوسع في قانون الطوارئ ليشمل الوطن كله ، وليمتد 30 عاماً يؤكد غياب المشروعية عن حكم مبارك، وأنه ليست له مشروعية واقعية فى الشارع لذا يستخدم الأحكام العرفية لأنه ضد القانون الطبيعي المؤسس للشرعية القانونية ..

3 ـ يزيد على ذلك أن مجالس الشعب التي كانت تجدد قانون الطوارئ كانت مطعوناً فيها ، وبعضها تم حله تنفيذاً لحكم المحكمة الدستورية العليا ، وما يترتب على الباطل فهو باطل .

4 ـ أخطر من ذلك أن مجلس الشعب الذي أعاد انتخاب مبارك للدورة الثانية لم يتم مدته ، إذ أكّدت المحكمة الدستورية العليا بطلانه فاضطر مبارك لإلغائه ، وطالما اصبح ذلك المجلس باطلاً فكل القرارات التي أصدرها تكون باطلة لأن ما بني على باطل فهو باطل .وبالتالى كانت رئاسة مبارك باطلة . وهذا ما أعلنه رئيس المجلس الباطل  رفعت المحجوب ، ودفع حياته ثمناً لهذه الفتوى .وتكرر نفس الوضع فى المجلس التالى حسبنا أذكر.

5 ـ  أى إن هناك لغط قانونى ودستورى حول شرعية مبارك ، وقد بدأ مبكرا بعد ولايته الثانية . ولكن استمر مبارك فى السلطة مستبدا به ليس بالدستور و القانون ولكن بقانون الغاب أو اللاقانون ،أو قانون الطوارىء . أو شرعية القوة الصريحة و المتبجحة . لذا لم يأبه مبارك باحتجاجات منظمات حقوق الانسان لأنه يسيطر على قوة الجيش و الحرس الجمهورى و الشرطة السرية والعلنية . أى استند فقط الى شرعية الاستبداد والاستعباد ، وقهر واستعبد بها الشعب المصرى الذى منعه ارهاب السلطة وتعذيب زبانية مبارك من الجهر بالمعارضة لشرعية مبارك ، فظل الاحتجاج محصورا ضد بعض الدوائر التنفيذية دون المساس بشخص مبارك ،الذى أصبح فوق النقد .وبهذه الشرعية استمر مبارك يقهر شعبه إلى ان جرى الأنفجار الشعبي يوم الثلاثاء 25 يناير 2011 ...

6 ـ هذا الأنفجار الشعبي بمظاهراته المستمرة حتى اليوم هي التى اكدت النوعية الأخرى من الشرعية شرعية الحرية الشعبية ، هي التي هزمت شرعية مبارك القائمة على تبجح القوة وشراسة الارهاب الحكومى. أكثر من هذا فإن تقدم وسائل الاتصال الذى أقام هذه الثورة هو أيضا الذى ضبط مبارك متلبسا بالهجوم على المظاهرات السلمية ، وفضحته امام العالم كله وجعلت قادة العالم يطالبونه بالرحيل. وفى النهاية أبطلت مشروعيته ، وألزمت الجيش الذى حلّ محل الشرطة على احترام شرعية الحرية الشعبية .ولكن المعضلة هنا أن جنرالات مبارك المتورطين معه فى الفساد لا يزال بعضهم متمسكا بشرعيته شرعية الاستبدد والاستعباد ، بينما يقف جسم الجيش المصرى من جنوده وضباطه الشبان مع شرعية الحرية الشعبية .

وهنا يبدو غموض قول المتحدث باسم الجيش القائل بوقوف الجيش مع الشرعية ، دون تحديد لماهية المشروعية ، هل مشروعية مبارك الذى فقد مشروعيته القانونية والدستورية والفعلية أم مشروعية الحرية الشعبية التى هبّ بها الشعب المصرى يتزعمه شباب طاهر مصمم على الموت دفاعا عن حريته وكرامة بلده .

 7 ـ وقد اتضح تماماً ان مبارك انتهى سياسياً ولكنه يريد الإنتقام من المصريين بحرق مصر، مما هبط به من رئيس فاقد للشرعية إلى مجرم حرب خائن لمصر والمصريين .

ثانياً : ـ من الناحية القرآنية فإن هناك أيضا نفس النوعية من  الشرعية شرعية الإستبداد والاستعباد وشرعية الحرية الشعبية .

وهنا نضع الحقائق القرآنية الآتية :

1 ـ  العدل ( القسط)هو هدف الرسالات السماوية :

يؤكد رب العزة علي ان الهدف من ارسال الرسالات السماوية وانزال الكتب السماوية هو اقامة العدل يقول الله تعالي (لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط :الحديد25) فاقامة الناس في أي مجتمع للعدل هي اقامة لشرع الله في العقيدة والسلوك ،أو اقامة الشريعة الالهية كما ينبغي ان يكون .ومن الغريب ان الاية نفسها تشير الي الشرعية الدينية (ما ينبغي ان يكون وهو اقامة العدل الكامل )وذلك في مقدمتها ، ثم تشير الي الشرعية السياسية ،أو محاولات البشر للوصول لهذا العدل عبر نضال يقوم علي السلاح أو الحديد ،والحديد ايضا منزل من السماء ( وتلك حقيقة علمية )كما نزلت الرسالات السماوية من السماء .

تقول الاية (لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط .وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ،وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ، ان الله قوي عزيز )أي انه :إذا لم يتحقق العدل فالسبيل هو الحديد ذو البأس الشديد ،وحين يستخدم الحديد لتحقيق العدل او الوصول الي شرعية سياسية تحاول الاصلاح فأنه يكون نافعا للناس، ولأن الامر يتوقف علي ضمائر الثوار المجاهدين في سبيل العدل فان الله تعالي وحده هو الذي يعلم غيب قلوبهم ،اذا كانوا يريدون فعلا ان ينصروا الله ورسوله في تحقيق العدل بين الناس ام لا .واذا حدث العكس وسكنوا في مساكن الذين ظلموا انفسهم فإن الامر يستلزم ثورة جديدة ،وهكذا يستمر الجدل الانساني بالقلم والسلاح لتحقيق العدل في الشرعية السياسية التي تعبر عن حلم الإنسان المتكرر في تحقيق الشرعية الدينية التي تعبر عما ينبغي ان يكون ، او حلم الفلاسفة في عالم مثالي .ومن هذا الصراع المتكرر يتسلط الظالم علي ظالم آخر، ويثور المظلوم على الظالم ، وتتهاوى باستمرار عروش الظلم حتى  لا يتحكم الفساد في الارض الي الابد وهذا معني قوله تعالي (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض:البقرة 251).

2 ـ مشيئة الإنسان هي الأصل في الهداية و ارادة التغيير :

إن العدل درجتان حسب التعامل مع الناس أو رب الناس .

 2/ 1 : التعامل مع الله بمعنى الا نظلم الله تعالى في اتخاذ شريك له ، وهو وحده الخالق المسيطر الذي لا يشرك في حكمه احدا (الكهف 26)وهذا العدل يستلزم هداية الي الحق تقوم علي الفطرة السليمة ،وهذه الهداية تبدأ باختيار الإنسان ،فالانسان يفكر بعقله مهتديا بفطرته السليمة يحاول الوصول الي الحق بموضوعية ،وعلي اساس هذا الاختيار الانساني للهداية يرشده الله تعالي الي الهداية ،أي تأتي مشيئة الله للهداية تالية ومؤكدة لمشيئة الانسان واختياره طريق الهداية ،وفي ذلك يقول الله  سبحانه وتعالى( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى :مريم 76)ويقول(والذين اهتدوا زادهم هدي وآتاهم تقواهم :محمد 17).

وفي المقابل فأن الذي يختار الضلال تأتي مشيئة الله تؤكد علي الذي اختاره من ضلال (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا : مريم 75)(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا :البقرة 10). وفي الحالتين فان من يشاء  الهداية يشاء الله هدايتة ،ومن يشاء الضلالة يشاء الله ضلالته ،يقول الله تعالي (فان الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات :فاطر 8)(قل ان الله يضل من يشاء ويهدي اليه من اناب :الرعد 27 ).

باختصار فان اقامة العدل مع الله تعالى ( أي بالهداية )يتوقف علي مشيئة الانسان وارادته الحرة ،هو الذي يقرر ويشاء الهداية وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي هذا القرار.وقد يستلزم هذا الاختيار جهادا ونضالا ،وتكون هداية الله و إرشاده قريبة من هذا الجهاد ،يقول تعالي ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين :العنكبوت69)

2 / 2 : وايضا فان اقامة العدل مع الناس ومع البيئة تستلزم مشيئة الناس وارادتهم ،فكيف يقوم الناس بالقسط دون ارادة ؟بل لابد للإرادة ان تكون جماعية ،وبقدر تكاتف الجماهير خلف الارادة الجماعية لتحقيق العدل يمكن النجاح في تحقيق العدل بأقل قدر ممكن من الخسائر .

ولكن كيف ينجح الناس علي حمل انفسهم علي المبادرة بالنهوض لتحقيق العدل ضد الظلم السائد ؟ وكيف يترك الناس القيم الاجتماعية الهابطة مثل الخنوع والسلبية والتواكل ليستبدلوها بقيم سامية هي الايجابية والحرية والشجاعة والحرية والتضحية والفداء وحب الحق والدفاع عن العدل؟

إن الاجابة هنا تكمن في التغيير،تغيير النفسية أو الذهنية ،وهذا التغيير يستلزم مشيئة حازمة قادرة فاعلة ،فان شاء الناس تغيير ما بأنفسهم من خنوع وخمول وتواكل وسلبية وقرنوا المشيئة بالعمل نجحوا .

وهنا تأتي مشيئة الله جلّ وعلا تالية لمشيئة الناس وهذا معني قوله تعالى (ان الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم :الرعد 11)، أي هي نفس القاعدة ان اقامة العدل مع الله تستلزم اختيار الانسان للهداية ثم تأتي ارادة الله لتؤكد هذا الاختيار الانساني ،واقامة العدل بين الناس ومع البيئة تستلزم تغييرا في الذهنية يقوم علي اختيار انساني  حازم ،وتأتي مشيئة الله مؤكدة وتالية لهذا الاختيار البشرى ..

وعليه فأن حركة الانسان نحو تحقيق العدل هي اختيار بشري يؤكده اختيار الله تعالي ومشيئته ...وهذه الحركة تتم في اطار الشرعية السياسية التي تهدف الي الوصول والاقتراب من الشرعية الدينية الالهية التي هي ما ينبغي ان يكون .

3 ـ شرعية الحاكم أو شرعية الثورة عليه مرتبطة بإرادة الناس:

 فماذا اذا اختار الناس السلبية والخنوع والخمول والتواكل والرضى بظلم الحاكم ؟هنا ايضا تكون الشرعية السياسية في ادنى صورها .فطالما ارتضى الناس الخضوع لحاكم ظالم فهذا هو اختيارهم وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي هذا الاختيار الذي لا يرضاه الله تعالي .

ان الله تعالي لا يرضي ان يكفر به عباده (ان تكفروا فان الله غني عنكم ولا يرضي لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم :الزمر 7)ولكن يشاء للكافرين ضلالهم طالما ارتضوا لانفسهم الضلال (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء:المدثر 31).

والله تعالي لا يريد الظلم في الارض (وما الله يريد ظلما للعالمين :آل عمران 108)(وما الله يريد ظلما للعباد :غافر31).ولكن طالما ارتضي الناس تحمل الظلم واعترفوا بشرعية الحاكم الظالم ملكا عليهم فان الله تعالي يعترف به حاكما عليهم .ومن هنا ارسل الله تعالي موسي وهارون رسولين الي فرعون اعتى الظالمين ظلما ،و اوصاهما بأن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشي (طه 44) . ووصف الله تعالي بعض الحكام بأنهم ملوك ،ومنهم ذلك الملك الذي ادعي الالوهية ودخل ابراهيم عليه السلام في جدال معه (الم ترالي الذي حاج ابراهيم في ربه أن اتاه الله الملك ،اذ قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال انا احيي واميت ..)الي ان يقول تعالي عن ذلك الملك (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين :البقرة 258).

فنحن هنا أمام مدعي للالوهية يصفه الله تعالي بالكفر والظلم .ولكنه يصفه ايضا (انه اتاه الله الملك)وقد اعطاه الله الملك لأن الشعب رضي به واختاره ،فجاءت مشيئة الله تالية لاختيار الناس.

ان هذه الحياة الدنيا قائمة علي اساس الاختيار (حرية الاختيار بين الايمان او الكفر ،بين الرضي بالقهر او الثورة عليه )وتأتي مشيئة الله لتؤكد علي ما يختاره الانسان والناس ،وهنا يكمن الاختبار في ذلك الاختيار .ثم يأتي يوم الحساب ليلقي كل إنسان نتيجة عمله حسب الشريعة الدينية الالهية ،وحيث يتحقق فعلا ما ينبغي ان يكون .

 

 أخيرا

لقد قام المصريون بتغيير ما بأنفسهم من خضوع وخنوع ، وواجهوا إرهاب مبارك ، فأفقدوه شرعية القوة ، وواجهوا قواته بصدورهم العارية بلا خوف من الموت ، ولا يزالون ، وهم يزدادون تصميما ، ومع تصميمهم تحول مبارك من حاكم فاقد للشرعية الى مجرم حرب وخائن لقومه . وبدأ العدّ التنازلى لوجوده فى مصر ، وربما لوجوده على قيد الحياة.

أكتب هذا المقال والساعة الآن السادسة مساء يوم الأربعاء الثانى من فبراير 2011 ، بتوقيت واشنطن ، أى الواحدة صباح الخميس بتوقيت القاهرة ، وبلطجية مبارك يهاجمون المتظاهرين الأشراف ، وتنقل شاشة السى إن إن الانجليزية فضائح مبارك وبلطجيته وتعليقات بعض الخبراء الأمريكيين الحانقة تنادى الرئيس اوباما بصفع مبارك .

والأحداث تتلاحق لتكتب صفحة جديدة من تاريخ مصر و العالم العربى .

اجمالي القراءات 13546