مأزق المقارنة بين شيخ الأزهر والبابا شنودة
مأزق المقارنة بين شيخ الأزهر والبابا شنودة

في الأحد ٢٨ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

مأزق المقارنة بين شيخ الأزهر والبابا شنودة
GMT 4:30:00 2007 الأحد 28 أكتوبر


نبيل شرف الدين

كثيراً ما قاومت فكرة بغيضة، تراود النفس الأمارة بالسوء، واستهجنت مجرد تخيلها، وهي المقارنة بين تصريحات رمزين جليلين من رموز الأمة المصرية، هما فضيلة شيخ الأزهر وقداسة البابا شنودة، فمجرد التفكير بهذا الأمر يشبه المقارنة بين الأب والأم فكلاهما يحب أبناءه بطريقته، لكن فضيلة الإمام الأكبر بدا كمن يأبى إلا أن يضع الجميع في مأزق حقيقي، حين يطلق تصريحات بين الحين والآخر، أقل ما توصف به أنها لا تليق بمنزلته السامية، ولا بمكانه أسلافه العظام من شيوخ أعرق الصروح الإسلامية في العالم.
ولعلي لا أتجاوز مجرد رصد الوقائع، ودرءاً لشبهة الطائفية فأنا والحمد لله مسلم أنطق الشهادتين عدة مرات يومياً، لكن هذا لا يحول دون تسجيل حقيقة بسيطة مفادها أن اعتراضات البابا شنودة لم تتجاوز يوماً حدود الاعتكاف في الدير، من دون التورط في إهانة الصحفيين أو غيرهم، أو المطالبة بجلدهم إن هم أخطأوا أو تجاوزوا، بل كان الرجل دائماً يترفع بحكم إدراكه العميق لحجم منزلته الروحية الرفيعة، عما يمكن أن يناله من انتقادات صحفية وصلت أحياناً إلى حد التجريح وفي أسوأ الأحوال كان "سيدنا" يكلف محاميه باللجوء للقضاء، تأكيداً على احترام دولة المؤسسات والقانون.
يحدث هذا على الرغم من أن قداسة البابا وباتفاق قطاع كبير من المراقبين، يلعب دوراً سياسياً بالغ الأهمية بحنكة، لكنه يظل حريصا على حساسية موقعه، فلا يتورط في تصريح استفزازي أو سلوك غير لائق إذ يحسب لكل خطوة موضعها، لأنه يدرك جيداً أنه يقود قاطرة ضخمة، لا تحتمل المنعطفات الحادة، ولا التوقف المفاجئ، حتى لا تقع الكارثة.
أما في الجانب الآخر، فلعل الجميع يذكرون ما جرى لزميل صحفي، دفعه الحماس مرة لسؤال شيخ الأزهر عقب صلاة الجمعة قبل أعوام، عما يحسبه تناقضاً في بعض فتاواه، فما كان من فضيلته إلا أن سب الصحفي على الملأ قائلاً: "انت بتكلم شيخ الأزهر يا ابن الكلب"، ثم لطمه "مولانا"، في سابقة لم تصدر عن أي من أئمة الأزهر طيلة تاريخه الذي يربو على ألف عام.
وفي يناير من العام 2004 اجرت الزميلة اللامعة جيهان الحسيني مقابلة مع فضيلة الإمام الأكبر، ومضت الأمور بهدوء حتى وصلت لسؤالها الأخير الذي يبدو أنه لم يرُق لمولانا، فما كان منه إلا أن سبها قائلاً: "أنتِ مش متربية وقليلة الأدب", وأسقط في روع الصحفية فتساءلت مذعورة: بتقول إيه يا مولانا؟، لكن فضيلته واصل قصفه: "أنتِ أبوكي ما ربكيش. يلعن أبوكي"، ولم يكن أمام جيهان إلا أن تفر باكية ولم تلتفت لمحاولات موظفي الأزهر للتهدّئة من روعها، واتصلت بمسؤولين كبار وروت ما جرى ونشرت الصحف تفاصيل هذه الواقعة حينذاك، وانتهى الأمر بتطييب خاطرها، فمن يجرؤ على مجرد التفكير بمساءلة الإمام الأكبر؟.
بعد هذه الوقائع وغيرها مما لا يتسع له المقام هنا، يأتي شيخ الأزهر وكأنما لا تكفي فضيلته هذه الترسانة الهائلة من القوانين التي تلاحق الصحفيين، فيضيف إليها عقوبة الجلد، قياساً على "قذف المحصنات"، ولا يمكن لصاحب ضمير يقظ أن يرى أدنى صلة بين الذين يخوضون في أعراض الغافلات ويسبون بنات العائلات، وبين حق آحاد الناس في انتقاد الحكام وسياساتهم، بل وحتى التعرض أيضاً لجوانب شخصية من حياتهم، لأن آثارها تطال بشكل أو آخر حاضر الأمة ومستقبلها، كالصحة والمرض والزواج والسلوك الاجتماعي وغيره، لأن الرجل العام "صانع قرار" يؤثر في مصالح الملايين ومستقبل الأجيال.
حتى التوضيح الذي قدمه الأزهر لاحقاً بعد أن وقعت الفاس في الراس في خطاب علني على الملأ وليست مجرد تصريحات في غرفة مغلقة، لا يبدو ـ بتقديري ـ كافياً لإقناع الكثيرين بأن فضيلته لم يكن يقصد الصحفيين، بل يتعرض لمسألة فقهية معروفة وهي "قذف المحصنات"، فلسنا بصدد التفتيش في الضمائر والنوايا، بل نكتفي بوقائع محددة وتعبيرات صريحة قيلت علانية.
ومنذ توليه منصب شيخ الأزهر عام 1996 بدا الشيخ طنطاوي كمن يصر على خسارة الجميع إلا دوائر الحكم فقد أثار غضب المحافظين الذين يتحدثون عن ضرورة استقلاله عن سياسات الحكومة, كما انتقده بعض الليبراليين واليساريين الذين رأوا أنه لا يتصدى بحسم للوعاظ والدعاة المتشددين أو غير المؤهلين, وأبدى بعض علماء الأزهر تحفظات على الكثير من تصريحات الإمام، وذهب البعض إلى أن الحديث عن تطوير الخطاب الديني مجرد "قعقعة لفظية" بلا مردود جاد، فالخطاب لم يتطور لكنه تدهور، وهو ما هيئ الساحة أمام انتشار أفكار غريبة عن واقعنا وتراثنا كالوهابية، التي يعاد إنتاجها الآن في مصر على نحو خطير ينذر بعواقب وخيمة، رغم تقلص هذه الأفكار السلفية حتى في دول نشأتها.
ولعل ما يجري الآن في الأزهر وثيق الصلة بالقرار الذي اتخذه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1961 حين حول اختيار منصب شيخ الازهر من الانتخاب بين كبار علماء الازهر، ليجعل تعيينه بقرار جمهوري، وتلحق تبعيته الإدارية لرئيس مجلس الوزراء بصفته الوزير المسؤول عن شؤون الأزهر، خلافا لوضع بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية القبطية، الذي لا تملك الدولة إلا أن تقر نتيجة اختياره وفق التقاليد التاريخية للكنيسة ومجمعها المقدس، لكن لا تمنحه راتباً، ولا مخصصات، ورغم أن ذلك الأمر ينطوي بدرجة أو أخرى على شكل من أشكال التمييز بين رعاية رموز الأديان، وهو ما ينبغي على أي دولة عصرية أن تنأى بنفسها عنه، غير أن له وجهاً إيجابياً آخر، وهو استقلالية بابا الأقباط نسبياً عن الحكومات، وتبقى مواقفه المؤيدة له في إطار المواءمة السياسية التي تقتضيها الظروف الدقيقة، دون أن يرى نفسه ملزماً بالدفاع عن سياسات ليست مقدسة، لأنها في نهاية المطاف مجرد اجتهاد بشري، يؤخذ منه ويرد عليه.
وتبقى في الختام ضرورة التذكير بما جرى لإمام التنوير المرحوم الشيخ محمد عبده، حين كان مفتيا للديار المصرية، والذي لم يحتمل ما آلت إليه أحوال الأزهر في تلك الأيام، فحذر من خطر المعممين أنفسهم على الإسلام قائلاً:
ولست أبالي ان يقال محمد أبلّ،            أو اكتظت عليه المآثم
ولكن ديناً قد أردت صلاحه                   أحاذر أن تقضي عليه العمائم
والله المستعان

اجمالي القراءات 5968