مهما كان تقييمنا لحجم ما جرى من أحداث تظاهرات الشباب في مصر أو لنتائجها المباشرة، فإن الأمور لن تعود في البلاد كما كانت قبل يوم الثلاثاء 25 يناير 2011. . هو يوم فارق في الحياة المصرية في عصرنا الحديث. . هو يوم البداية لعصر جديد بلاريب، فقد سقطت فيه مسلمات حول الشعب المصري، وسقطت ما نظنها بديهيات ومسلمات تحكم مستقبله، ولن يكون من قبيل المبالغة أن ن¨ نقول أن العروش قد اهتزت تحت من يجلسون عليها في اطمئنان واسترخاء وتبجح!!
على خلاف الكثير من التوقعات التي لا ترى أن الجماهير المصرية يمكن أن تثور، خرج الشباب المصري كما وعد وتوعد يوم 25 يناير الموافق عيد الشرطة، ليعلن غضبه على كل ما حوله. . نعم لم تكن أعداد المشاركين في التظاهرات متناسبة مع تعداد الشعب المصري الذي قارب 85 مليوناً، لكن من شاركوا في الأحداث، ومن تابعوهم من بيوتهم وعلى القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، وتمنوا لهم التوفيق والسلامة وأيديهم على قلوبهم، يعطي للنظام الحاكم رسالة لا يتجاهلها إلا مخبول أو جثة هامدة، ولا نقول مجرد معاند ومكابر. . نعم الشعب المصري ساكن ومستسلم ولا يميل للعنف والثورة. . هذه حقائق لا نستحي منها ولا ينبغي إنكارها، لأنه لهذا بالتحديد عندما يثور المسالم الخانع، فإن هذا يعني أن الأمور قد وصلت إلى نهاياتها، وأن المزيد من الاستمرار فيما نسير فيه منذ ستة عقود بات مستحيلاً، وأن الارتكان إلى وداعة الشعب المصري بات ضرباً من الحماقة والغفلة. . الشباب الجديد الآن يختلف عنا، نحن الذين طأطأنا رؤوسنا لجبروت الحكم الناصري، وتخبطنا وتحيرنا والسادات يتلاعب بنا يميناً ويساراً، ثم وقفنا نتفرج طوال ثلاتة عقود ومبارك يقودنا في هدوء وسط عواصف عالمية ومحلية، لنكتشف أن ثمن هذا الهدوء وما بدا حكمة في معالجة شؤوننا، لم يكن إلا تربة صالحة لنمو وتعملق الفساد بمختلف أنواعه!!
فساد سياسي يتستر بإطلاق حرية النباح للمعارضة، يتواكب مع تعجيز أمني وتشريعي للأحزاب والنقابات والمجتمع المدني. . وسيطرة مجموعة محدودة من الشخصيات على الحياة السياسية ومناصب الدولة، وتحالفها مع عائلات اتخذت مظهر رجال الأعمال، وأغلبها بعيد كل البعد عن التوصيف الشريف في كل العالم لرجال الأعمال، الذين ينشئون عجلات إنتاج يعمل فيها الشباب بجد، فتتراكم لدى الرأسماليين ثروات شريفة نظيفة، يعيدون توظيفها كما يحدث في جميع أنحاء العالم الحر، وتتوفر في ذات الوقت للشباب حياة تلبي طموحاتهم. . لم يكن الأمر في الأغلب في بلادنا هكذا. . لم يكن كما يجأر اليساريون تحالفاً بين السلطة والثروة، فهذا لا نراه عيباً أو تحالفاً غير شرعي، وإنما جرى التحالف لدينا بين السلطة، وبين من أتوا إلينا في الظلام لانتهاب الثروات المصرية. . كان العصر الناصري عصر نهب بالتأميم لثروات الأفراد والعائلات الرأسمالية الأصيلة، ليأتي عصرنا هذا ليتم نهب ثروات الوطن، بتحويلها لثروات عائلات مغامرة، لا تمتلك من مقومات رجال الأعمال الشرفاء قلامة ظفر. . هي فقط تحول الثروات من حساب الشعب لحساباتها الخاصة، ويمارس رموزها الإنفاق السفيه، الذي وصل في بعض الحالات إلى حد الجريمة المسببة لفضيحة وطنية!!
صار الشعب المصري أمثولة حتى بين الشعوب المحكومة بالاستبداد، بأن يبقى فرد واحد يحكمنا لثلاثة عقود حتى الآن، ليدور الحوار حول المستقبل متأرجحاً بين استمراره لست سنوات أخرى، أم استلام ابنه لقيادنا من الآن، ونجد رغم النفي الرسمي الملتوي لحديث التوريث، اللافتات بترشيح ولي العهد تملأ الميادين الرئيسية في المدن، فما يبدو وكأنه استخفاف بهذا الشعب، وكأنه سقط متاع يورث كما تورث قطعان الغنم، حتى لو كانت تصدر بعض الثغاء والخوار فيما يتم تسليمها من يد الأب إلى يد ابنه!!
فساد وفشل اقتصادي في تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية، وإهدار الموارد في مشروعات جنونية كمشروع توشكي، الذي تعالى أثناء إهدار الثروة فيه صراخ الخبراء والعلماء، لتقابل الدولة هذه التحذيرات بحملات دعائية، كتلك التي نواجه بها كافة ما يعترضنا من مشاكل، متصورين أن الكلمات والمقالات المدبجة من خدم النظام كفيلة وحدها بتحويل الفشل والتهريج الاقتصادي إلى نجاح. . في المقابل نجد التقاعس عن اتخاذ ما ينبغي على الدولة اتخاذه من إجراءات للتحول من الاقتصاد اشتراكي المركزي، إلى الاقتصاد الرأسمالي الحر. . تخاذل قد يرجع في جزء منه لعدم شفافية ونزاهة عملية التحول والخصخصة، والخوف من المضي بخطى ثابتة، كي لا يفتضح المستور، ومن جانب آخر لعجز النظام السياسي عن الوقوف في وجه التيارات الأيديولوجية أسيرة الماضي الشمولي ونظرياته الاقتصادية البائدة، والتي لم يتوفر له كوادر مخلصة وليبرالية تواجهها، وتوضح للجماهير زيف وخواء شعاراتها، وقد ضيق وخنق كل فكر مبدع وحر. . ذلك هو العجز المتوقع من نظام غير ديموقراطي، ولا يعتمد على مساندة حقيقية من الجماهير، ويفتقد للاستقامة والقناعة الفكرية بحتمية أن نعيش عصرنا الليبرالي المنفتح، لهذا نجد النظام وهو يحاول الاستمرار بأقل قدر ممكن من الضوضاء والاعتراضات، يجبن ويعزف عن اتخاذ خطوات اقتصادية وتشريعية جسورة، تنقلنا كما انتقلت روسيا ودول أوروبا الشرقية من نظام اقتصاد مركزي فاشل بجدارة، إلى آفاق الحرية والإنتاج والإبداع الاقتصادي والإنساني بصورة عامة. . هكذا لابد وأن تكون النتيجة الملايين الذين يعيشون في العشوائيات، والذي تتهدم منازلهم أو أكواخهم فوق رؤوسهم، والملايين من الشباب العاطل، أو الذي يستخلص لقمة عيشه بالكاد من أعمال عشوائية، سواء مشروعة أو غير مشروعة، فتنتشر الجريمة والأعمال الطفيلية التي تنهك جسد الوطن المتهالك أصلاً!!
فساد المعالجة الرسمية للمشكلة الطائفية، التي زودها عصر السادات بالوقود ومواد الاشتعال، بإطلاقه مارد الإسلام السياسي، ليسرح ويمرح في المجتمع، وليتغلغل في كافة مؤسسات الدولة، ليأتي يعصر مبارك ليشهد تحول الاحتقانات الطائفية المتفرقة، إلى تفجيرات ودماء تسيل هنا وهناك في كافة أنحاء البلاد، دون أن يفكر أو يجسر على وضع حد حاسم لهذه المهزلة، التي تهدد كيان الدولة ذاتها، قبل أن تهدد وجود وحياة الأقليات من أقباط وبهائيين وشيعة أيضاً. . وكيف يستطيع إن أراد أن يقف في وجه طوفان الإسلام السياسي، وهناك أعمدة من رجال الحكم ملكيين أكثر من الملك، أو متأسلمين أكثر من كوادر الجماعة المحظورة؟!!
الفساد والفشل الثقافي يتغول حين تصبح الثقافة رهينة لدى أصحاب الفضيلة ومعهم على الطريق أصحاب القداسة، ويُطارَد المفكرون والمثقفون والمبدعون، ويتفضل وزير الثقافة المستقر على كرسيه لدهر، بالقول أن الأزهر عندما يتكلم علينا أن نصمت جميعاً، ثم ندعي أننا نعيش في ظل دولة مدنية حديثة. . دولة نظامها التعليمي هو الأكثر فشلاً وظلامية، ومقررات التعليم الأزهرية تلقن الملايين من الأطفال والشباب فقه الإرهاب والكراهية والعداء للآخر. . ويحتضن القمر الصناعي المصري قنوات تبث الفتنة والكراهية في المجتمع علانية، وتفتح وسائل الإعلام المسماة قومية أحضانها وصفحاتها وساعات إرسالها لمن يحرضون ضد الأقليات، ويشيعون الدجل والخرافة في المجتمع، بل ويكسبون القضايا ضد من يحاول تنبيه الشعب المصري لخطرهم الداهم على المجتمع والعقلية المصرية، ويبيع مفكر مصري كبير عفش بيته، سداداً لتعويض لظلامي ممن أطلقهم علينا النظام بتهاونه وتواطؤه!!
هذا الواقع الذي نغرق في مستنقعاته هو ما تناولته في روايتي "زمن حودة تباتة". . زمن العشوائية والبلطجة والاحتقان الطائفي والجريمة والفقر والفساد الذي ينخر في عظام المجتمع بجميع طبقاته، وحالياً يتعثر سيناريو الفيلم المأخوذ عن الرواية بعنوان "الوضع تحت السيطرة" في دهاليز الرقابة على المصنفات الفنية، بحجة عدم مناسبة أحداثه للظروف الحالية، وكأن المعالجة السينمائية هي الخطر على المجتمع، وليس ما يجري بالفعل ونعايشه على أرض الواقع. . هي سياسة الإنكار والتكتم والتواطؤ، التي يتصور النظام أنها الكفيلة باستمرار جلوس من يجلس على أعناق هذا الشعب إلى أبد الآبدين. . ليأتي "يوم الغضب ليقلب" على الجميع مائدة تُنهش عليها جثة وطن وشعب!!. . هكذا يأتي "يوم الغضب" ليعطي الشباب إنذاراً واضحاً للجميع، أن الوضع الحالي لا يمكن القبول به، ولا يمكن أبداً أن يستمر، وأن ما قبله على مضض الآباء والأجداد، لن يقبله جيل انفتح العالم أمامه بفضل التقدم الهائل في وسائل الاتصالات، ورأى الشعوب الحرة وكيف تعيش، والشعوب المقهورة وكيف تثور!!
لكن هذا ليس كل شيء. . نعم الجميع غاضبون ناقمون. . نعم نعرف جيداً جميعاً ماذا نرفض، لتبقى مشكلة ماذا نريد. . تلك بالفعل هي الإشكالية المحيرة، التي إن لم نفك ألغازها ونحدد معالمها ولو تحديداً عاماً، فلن نستطيع أن نتقدم خطوة واحدة للأمام، هذا ما لم يترتب التقهقر للخلف على أي تحرك أو ثورة لنا. . ليس لدي إجابة تصلح عملياً لحل تلك الإشكالية، وإن كنت قد سبق وعرضت الكثير من ملامح التي تشير إلى الاتجاه المفروض علينا التحرك باتجاهه، لكن المسافة بين الواقع والمفروض في بلادنا شاسعة، فلا يسألني أحد عن خطوات عملية لسد هذه الفجوة، لأنني في حيرة من أمري، وفاقد الشيء لا يعطيه. . فقط أتساءل لنحاول جميعاً الحصول على إجابة: ماذا بعد الغضب؟