شكرا على هذا السؤال الهام والذكى . ونوضح الآتى :
1ـ فى الآية الكريمة (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)( يس 12 ) كلمة (وَآثَارَهُمْ ) معطوفة بالواو على :
(وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا )، والعطف هو ( عطف بيان ) أى عطف بالواو للتوضيح ،أى أن الآثار هى نفسها الأعمال التى قدموها فى حياتهم وليست بأى حال أعمال لناس آخرين مترتبة على أعمالهم ، ويؤكد هذا قوله جل وعلا فى الآية المحكمة والتى جاءت باسلوب القصر و الحصر(وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) ( النجم 39 : 40 ). فكل إنسان سيرى سعيه هو وعمله هو والذى سيؤاخذ به وسيحاسب على اساسه ، والناس جميعا سيرون كل اعمالهم وكل سعيهم بالخير أو بالشر من حسنات أو سيئات قبل أن يصدر الله جل وعلا غفرانه لمن تاب منهم ويكون مصيره الجنة .( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة 6 : 8 ).
والسعى يعنى عمل الانسان أثناء حياته بنفسه من قول او فعل او اعتقاد . وهذا السعى هو الأثر المترتب على الانسان ، وهو الأثار الصادرة عن نفسه وجسده الفانى المادى . وهذا الجسد المادى الدنيوى يموت و يعود الى الأرض التى أتى منها وينتهى الى لا شىء بتدمير الأرض وكل العالم يوم القيامة ، ولا يبقى للنفس سوى الآثار المترتبة على جسده الفانى ، أى السعى و العمل ، وهو الذى يتم كتابته وتدوينه وحفظه لترتديه النفس ثوبا لها وجسدا آخر لها يوم الحساب ، وعلى أساسه يكون نعيمها أو عذابها .
والتفاصيل فى سلسلة مقالات ( لكل نفس بشرية جسدان ).
وهنا ننصح بمراجعة كلمة (سعى ) ومشتقاتها فى القرآن الكريم للتأكد من مدلولها على حركة الانسان الاختيارية حال حياته فى هذه الدنيا .
وبالتالى فمن بنى مسجدا يبتغى وجه الله جل وعلا سيكون له سعيه فى بناء المسجد حين سعى فى ذلك وهو حىّ . فإذا مات وتحول المسجد الى مسجد ضلال وضرار فلا مسئولية عليه ، ولو ظل مسجدا للحق والهدى فقد أخذ أجره كاملا على سعيه الدنيوى . ونفس الحال فيمن يسعى ويبنى مرقصا للدعارة والفسق ، يحمل وزر سعيه حين سعى ، أما إذا ظل المرقص يؤدى مهمته أو أقلع عنها ـ بعد موت صاحبه فقد انقطعت الصلة بالموت ، وتنتقل المسئولية للأحياء فى المسجد أو فى المرقص.
وعند الموت ينتهى سعى الانسان ويتم غلق وقفل كتاب أعماله لا يستطيع أن يزيد فيه أو ينقص منه ، بل يصرخ المجرم طالبا فرصة أخرى بلا فائدة،وتبشره الملائكة بالجنة أو بالنار لتخفف عنه هول المفاجأة فلا يخاف ولا يحزن إن كان من اهل الجنة ، ولتزيده حسرة و رعبا إن كان من أهل النار .
ثم يستيقظ عند البعث يظن أنه نام يوما او بعض يوم .
أما قوله جل وعلا عن علماء الضلال : (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( النحل 25 ) فالآية تقول بصيغة المضارع (يُضِلُّونَهُم )و لم تقل ( أضلوهم ) ، وهذا من إعجاز وآيات إختيار اللفظ فى القرآن الكريم ، وسبحان من أنزل هذا الكتاب هدى وبيانا معجزا .
لو قال بصيغة الماضى ( وأوزار الذين أضلوهم بغير علم ) لكان المعنى منصرفا الى من وقع فى الضلال بعد موت أولئك العلماء المضلين ، ومثلا لا يقال إن من قرأ كتاب البخارى ووقع فى الضلال بسببه يحمل البخارى وزره . وهذا لا يجوز لأن البخارى يتحمل سعيه الذى كان يقوم به ( فى المضارع ) حال حياته . أى من أضلهم البخارى فى حياته سيتحمل البخارى وزرا إضافيا بسبب ذلك . لأن هذا الاضلال يقع ضمن سعى البخارى فى حياته وقبل موته . ومن هنا جاء التعبير بالمضارع (يُضِلُّونَهُم)، أى يقومون باضلالهم حال حياتهم ، وليس بعد موتهم .