بينما كانت الأسرة تحتفل في مدينة، أشبيلية، الأندلسية، الأسبانية، "بسبوع" أخر الأحفاد، مساء الجمعة، ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة (2010/2011)، كانت مدينة الإسكندرية تشهد مقتل ثلاثة وعشرين مصرياً مسيحياً، أثناء مُغادرتهم كنيسة القديسين، بعد قدّاس رأس السنة.
وكنت قد نجحت في تصدير عادة "السبوع" الريفية من قريتي بدين، إلى الولايات المتحدة، وهو طقس بمقتضاه، في اليوم السابع من ميلاد الطفل، تُشعل الأسرة سبع شموع، ويُعطي أقارب المولود، وخاصة من الأطفال ل&szliszlig;ل شمعة الاسم الذي يفضلونه... ويستمرون في مرحهم وغنائهم، إلى أن تنطفئ أخر هذه الشموع، والتي تكون هي اسم المولود، وكانت شمعة "جبريل" أي أن حفيدي الرابع هو جبريل أمير سعد الدين إبراهيم! وكانت فرحتنا غامرة، إلى الثانية صباحاً.
ولكن حينما اتصلنا بأفراد الأسرة الآخرين في مصر في اليوم التالي، لنزفّ إليهم الاسم الجديد، كان هناك شيء من الوجوم... فقد شهدت مدينة الإسكندرية، وحيث يُقيم شقيقي الأكبر حامد وأسرته وأحفاده، مذبحة راح من جرائها أكثر من ثلاثة وعشرين قتيلاً، وسبعين جريحاً، مُعظمهم من الأخوة الأقباط. وكانت الأسرة في مصر تعلم.
وطبقاً لما صرّحت به سُلطات المدينة، فإن جنود الأمن الثلاثة، الذين كانوا يحرسون مدخل كنسية القديسين، كانوا قد لاحظوا أن شخصاً غير معلوم الهوية لهم، أوقف سيارته قرب المدخل، وانصرف، وأن تلك السيارة، هي التي انفجرت عند خروج المُصلين من الكنيسة.
وعلى فرض صحة ودقة هذه الرواية، فإن السؤال المُلح هو، لماذا لم تتحوط سُلطات المدينة، بمزيد من الإجراءات الأمنية؟ ولماذا لم يسمح اللواء حبيب العادلي لثلاثين عُنصر أمني، بدلاً من الثلاثة لحراسة هذه الكنيسة الرئيسية. إن الرجل قد خلق جيشاً عرمرم من قوات الأمن المركزي، وصل حجمها إلى مليون ونصف ـ أي ما يصل إلى خمسة أمثال حجم القوات المُسلحة النظامية، التي تحرس حدود الوطن كله. فحتى على فرض أن في مصر كلها ثلاثة آلاف كنيسة، فإن كل ما ستحتاجه من الحراسة في أيام أعيادها هو تسعين ألف عُنصر أمني، من هؤلاء المليون ونصف، أي أقل من عُشرهم!
إن دماء هؤلاء الشُهداء من المسيحيين والمسلمين ستظل في عُنق الوزير، والرئيس الذي استبقاه في هذا الموقع لحوالي رُبع قرن، إنهما "جانيان بالإهمال".
أما الجاني الحقيقي المبُاشر، والذي لم يُقبض عليه إلى وقت كتابة هذا المقال، فربما يكون بالفعل كما قال أحد المسئولين، عميلاً لتنظيم "القاعدة"، الذي يتخذ من الحدود الأفغانية ـ الباكستانية "وطناً". ولكن هناك احتمالات أخرى، تستحق التأمل والاختيار.
* من تلك أن الحادث يأتي في غضون أسابيع من أسوأ انتخابات في تاريخ مصر الحديث، من حيث مستوى "الفُجر" (واسم فاعلها "فاجر").
* ومن ذلك أيضاً أن مُهندس هذا الفُجر، هو بالفعل مُهندس من الإسكندرية، تدرج بسرعة صاروخية، خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلى أن أصبح المسئول الرئيسي عن تزوير الانتخابات في الحزب الحاكم. وهو الذي نُقل عنه، صبيحة الانتخابات، الزهو بإنجازاته، حيث حرّم الإخوان المسلمين من الفوز بأي مقعد، بينما كان لهم في أخر برلمان 88 مقعداً، أي حوالي رُبع أعضاء المجلس السابق.
* كذلك كان من دواعي زهو نفس هذا القيادي السكندري، أنه خدع قيادة حزب "الوفد"، لكي تُشارك في الانتخابات ولا يُقاطعها، فتضفي بذلك عليها "الشرعية"، ثم لم يحصل حزب الوفد على شيء في المُقابل.
لقد نقل نفس هذا القيادي الحزبي السكندري خبرته الاقتصادية في احتكار سلعة إستراتجية مثل الحديد، إلى مجال السياسة والتشريع. ويُقال أنه بملياراته، يُنفق على الحزب، وأمناء الحزب بسخاء غير مسبوق. ويُقال أنه حتى لو أنفق مليار جنيه، فإنه يعوضها برفع سعر الحديد، عدة جنيهات.
وهكذا، أصبحت الإسكندرية بفضل هذا القيادي الحزبي، نموذجاً صارخاً لمقولة تزاوج "الثروة" و"السُلطة". ولذلك لا نستبعد أن يكون من خططوا ونفذوا لانفجار كنيسة القديسين، قد فعلوا ذلك قصداً، لتجسيم الجريمة السياسية الأكبر في حق الوطن.
كذلك قيل في أحد تفسيرات توقيت وهدف الانفجار، أن عناصر في المؤسسة الأمنية والحزب الحاكم قد يكونوا ضالعين في حدوثه، لكي يُسهّلوا على النظام الحاكم مُهمة تجديد وتمديد العمل بقانون الطوارئ، الذي قارب الثلاثين عاماً، منذ أكتوبر 1981، في أعقاب اغتيال الرئيس أنور السادات.
ورغم أن التفسير الأخير، هو أقرب في روحه إلى "نظرية المؤامرة"، الذي لا يميل له هذا الكاتب كثيراً، إلا أننا نعرضه هنا، كاحتمال. ونترك للقرّاء الأخذ به من عدمه.
ولكن في كل الأحوال، على المصريين جميعاً، أن يتضامنوا مُسلمين وأقباطاً، في إدانة الحدث، واستنكار دوافعه، والرد العملي عليه، لا فقط بالمُشاركة في الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، الذي يُحيه أقباط مصر يوم 7 يناير من كل عام، ولكن بالضغط على النظام لتلبية مطالب الأقباط، التي تُحقق لهم مواطنه معنوية وفعلية طال أمد استحقاقها.
ونقصد بذلك ما يلي:
1ـ قانون دور عبادة موحد، يجعل إنشاء الكنائس بنفس الإجراءات التي تُنظم إنشاء المساجد. فلن يُضير مصر أن يكون بها مليون كنيسة، كما لا يُضيرها أن يكون بها مليون مسجد. ولنتوقف عن استحضار "الخط الهمايوني"، والشروط العشرة التي خطّها العُرابي باشا منذ قرن مضى لإنشاء وترميم الكنائس، والتي لا تنطبق على إنشاء وترميم المساجد.
2ـ النص دستورياً على أن يكون للأقباط تمثيل في كل المجالس السيادية المُنتخبة لا يقل عن عشرة في المائة (10%). ولنتوقف عن الخداع الجمعي للذات الوطنية، باستحضار إما ذكريات ثورة 1919، وما بعدها من رفض قبطي لمبدأ النسبة (الكوتا). فقد كان الزمن غير الزمن، والحُكّام غير الحُكّام. كذلك فلنتوقف عن مُقارنات خائبة، مثل القول أن ذلك يؤسس لنظام طائفي، مثل لبنان، فليتنا مثل لبنان ـ حيث هي الدولة العربية الواحدة، التي يُصنّفها الكتاب السنوي لمنظمة العفو الدولية، ولمؤسسة "بيت الحُرية"، كديمقراطية كاملة، وهو تصنيف لم تحصل عليه مصر مرة واحدة، خلال العقود الخمسة الماضية. ثم إذا كانت دول ديمقراطية عريقة، مثل سويسرا وبلجيكا، تأخذ به، فما الضرر أن تأخذ به مصر. وأخيراً، إذا كنا قد أخذنا بنفس مبدأ "النسبة" لتمثيل العمال والفلاحين والنساء، فما هو الضرر في اعتماد نفس المبدأ بالنسبة للأقباط؟
3ـ الإجراء الثالث، هو إعادة صياغة مناهج التاريخ والتربية القومية، بحيث تتعلم الأجيال الجديدة، من مسلمين وأقباط، أن أصولهم واحدة، فرعونية ـ قبطية، وأن 99 في المائة من المصريين كانوا مسيحيون أقباطاً، لستة قرون على الأقل (من القرن الأول الميلادي إلى القرن السابع)، وأن تحوّل المصريون إلى الإسلام، كان تدريجياً. ولم تصبح الأغلبية مسلمون إلا بعد خمسة قرون من الفتح الإسلامي، أي مع القرن الثاني عشر الميلادي. أي أن أقباط مصر هم الذين حافظوا على استمراريتها الحضارية، عبر القرون، بما في ذلك الكثير من العادات والتقاليد والأعراف، والتي ما زالت تعيش معنا حتى اليوم ـ بما في ذلك طقوس الميلاد (السبوع)، والأفراح، والجنائز، والبعث، والحساب والثواب في الدار الآخرة.
إن الاستجابة الشعبية والحكومية، بتبني الإجراءات الثلاثة المذكورة أعلاه، هو الأكثر جدوى، وهو الذي يُضمد الجراح، ويُخفف الآلام. وربما يسد إلى غير رجعة القنوات التحتية للتعصب، والوجوه البشعة للتفرقة بين أبناء الوطن الواحد.
اللهم فاشهد