مفهوم النبي والنبيء
والفرق بين دلالة جمع الأنبياء والنبيين
لاحظ أهل النحو وجود صيغتين لجمع كلمات مُعيّنة أحدها جمع المذكر السالم، والآخر جمع التكسير، مثل شاهدون، وشهداء، وأرادوا أن يفرقوا بينهما في الدلالة، فقال جمهرة منهم: جمع المذكر السالم يُفيد جمع قِلّة الذي أعلاه عشرة أفراد، وجمع التكسير، ويُفيد جمع الكثرة، وهو من فوق عشرة أفراد، واستمروا على هذا التفريق إلى يومنا المعاصر ي&Ntildilde; يرثون هذه النتائج دون دراسة أو نقد لها، وبما أن القرآن مصدر للسان العربي، وميزان له نعرض رأي النحاة عليه لمعرفة درجته من الصواب.
فنلاحظ أنه ليس كل جمع مذكر سالم له صيغة جمع تكسير مثل كلمة ( المسلمون والمؤمنون )، وكذلك نجد أن جمع المذكر السالم في الخطاب القرآني لا يُفرّق بين جمع قليل وجمع كثير، فالخطاب واحد قَلَّ أم كَثُر الجمع، وهذا يدل على خطأ رأي هؤلاء النحاة فيما ذهبوا إليه من تفريق بين صيغتي الجمع بالقلة والكثرة.
واعتماداً على قاعدة: إذا اختلف المبنى اختلف المعنى ضرورة، لابد من وجود فرق في الدلالة بين صيغتي الجمع.
أول أمر ينبغي ملاحظته هو أن اللسان العربي انعكاس صوتي لأحداث أو ظواهر الواقع، وهذا يقتضي أن ندرس دلالة الكلمة من واقعها، وليس من المعاجم أو الشعر، ومجرد وجود الكلمة مستخدمة في النص القرآني يدل على وجود ظاهرتها في الواقع سابقة عن اللفظ، وإذا غاب اللفظ عن الاستخدام اللساني، ولا وجود له في النص القرآني، فهذا يدل على نفي العلم بوجود ظاهرة له على أرض الواقع، وبما أن كلمة (نبيّين) وكلمة (أنبياء) موجودتان في النص القرآني فهذا يدل على وجود ظاهرتيهما في الواقع.
- {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ }النساء155
- {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ }النساء163
كلمة (نبي) اسم فاعل ويتم جمعها على صيغة الجمع المذكر السالم (نبييّون) مثل:
(شاهد) وجمعها (شاهدون)، (عالم) وجمعها (عالمون).
وهذه الصيغة وجمعها يدلنا على تعدي الفعل من الفاعل إلى الواقع، أما إذا تغيرت صيغة الجمع لهم، فهذا يدل على تغيير المفرد، وتغير المعنى، من باب: إذا تغير المبنى تغير المعنى ضرورة.
لنرى ذلك من خلال الأمثلة ذاتها:
(شهيد) وجمعها (شهداء)، بخلاف (شاهد) التي جمعها (شاهدون).
(عليم) وجمعها (علماء) بخلاف (عالم) التي جمعها( عالمون).
(خبير) وجمعها (خبراء) بخلاف ( خابر) وجمعها (خابرون)
(حكيم) وجمعها (حكماء) بخلاف (حاكم) وجمعها ( حاكمون).
الملاحظ في هذه المفردات أنها تدل على وصف ثابت في الفاعل غير متعدية، وهي لازمة له وعرفت اصطلاحاً بصفة مشبهة باسم الفاعل، وهذا واضح في التفريق بين دلالة الكلمة (شاهد) المتعدية، وكلمة (شهيد) اللازمة، وكذلك كلمة (عالم) وكلمة (عليم)، وبذلك وصلنا إلى ضرورة الفرق بين دلالة (النبييّن) المتعدية، ودلالة (الأنبياء) اللازمة .
نبأ : خرج منها الفعل الرباعي أنبأ أو نبَّأ – يُنْبئ أو يُنَبِّئ – إنباءً، فهو نبيء، والمصدر النَّبُوءَة.
نبا: خرج منها الفعل الثلاثي نبا – يَنبو – نَبْياً، فهو نبي، والمصدر النُّبُوَّة.
نبي مفرد نبييّن : اسم فاعل وهو متعدي وأفادت دلالة الياء الجهد الممتد زمانياً، وهو من الفعل الثلاثي (نبا) التي تدل على ستر وجمع مستقر منته بامتداد وإثارة في الزمان والمكان، ومن هذا الوجه قال المفسرون: إن كلمة نبي تدل على الرجل الذي يرفع الناس ويسمو بهم إلى الله، فهو مثل الطريق الممتد زمانياً ومكانياً.
انظر تفسير القرءان "روح المعاني" للآلوسي الجزء (12) في شرحه للآية: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً }مريم 51. [... فالنبي من النبوة بمعنى الرفعة . ويجوز أن يكون من النبأ وأصله نبيء أي المنبىء عن الله تعالى بالتوحيد والشرائع ورُجِّح الأول بأنه أبلغ قيل، ولذلك قال r: « لست بنبيء اللهتعالى –بالهمزة- ولكن نبي الله تعالى » لمن خاطبه بالهمز وأراد الغض منه]. يشير للحديث عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : جاء أعرابي إلى رسول الله r فقال : يا نبيءالله . فقال رسول الله r: ( لست بنبيء الله ، ولكني نبي الله ). أخرجه الحاكم وقال :هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.
نبيء مفرد أنبياء : صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن فَعيل مثل نسيء و قَتيل، وهي صفة حال لازمة وأفادت الهمزة في آخر الكلمة الظهور المتوقف أو المنقطع، وهي من الفعل الرباعي (أنبأ). ونقول:نبأتُ من الأرض. إذا خرجت منها، وسُمي النبيء نبيئاً لأنه يخرج منه الأنباء( الخبر الجديد أوالمهم). ولذلك لا يصح تسمية النبي: بنبيء الله، فقط لأنها تدل على الرجل الذي أخرجه الله، ويُتَوَهم منها طريد الله، وهذا من الناحية الثقافية، أما لسانياً فكل نبي لله هو نبيء عنه.
ويوجد وجه في أحد التلاوات المتواترة للنص القرءاني ورد فيها كلمة نبيّين أو نبي مهموزة أي نبيئين أو نبيء.
فالنبي هو العالم المتصل بالله بصورة دائمة ، وقد قام البرهان على صدقه، فهو صادق دائماً، ويُشرف على التعليم والدعوة إلى الله ، ويقود الناس للنهضة والحرية والفلاح فهو إمام لهم.
والنبيء هو الذي يُنبئ بأخبار غيبية أو أحداث من خلال دراسته أو استقرائه دون التدخل في تطبيقها أو الدعوة إليها.مثل المتنبئ لظواهر الجو من حرارة أو برودة أو نزول أمطار، أو يدَّعي التنبؤ عن الله وقد يصدق أو يكذب.
فنبي الله هو نبيء ضرورة، وأنبياء الله كلهم نبيّون.
لذا؛ ينبغي الانتباه حين استخدام اسم الفاعل أو الصفة المشبهة باسم الفاعل في النصوص القرآنية، وكذلك ينبغي التفريق بين دلالة الفعل الثلاثي ، والفعل الرباعي، لأن الاستخدام ليس اعتباطياً، وإنما لحكمة ومقصد من العليم الحكيم.
ونصل الآن إلى مسألة هامة جداً ألا وهي هل كلمة نبي أو نبيء تطلق على غير نبي أو نبيء الله؟
والجواب
إن كلمة نبي أو نبيء لسانياً تطلق على كل من تحقق به المفهوم، وبالتالي يوجد نبي الله ، ويوجد نبي فقط، وكذلك يوجد نبيء الله ، ويوجد نبيء فقط، ولكن غلب في الثقافة الإسلامية على إفراد تلك المصطلحات على نبي ونبيء الله فقط، وهي غير ملزمة لنا، لأن القرءان نزل بلسان عربي مبين ولم ينزل بما تعارف عليه الناس، وفي القرءان نرى قوله تعالى:{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }البقرة91، فذكر كلمة (أنبياء) مضافة إلى الله يدل على وجود أنبياء لا يُنبئون عن الله مثل النبيء عن الأحوال الجوية مثلاً، وهذا مفهوم المضاف والمضاف إليه، وإلا كان الخطاب عبثاً وحشواً في الكلام إن لم يكن موجوداً إلا أنبياء الله في الواقع.
وانظر قوله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }البقرة213
ذكر كلمة (فبعث الله النبيين) فهؤلاء النبيون هم من الله ، أما غيرهم فهم نبيّون لساناً فقط كونهم قادة علماء صالحين دعاة إلى الله وما أكثرهم في التاريخ الإنساني لذلك قال الله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً }النساء69
فكلمة الرسول في النص يقصد بها الرسالة كما هو معروف في اللسان العربي والاستخدام القرءاني، وهؤلاء الناس المطيعون يخبرهم الله أنهم مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وهذا يلزم وجود هذه المقامات بشكل دائم لا تنقطع من الوجود، وهذا دليل على أن دلالة كلمة (النبيين) في النص ليست هي المضافة لله ،فهم ليسوا مبعوثين من الله، وإنما هم قادة وعلماء صالحون دعاة إلى الحق والخير والنهضة بالعباد والبلاد .
والأمر بالإيمان بالنبيين عام يشمل النبيين الذين بعثهم الله ، والنبيين الذين وصلوا إلى هذا المقام بعلمهم وصلاحهم ،انظر قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ...}البقرة177، وهذا البر مستمر إلى يوم الدين ، ومطلوب من الناس أن يؤمنوا بهم، وبما أن الله ختم النبوة المتعلقة ببعثه، وختم النبوءة أيضاً من عنده، فبقي النبيِّون والنبيئون من الناس (القادة الراشدون العالمون الصالحون الدعاة إلى الله ) و( المتنبئون بالعلم والدراسة) يجب الإيمان بهم بمعنى إتباعهم وطاعتهم فيما يأمرون من الخير والمعروف ونهضة العباد والبلاد وفق لا طاعة لأحد في معصية الخالق ، وإنما الطاعة بالمعروف، وقل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
والخلاصة
كل نبي مبعوث من قبل الله هو نبيء ورسول ضرورة، وهذا مقام اصطفائي، والختم هو لمقام النبي المبعوث من قبل الله واقتضى ذلك ختم مقام نبيء الله ورسوله، مع استمرار هذه المقامات بين الناس لإقامة الحجة عليهم دون النطق باسم الله، وهذا مقام اكتسابي.