الإسلاميّون ولباس المرأة: من الحشمة إلى الحجاب ثمّ النقاب
حسام تمام *
يلاحظ المتابع لتاريخ الدعوة الإسلامية الحديثة أنها في البداية لم تكن تجعل من الدعوة إلى الحجاب قضية محورية، وأنها تكاد تكون غائبة أو متأخرة في أجندة الحركة الإسلامية في العقود الأربعة الأولى لنشأتها، منذ أسس الإمام حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928. ومن يراجع التاريخ الاجتماعي لحقبة الأربعينيات، التي تمثل أوج حركة الإخوان المسلمين، أو يراجع أرشيف الصور الفوتوغرافية لهذه الفترة، فسيفاجأ بأن ملابس «الأخوات المسلمات» والناشطات في العمل مع الإخوان لم تكن تجاوز في أفضل الأحوال «الإيشارب» الذي يغطي الرأس. ولم تكن ملابس بنات الإخوان المسلمين ونسائهم، فضلاً عن علماء الأزهر ودعاته، تختلف كثيراً عن ملابس المجتمع المصري المحافظ، بل كانت هناك بعض الأسر التقليدية في صعيد مصر وبعض المدن أكثر تشدداً في أزياء النساء، حتى كانت المرأة فيها ترتدي زياً تقليدياً يغطيها بالكامل عند خروجها من المنزل، وكان خروج المرأة وقتها نادراً.
حرّرت شهادة السيدة فاطمة عبد الهادي عن تاريخ الأخوات المسلمات (الفرع النسوي للإخوان المسلمين، وهي إحدى أهم رائداته)، فلفت نظري الغياب شبه التام لقضية لباس المرأة، إلا ما يتعلق بالموقف العام من العري والابتذال الذي لم يكن يختلف فيه الإخوان عن غيرهم من القوى الاجتماعية الأخرى. لم تكن الدعوة الإسلامية تتكلم وقتها عن شكل أو نمط محدد للباس المرأة، إلا ما كانت ترفضه من ملابس نساء النخبة والطبقات المترفة المستغربة، التي كانت تقلد المستعمر وتتماهى معه. ودون ذلك لم يكن هناك استقطاب بشأن الزي ولباس المرأة. فغالبية المجتمع كانت نساؤه محتشمات يقترب لباسهن من مواصفات الحجاب الشرعي، إذا ما أردنا توصيف الحشمة والستر في قائمة مواصفات مفصلة (وإن كان يصح في رأيي النظر إلى لباس المجتمع التقليدي باعتباره عين اللباس الشرعي!).
يؤرخ بنهاية الستينيات وعقد السبعينيات من القرن الماضي كبداية لانتشار ما صار يعرف بـ«الحجاب»، وارتفاع الدعوة إليه لباساً شرعياً، بل اللباس الشرعي الوحيد للمرأة المسلمة على مدى واسع في بلد كمصر. في هذه الفترة كانت البلاد تعيش موجة واسعة للعري والابتذال، الممنهج أحياناً عبر بعض التيارات اليسارية العلمانية المتطرفة، وهو ما ظهر جلياً في الأعمال الفنية التي كانت تمثل خرقاً وتعدياً على ثقافة الستر والاحتشام التي تربّى عليها المجتمع. وفي الفترة نفسها، بدأت بواكير الصحوة الإسلامية التي تغذت من رافدين أساسيين هما: الرافد القطبي ذو الروح الانعزالية، المفارق للمجتمع والداعي لإعادة أسلمته من جديد (بعكس مشروع حسن البنا الداعي لاستكمال أسلمة المجتمع)، والرافد الوهابي الحجازي الذي يقوم على سلفية شكلانية تتعامل بتشدد في مسائل اللباس، وتستحضر نموذجاً محدداً لما تعتبره لباساً شرعياً، يفترض أن تتجسد فيه كل القيم العليا التي يدعو الإسلام المرأة إلى الالتزام بها. وهو تحول جاء ضمن سعي «أيديولوجي» أوسع لبناء مجتمع بديل على أساس من الإسلام.
نشطت الحركة الإسلامية بأطيافها المختلفة في الدعوة إلى الحجاب في صورة معينة ومحددة، خلافاً لما كان عليه النظر الفقهي والشرعي المستقر في أن أي لباس للمرأة مباح (أي شرعي) ما دام ساتراً للجسد فلا يصفه أو يحدده، ولا يشف عما تحته، ولا يكون زينة في ذاته، أي لا يمثل خروجاً على الزي السائد والمقبول من المجتمع المسلم.
حاولت أن أتتبع تاريخياً الزمان الذي ظهر فيه الحجاب بصورته المتداولة بين الإسلاميين، فرجحت أغلب الروايات أنه بدأ في منتصف السبعينيات بجامعة الإسكندرية التي كانت السلفية هي المهيمنة على الجماعة الإسلامية فيها. وربما كان هذا سبب شيوع صفة الحجاب «الإسكندراني» على هذا النوع من الحجاب الذي جرى تعميمه في ما بعد، عبر الجماعة الإسلامية، على بقية الجامعات المصرية، ومنها خرج إلى المجتمع المصري.
لم تعد المتبرّجات السافرات وحدهنّ المستهدفات بالخطاب الإسلامي الجديد في قضية اللباس، بل صارت كل فتيات المجتمع ونسائه، ومنهن المحتشمة التقليدية أو المحافظة، مستهدفة أيضاً بهذا الخطاب الحاسم والقاطع في أنه لا لباس «شرعياً» يجوز لهن إلا الحجاب بالمواصفات التي صاغتها الحركة الإسلامية من تصورها لما كان عليه لباس المؤمنات في زمان السلف الصالح: الحجاب الواسع الطويل المنمط ذو اللون الواحد الذي كان غريباً عن لباس المجتمع، قبل أن يتحول لاحقاً إلى النقاب مع تصاعد المد الوهابي في السنوات الأخيرة.
لم يعد المطلوب من الفتاة أو المرأة أن تلتزم القصد في الملبس أو الاحتشام، وهو ما يمكن أن تجده في لباس أمها وجدتها المنتشر في الريف أو الصعيد أو العائلات التقليدية والمحافظة، بل صار عليها الدخول في لباس جديد لم يتأثر في شكله وطبيعته بأي من مؤثرات التاريخ والجغرافيا، ولا تظهر فيه أي تعددية ثقافية أو اجتماعية. إنه لباس وليد رؤية سلفية، لاتاريخية، مخاصمة للثقافة والتراث، تحيل إلى نموذج متخيل في اللباس. وصار يباع في الجامعات والمدارس والمساجد بأسعار رمزية لتيسير نشره، وكثيراً ما يتحول إلى هدية توسلية يتوجه بها إلى الفتاة المستهدفة بالدعوة!
طوال عقد السبعينيات جرى ما أسميه بـ«أيقنة» الحجاب كشكل محدد للباس الشرعي للمرأة، أي تحويل الحجاب إلى أيقونة ترمز لمجموعة من القيم والأخلاق وتكاد تجسدها حصرياً، فضلاً عن اختصاره لكل قضايا المرأة المسلمة التي تبدأ منه ولا تنتهي إلا به. لقد جرى الربط الشرطي والآلي بين ارتداء الحجاب والأخلاق، بحيث صار الحجاب علامة وحيدة وحصرية على الأخلاق التي يُفترض أنها تغيب بغيابه وتحضر بحضوره، فصكت شعارات مثل: حجابك أخلاقك، حجابك عفتك، الحجاب فريضة كالصلاة، الحجاب قبل الحساب، الحجاب عفة طهارة نقاء، الحجاب عنوان حيائك. وكان الربط الآلي والشرطي بين شكل معين للباس ومعاني الحياء والعفة والطهارة والنقاء جزءاً من سمة الاختزال والتسطيح التي غلبت على الخطاب الإسلامي الحركي ذي النفس الأيديولوجي الذي ساد حقبة السبعينيات والثمانينيات.
وهكذا نظر إلى الحجاب منفصلاً عن الحشمة التي هي تحييد الأنثى لجسدها وأنوثتها في التعاملات والعلاقات التي يفترض أن تدور خارج ثنائية الذكر والأنثى، مثل العمل والدراسة وخلافه... ومن المفهوم أن يكون الحجاب هو أكثر ما يتحقق فيه هذا الحياد، لكن الواقع يقول إن هذا الحياد كثيراً ما تحقق في لباس آخر غير الحجاب، كما نراه في لباس المرأة التقليدية أو المحافظة التي ما زالت تتمسك بالاحتشام في الملبس، والبعد عن الإثارة دون ارتباط بنظر فقهي معين.
ورغم أن هذا التحييد/ الاحتشام من المفترض أن تتوافر شروطه في المحجبات، فإن الواقع أن جزءاً ليس هيّناً من المحجبات (كما سنرى) يتصرفن كإناث يرغبن في إبقاء جمالهن ضمن المعادلة، بل أكثر من ذلك، يرغبن في أن تتحكم الأنثوية في علاقات لا ينبغي أن تحضر فيها الأنوثة.
جعل «الحجاب» أيقونة تجسد كل معاني الأخلاق والالتزام الديني كان سبباً في غياب فهم صحيح للحجاب ومسيرته، التي سرعان ما أصيبت بانتكاسة في السنوات الأخيرة، سواء في معدلات انتشاره أو حتى في حمولته الدينية. لقد حالت أيقنة الحجاب دون فهم حقيقة أن الحجاب لم يكن يصلح يوماً كإشارة حقيقية ووحيدة إلى قياس مدى تدين المجتمعات التي ينتشر فيها. فكثيراً ما كانت له دلالات لا صلة مباشرة لها بالتدين، بقدر ما لها صلة بتحولات اجتماعية وسياسية جذرية تعيشها هذه المجتمعات دون أن يلغي ذلك حقيقة وجود دوافع دينية وراءه. فكثيراً ما كان الحجاب عنواناً على نزعة استقلال للفتاة أو المرأة التي دخلت عالم الحداثة لكن عبر بوابة التديّن. وهو ما جرى في مصر مثلاً، حيث كثيراً ما كان الحجاب في حقيقته دليلاً على استقلالية المرأة ورغبتها في التحرر من التقاليد، ومنها تقاليد اللباس، سواء أكان سافراً أم تقليدياً محافظاً. إن كثيراً ممن ارتدين الحجاب لم يكن دافعهن رفض السفور والتبرج فقط، وهو ما يمكن أن يتحقق في اللباس التقليدي المحتشم مثلاً، بل الاستقلال والتحقق الذاتي أيضاً. فقد أضحت الفتاة المحجبة تتمتع في المجتمع بميزات لا تتمتع بها قرينتها المحافظة المحتشمة مثل الدخول في النشاط الديني أو الحركي، بما فيه معارضة السلطة. بل كثيراً ما نالت بسببه امتيازات لم تكن لقرينتها المحافظة التقليدية، مثل الخصوصية أو السماح بالتأخر عن البيت لضرورة العمل الدعوي أو الحركي. لقد حصلت كثيرات من الفتيات عبر الحجاب على الثقة والاستقلالية والقدرة في مواجهة المجتمع، مما أسس لهن حقوقاً لم تحصل عليها الفتاة المحافظة الأكثر انصياعاً لقيم المجتمع وتقاليده.
وفي حالات أخرى، كان الحجاب أقرب إلى تحصن بهوية مفترضة (أو اصطناع لها أحياناً) احتجاجاً على التهميش والظلم الاجتماعي الذي تتعرض له المرأة. وهو ما يدفع حالياً كثيراً من المسلمات في الغرب إليه. ومرات أخرى، كان الحجاب إعلاناً على الانضواء في مشروع أيديولوجي جذري مثلما يمكننا فهمه في تظاهرات الحجاب أثناء الثورة الإيرانية. وأخيراً قد يكون دلالة على الانصياع لضغوط الفضاء الاجتماعي الذي صار فيه الحجاب عنواناً على التدين كما سنعرض لاحقاً.
إن أيقنة الحجاب كانت مسؤولة أيضاً، إلى حد كبير، عن التحولات المأساوية التي أصابت الحجاب. فقد أدى الربط الشرطي والآلي بين التدين والحجاب إلى أن يصير الحجاب وحده هو عنوان التزام الفتاة وتدينها. فصار بذلك ضاغطاً متحكماً، بل متسلطاً في الفضاء الاجتماعي، بحيث أصبح عبئاً شكلياً لا حيلة أمامه إلا التحايل عليه، والالتفاف أو التلاعب به، والاشتغال على تفريغه من مضمونه، فصرنا أمام حالة أقرب إلى حالات النفاق. لقد تحول «الحجاب» من قناعة دينية إلى سلطة اجتماعية، فكان أن ابتلعه المجتمع وأعاد إنتاجه في صورة قد لا تكون لها أدنى صلة بأصله. فظهرت أنواع من الحجاب لا صلة بينها وبين الحجاب «الشرعي» بل لا تتصل بأي سبب بمعاني الستر والاحتشام التي تركز على مخاطبة الضمير وتسعى لضبط سلوك المرأة ذاتياً، بينما صار الحجاب يركز على الانصياع الشكلي ويسعى إلى إرضاء الفضاء الاجتماعي. بل قد تبالغ المرأة أحياناً فترتدي أشكالاً متشددة من الحجاب (النقاب أو الحجاب المقارب للنقاب).. ثم تبدأ، بعد أن تكتسب شرعية الحجاب المجتمعية الذي يعطيها أحقية التحلل من مفهوم الحشمة، في اللعب بالأنوثة والجسد الذي ينطق بل يصرخ من وراء الحجاب ورغماً عنه. وساعتها يصبح على المجتمع أن يخوض معركة يجرب فيها من دون جدوى كل الوسائل لضبط هذه الأنوثة التي قررت أن تتحداه وتعلن عن نفسها من وراء الحجاب/ الشكل الذي ألزمها به!
ولأنه صار أيقونة، كان لا بد أن يتحول إلى سلعة في سوق العرض والطلب. سيدخل الحجاب ضمن بيوت الأزياء التي تحوله إلى «موضة» تتجدد بلا توقف، وتجعل منه موضوعاً للإثارة والجاذبية. وسيعرف طريقه إلى الطبقات المترفة التي ستدخل به في صراع الاستهلاكية، فيصبح موضوعاً للترف والتباهي بعدما كان، في معظمه، لباساً للفقراء والزهاد والمقتصدين في السلوك والأخلاق. سيعرف عالم الحجاب النقاب الخليجي الذي يلهب، بالعيون المكتحلة والرموش المصطنعة، خيالات المراهقين فتسافر بعيداً في الحلم بما تحت هذا النقاب، وسيدخله الإسبال الإيراني الذي يلفت الأنظار لصاحبته المتفردة قصداً بهذا اللباس في بيئة لم تعرفه من قبل، بل سيعرف الحجاب الذي ترتديه صاحبته مع الجينز المحكم على الجسد. بل ترتديه بعضهن مع لباس فاضح يظهر جزءاً من البطن يفصل ما بين نصفيها الأعلى والأسفل!
ستكمل الدائرة الاستهلاكية الجهنمية، وتظهر «المانيكان» المحجبة التي تحترف عروض أزياء المحجبات التي تدمنها نساء النخبة. وستظهر «الموديل» المحجبة التي تملأ صورها الصحف والمجلات وإعلانات الحائط، تروّج لأزياء مختلفة للمحجبات. بل ستظهر «الموديل» المحجبة التي تغني وترقص بالحجاب في «كليبات» الأغاني الشبابية. دخل الحجاب في منطق السوق، وهو منطق لا بد أن يخرج به من عالم القيم إلى عالم الأشياء، حيث كل شيء سلعة في سوق.
أتصور أن الخطاب الإسلامي في مسألة لباس المرأة يجب أن يعود من جديد إلى عالم القيم، ويقطع تماماً مع عالم الأشياء، فيبعد عن الشكل (الحجاب) ويركز في مقاربته على المضمون (الستر والاحتشام). ويجب ألا تكون المواجهة بين الحجاب وغيره من اللباس، بل بين قيمة الستر والحشمة، وبين التهتك والتبرج والإثارة والتلاعب بالجسد، وهو ما لم يمنعه الحجاب الخالي من الاحتشام.
الحشمة مفهوم أوسع من مجرد الشكل/ الحجاب، ومظلته أشمل من مجرد المتدينين/ الإسلاميين، بل يمكن أن تتسع لغير المسلمين أيضاً. فرفض التهتك ليس خاصاً بالمسلمين فقط، بل يمكن أن تلتقي عليه تيارات مختلفة من أديان وثقافات شتى في العالم ترفض تحويل الإنسان إلى جسد فسلعة في ثقافة الاستهلاك والمتعة التي غزت العالم وكادت تخنق الإنسان.
إن تحول الخطاب الإسلامي إلى مقاربة الاحتشام بدلاً من الحجاب سيفتح باباً لتوسعة مجال الخطاب الإسلامي ومداه بحيث يصبح أكثر انفتاحاً على القيم الإنسانية محل الاتفاق، فيحول اللباس الإسلامي من لباس ديني إلى لباس تلتقي عليه الإنسانية في معركتها مع الابتذال والتهتك.. هذا والله أعلم.
* باحث مصري في شؤون الحركات الإسلاميّة