معاً نصلح الدنيا بالعلم

كمال غبريال في الثلاثاء ٢٦ - أكتوبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

تعلمنا صغاراً أن "العلم يرفع بيتاً لا عماد له * والجهل يهدم بيت العز والشرف"، لكننا عندما شببنا عن الطوق، اخترنا الجهل بالعلم وتجاهله، وفضلنا الولوغ في غيبوبة عقلية مريحة وسعيدة، وأسلمنا قيادنا لأشدنا جهلاً، لنتجرع من أياديهم ما يقدمونه لنا من مخدرات دينية، بداية من بول البعير حتى زيوت الأيقونات.. وليتقافز على أكتافنا مختلف صنوف المداهنين والأفاقين، يلعب بعضهم دور الحكام، ولا يجد البعض الآخر غير مسوح المعارضة، وبين هؤلاء وأولئك نتأرجح نحن كالب&aacلهاء على مائدة اللئام!!
هكذا إذ تزدحم شوارع المدن والقرى المصرية يوماً فيوماً باللافتات والشعارات، مع احتدام معركة الانتخابات النيابية المصرية.. الشعارات تخاطب الجماهير، ومن المفترض أن تتركز على احتياجاتها، وأن تضرب على الأوتار التي تستنهض الناس لتحقيق حاضر ومستقبل أفضل.. لكن الشعارات في بلادي صارت لها سمعة سيئة لدى الجماهير، بعدما لمسته من خداع وخواء شعارات الستينات الناصرية، والأغاني التي وعدت الناس "بتماثيل رخام عالترعة وأوبرا في كل قرية عربية"، لنصل في الألفية الثالثة إلى أن تشنف آذاننا فتوى الشيخ الورع الذي يعادي آثارنا الفرعونية باعتبارها أوثاناً، ويبيح لنا سرقتها والتخلص منها بالبيع، تلك التي يقدرها العالم أجمع، عدا أحفاد الفراعنة الذين ضربتهم الغيبوبة، إلى اختلاط مياه الشرب في المدن (وليس في القرى) بمياه الصرف الصحي.. وبعدما رأى الناس من أداء نواب الجماعة المحظورة في البرلمان، وهم من رفعوا شعار "الإسلام هو الحل"، كبديل عن فشل الناصرية وآمالها المهدرة، لكنهم لم يسعوا طوال فترة وجودهم تحت قبة البرلمان إلى حل أي مشكلة، سوى استهداف الفن والفنانين، ومعاداة أي بوادر للحرية والإبداع، ومناصرة المنظمات الإرهابية التي تنتهك السيادة المصرية، انطلاقاً من غزة الفريسة بين أنياب زبانية الجماعة المحظورة فرع فلسطين، أو من الجنوب اللبناني أسير عصابة حزب الشيطان الإيراني.. أما المشكلات الحياتية للمصريين، والتي من المفترض أن يعني الشعار تقديم حلول لها، فهي غائبة تماماً عن أجندة المحظورة ونوابها الكرام، فلا مشكلة لديهم بعد تربعهم على الكراسي، والحصول على نصيبهم من إنفاق الدولة على علاج الفقراء، ليصادرونه لحساباتهم المباركة وفق ما جاء بالتحقيقات، سوى التمحور حول جسد المرأة وتكفينها ولفلفتها، واحتجازها خلف ستار حديدي، وكأن جسد المرأة المصرية هو المشكلة التي لا يؤرق المصريين سواها.
قد يكون هذا الخبل أو الغياب العقلي مفهوماً أو حتى مقبولاً، لو كانت حياة المصريين عادية، وتجري رتيبة بلا معاناة أو مشاكل، فيبحث اللاهون عن أي أمر يشغلوننا به، ولا يهم عندها إن كان تافهاً إلى حد يثير الشفقة على تفاهتنا، مثلما انشغلنا مع المدير الفني لفريق الساجدين لكرة القدم الكابتن الذي كان كبيراً، بالمعزة المسحورة التي تسببت في هزيمة فريقه التقي الذي يسجل الأهداف في مرمى الخصم بإذن الله تعالى، من فريق النيجر الذي لا هو في العير ولا في النفير.. أو كان مما يثير الفتنة والانقسام بين مكونات شعب يتفرد بين شعوب المنطقة بتجانسه وانسجامه عبر مختلف مراحل التاريخ.. ولم يكن لدينا ملايين الأسر تعيش حياة تأباها الفئران والزواحف، وتسقط صخور الجبال على رؤوسها، أو لم يكن لدينا آلاف لا نعرف عددها من أطفال الشوارع، يفترشون الأرصفة وما تحت الكباري ليلاً، ليتسولوا أو يختطفوا لقمة الخبز نهاراً، وملايين أخرى يأكل جسدها فيروس الكبد الوبائي، مع قائمة طويلة من الأمراض والأوبئة.. أو لم يكن لدينا مدارس هجرتها التربية والتعليم من عقود، وصارت أشبه بعروش خاوية توهمك أن ثمة ملكاً يجلس عليها، ليتخرج منها سنوياً مدد لا ينضب من الأميين حاملي الشهادات العليا، ينتشرون في كل مرافق الدولة ومؤسساتها، بل ووصل تردي الأحوال إلى وصول حامل شهادة الابتدائية إلى كرسي الوزارة، لتشرع في تقنين الدعارة العروبية بعقود تحت مسمى خادمات، ولم لا والمظهر لدينا هو كل المبتغى، وليحدث خلفه بعد ذلك ما يحدث؟.. ومثل المدارس مستشفيات تنعي من أطلق عليها تسمية مشتقة من الشفاء، تُنتهك فيها حرمة الحياة، وتُشَيَّع الإنسانية غير مأسوف عليها!!.. يطول الأمر لو حاولنا تعداد معالم المأساة المصرية، والتي صارت بالإجمال مستنقعاً عشوائياً يشمل كل وليس فقط بعض مناحي الحياة!!
حالة الفشل المصري الشامل هذه، لا ترجع لمجرد فقر الإمكانيات والموارد المادية، لشعب يتزايد عدده بمعدلات قياسية، ولا هي لمجرد تولي مجموعة حاكمة فاسدة وفاشلة لشئونه.. الأمر أعقد وأخطر من ذلك بكثير، فالعشوائية البادية في كافة مظاهر الحياة، هي نتيجة مباشرة لعشوائية الفكر والثقافة، التي تحكم توجهات وأنشطة وسلوكيات الشعب المصري بعمومه، فمن بين هذا الشعب يخرج مسؤولوه في كافة المؤسسات والمصالح، صعوداً حتى قمة الحكم المستهدفة دائماً بالنقد واللوم الذي لا يرحم.. هي حالة من غياب العقل والعقلانية، وإذا غاب العقل تسيد الجهل والجهلاء، وصارت الساحة مستباحة للنصابين والمهرجين من كل نوع.. يصير الحديث في الدين تهريجاً ودجلاً واستبداداً، بدلاً من أن يكون تقوى وهداية.. ويصير الحديث والبحث في شئون الدنيا نوعاً من ضرب الودع أو لعب النرد، يتصدى له الأدعياء من كل حدب وصوب، لتتحول الحياة إلى كابوس عامر بهلاوس المتهوسين والجهلاء، الذين أمسك بعضهم بزمام السلطة والفعل، وانتحل البعض مسوح الفضيلة والقداسة، واحتل البعض الآخر كراسي المعارضة والنقد اللاذع، لتكون النكبة في هؤلاء الأخيرين أشد وطأة.. وهم يقاومون التهريج بالتهريج، وينتقدون العشوائية في حياتنا، بالمزيد من ضخ التوجهات العشوائية الأشد وبالاً.
هكذا ننشغل بهلاوس صاحب نيافة ومنصب كنسي رفيع وتخريفاته الدينية والسياسية، وبمن يحملون قبل أسمائهم لقب دكتور، يردون عليه بهلاوس أشد فتكاً، وأكثر من كافية لإحراق وطن بكامله، هذا بالطبع لو أعطت الجماهير أكثر من آذانها لهؤلاء وأولئك.. ولا نكاد ننتهي من هذا حتى ننشغل بمعركة كأنها مصيرية، للدفاع عن ملك من ملوك عشوائية المعارضة المتوجين، والذي لا ننكر فضله في حقن البسطاء الذين يدفعون ثمن جريدته الخاسرة، بمخدر الصراخ والتطاول المجيد، باعتبار الشتائم وترويج الأكاذيب عن الحكام بطولة ووطنية ما بعدها بطولة، في مواجهة نظام حكم يؤمن بحق الشعب في ديموقراطية النباح، المصحوبة بآذان مسؤولين من طين وعجين!!
لا ينبغي لنا بأي حال أن نتعجب، إذا وجدنا غائباً عن الوعي يترنح ويتعثر في كل خطوة يخطوها، فهذا لابد وأن يكون حال ومصير شعب لم يتعرف على العلم حقيقة، حتى وإن تلقى فيما يسمى مدارس بعضاً من قشوره.. فالشعب المصري لم يؤمن يوماً بالعلم، وبالتالي لم يكن من الممكن أن يثق به ويتخذه عماداً لحياته، أو وسيلة لتحقيق أهدافه.. هو لا يعرف غير التقوى، التي يقول أصحاب الفضيلة والقداسة له أنه يحققها بأداء طقوس حتمها علينا الإله، وأننا متى أديناها فسوف يرضى علينا الإله، وهذا كاف لدخولنا الجنة بعد عمر طويل أو قصير، بل وأيضاً كما يقول شعار الجماعة المحظورة، كفيل بتوفير حلول لمشاكل، لا يعرفون منها إلا تلك المتعلقة بجسد المرأة، الذي صوره الشبق الذي ينهش في أحشائهم بأنه كله عورة.. وهكذا أيضاً نجد من يتجاسر في عصر العلم على خداعنا بالدجل المفتضح، مدعياً قيامه بإخراج عفاريت من أجسادنا، وإعادة النظر لعيون ضرير، ولما لا يفعل والعقول قد أكلها السوس من قرون طويلة، والقدرة على تمييز الخرافة والشعوذة مفتقدة من الأساس، وقد توحد التدين مع الخرافة في عقولنا الضامرة؟!!
الأمر إذن أمر منهج حياة وتوجه، هو الذي يترتب عليه كل ما نرزح فيه من عشوائية وفشل.. الأمر أمر عقل غائب، وعلمانية وعقلانية مفتقدة في حياتنا.. أمر احتياج لإعادة تأسيس شامل لكل نظم حياتنا وتوجهاتنا، ليحل العلم محل التواكل والتهريج والدجل والفهلوة، ولنطرد إلى المزبلة كل نجوم مجتمعاتنا حالياً، من أسسوا نجوميتهم في غياب العقل والعقلانية.. فهل يمكن يوماً أن نجد مرشحاً للمجلس النيابي، يعدنا بمفارقة عصور الجهالة والغياب، ويستنهضنا قائلاً: "معاً نصلح الدنيا بالعلم"؟!!

 

اجمالي القراءات 9625