ما يحدث في مصر الآن، هو عملية عصيان مدني. زبالة الشوارع هي تعبير صادق عن رأي الشعب المصري في حكومته، وعدم ثقته فيها. تعطيل الموظف لمصالح الناس عن عمد. إهمال المدرس في الفصل والدروس الخصوصية. إستهتار الطبيب بأرواح المرضي في المستشفيات العامة. كل ذلك يشير إلى حركة عصيان مدني غير معلنة. ورغبة شعب بأكمله في الإنتحار.
المشكلة ليست في حكومة نظيف أو في لجنة السياسات أو في الحزب الوطني. إنما المشكلة تقبع في الشعب نفسه، الذي فقد ثقته في هذا النظام، وقرر إسقاطه بالطريقة الوحيدة المتاحة له، بعد أن أُوصدت في وجهه كل السبل المشروعة.
الحكماء الجدد أصحاب البلايين لا يفهمون طبيعة هذا الشعب. البدل الأنيقة والأحذية الامعة وأربطة العنق المستوردة، لا تعني شيئا. الشهادات الأجنبية وإزدواج الجنسية والتحدث بلغات مختلفة لا تفيد كثيرا. ربما يكون لها تأثير عكسي وسيئ في فهم جذور وطبيعة هذا الشعب. لكي تفهم نبض الشارع، يجب أن تكون قريبا من القاع ومراقبا له.
هذا شعب تاريخه المدون أكثر من سبعة آلاف سنة. قضى أكثر من نصفها سيدا لهذا العالم بدون منافس أو منازع. كانت دولته دولة عظمى معظم الوقت. شعب يعلم أنه مهد الحضارة وفجر الضمير، كما يقول برستيد. وأصل الأديان والعمران والفنون والآداب والأخلاق. لو كانت جائزة نوبل في العلوم والآداب موجودة منذ القدم، لكانت حكرا على الشعب المصري علي طول الخط، كما قال الدكتور أحمد زويل في حفل إستلامه لجائزة نوبل.
ما نراه الآن شئ محزن. حكومة بائسة تحاول جذب فيل ضخم من ذيله لإنتشاله من الوحل. لكن الفيل يحاول مستميتا الغوص أكثر وأكثر في الوحل حتى يتخلص من قبضة منقذيه.
ضاعت فرصة ذهبية لا تتكرر كثيرا في عمر الشعوب، بعد إنتصار مصر على عدوها، وإستردها لأرضها عام 1973م. عندما كان شعبها معبأ لإنطلاقة حضارية رائعة. فماذا أنجزنا منذ ذلك الحين، وبالأخص في الثمانية والعشرين سنة الأخيرة بالنسبة لباقي الشعوب؟
آثرنا السلامة وإستقرار الحكم على مصلحة البلاد والعباد. وكرسنا إمكانيات البلد وثرواتها لخدمة النظام. وصرنا مثل من يتسلق جبل شاهق ثم توقف في المنتصف، لكي يوجه كل جهده للبقاء في نفس المكان وعدم السقوط منه. بدلا من مواصلة الصعود إلى غد مشرق جديد.
لكن العالم كله يسابق الزمن ويقيس الوقت بالفانتوثانية. ويتقدم إلى الأمام بقفزات "كمية" جبارة في كل الميادين. لا مكان للراكد الآسن. كما يقول الإمام الشافعي: "إني رأيت وقوف الماء يفسده – إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب".
توقفنا عن صعود الجبل، بينما العالم كله يصعد. جاءت قراراتنا كلها بطيئة خاطئة، أو صدرت في وقت غير مناسب. قرار الإفراج عن البابا أخذ أكثر من عامين بدلا من خمس دقائق. مهادنةالجماعات الدينية إستمر أكثر من 10 سنوات، وكان من الواجب ألا تكون هناك مهادنة علي حساب مصلحة وأمن الوطن.
إنتشر فيها الفكر الوهابي. وظهرت معها جمعيات توظيف الأموال. وتحجبت أثناءها كل نساء مصر أو تنقبت. وإنحدرت خلالها كل الفنون والثقافة والقيم التي تدعو إلى التسامح وقبول الآخر.
إنتشر الفكر الوهابي وإستفحل أمر الجماعات الدينية، حتى أصبحت دولة داخل دولة. وفرضت الجذية علي الإخوة المسيحيين في بعض أحياء القاهرة والصعيد. لم يتحرك أحد من أولي الأمر ضد الجماعات الدينية إلا بعد أن صارت تهدد نظام الحكم نفسه. وتكررت محاولة إغتيال الوزراء ورئيس الجمهورية نفسه.
الدولة الآن ومنذ ثلاثة عقود، تحكم بدون هدف أو مشروع وطني يتجمع كل الناس حوله. قد يكون هذا الهدف هو مجرد طلب الإستقلال، إذا كانت الدولة محتلة. وقد يكون مشروع تنويري لبناء دولة قوية يتمتع فيها الفرد بالحرية والمساواة والحياة الكريمة. لكننا ليس لدينا في الوقت الراهن بالتأكيد أي هدف أو مشروع وطني يتجمع الشعب المصري حوله.
لم ينتبه أحد لزيادة السكان المطردة عاما بعد عام. إلي أن وصلنا إلى 80 مليون نسمة. مكدسة في وادي ضيق لا يتسع لربع هذا العدد من البشر. وظلت سيناء خاوية على عروشها، تنعق فيها البوم وتصفر فيها الرياح. إلا من أماكن سياحية قليلة يسيل لها اللعاب، بيع معظمها للأجانب.
لم نقم بغزو الصحراء الغربية أو الشرقية لتخفيف الضغط على الوادي كما يجب. وقمنا ببناء منتجعات على الساحل الشمالي، أنفقت فيها رؤوس أموال ضخمة من الدخل القومي. كونها مصايف للأثرياء، لا يحل مشكلة التكدس السكاني، ولا يساعد في التنمية الإقتصادية.
أهمل مشروع تطوير مصر للدكتور فاروق الباز. وأهمل مشروع الدكتور أحمد زويل لبناء صرح علمي مصري كبير. كذلك مشروع نقل العاصمة من مدينة القاهرة لحمايتها من الزحام ومن خطر الحروب. وغيرها من المشاريع المعطلة بدون سبب.
أهملنا أبحاث إستخدام الذرة في الأغراض السلمية. بعد أن كنا ندا لإسرائيل في الستينيات. توقفنا تماما، وأصبحت إسرائيل تمتلك أكثر من 300 رأس ننوية. فكيف ننام وفوهة المدفع مصوبة في إتجاه رؤسنا.
الزراعة والري أصبحتا كارثة قومية. قضينا على زراعة القطن والقمح وغيرها من المحاصيل الهامة. أصبحنا دولة تستجدي غذاءها وكساءها من هنا وهناك. بعد أن كنا سلة غذاء الإمبراطورية الرومانية.
التعليم كارثة الكوارث. صار يوظف كرشوة لكسب رضاء أولياء الأمور. لا يخدم الأمن القومي أو حاجة المجتمع. القضاء مهزلة فقدت إستقلالها. الصحة والقذارة والزحام والبطالة والروتين في غنى عن التعريف. الإنتخابات مزورة وعلى عينك يا تاجر.
نظام الحكم دكتاتوري لا يفصل بين السلطات الثلاث. ويقوم بتعيين كل المناصب القيادية. بما في ذلك المحافظين ورؤساء الجامعات. قانون الطوارئ مستمر لمدة 28 سنة في تحد بالغ لإرادة الناس علي إختلاف مشاربهم. المطالبة بتعيين نائب لرئيس الجمهورية تلقي عرض الحائط، لسبب لا يعلمه إلا الله.
نسبة الخمسين في المئة عمال وفلاحين لا تزال تشل مجلسي الشعب والشورى. قانون الخط الهمايوني لا يزال ساريا ولا أدري لماذا. تعديل مواد الدستور التي تتعارض مع حقوق الإنسان في المواطنة والمساواة، تلقى مقاومة عنيفة من الحكومة.
الكفاءات تستبعد من المواقع القيادية. أحزاب المعارضة القوية تدمر من الداخل، الوفد والغد وغيرها. الكتاب والمفكرين لا تجد الحماية الكافية من الدولة، وتضطهد وتشرد في كل بقاع الدنيا. الأقليات تسلب حقوقها وتمنع من أداء طقوسها في سلام ووئام. الفساد يستشري ويستفحل في كل مكان.
السياسة الخارجية تتخبط وتخدم المصالح الفردية الضيقة، وتهمل قضايا الأمن القومي. إهمال متعمد لدول أفريقيا وحوض نهر النيل في الوقت الذي تبدو فيه أزمة المياة على الأبواب.
عداء غير مفهوم لإيران وسوريا. مؤازرة غريبة لإجرام إسرائيل في غزة ولبنان تقترب من التواطؤ. إهمال شديد لمصالح المصريين خارج الوطن.
علاقة المواطن برجال الأمن علاقة تعال وغطرسة. علاقة الحكومة بالمواطن خير ما توصف به أنها علاقة عدم ثقة متبادلة. حالة الناس في مجملها لا تسر عدو أو حبيب.
عز عليها العمل والسكن والكساء والغذاء والدواء والماء والهواء النظيف. وحرمت من الحرية وحقها الطبيعي في المشاركة في الحكم وإختيار من يمثلها بصدق في المجالس النيابية.
فماذا يفعلون؟ هل يسقطون النظام في أقرب إنتخابات؟ لكن الإنتخابات تزور لكي تبقى الأوضاع علي ما هي عليه. وحالة المواطن تزداد سوءا يوما بعد يوم.
إذن، عليهم بالثورة. هذا أيضا لا يقدرون عليه. لماذا؟ لوجود الحزب الوطني، والأمن المركزي، والشرطة، والمخابرات العامة والحربية، ومخابرات رئاسة الجمهورية، ومخابرات إسرائيل وال "سي أي إيه" الأمريكية. كلها جيوش مخصصة لخدمة النظام ومنعه من السقوط.
ماذ يفعل الشعب المصري العريق بما له من خبرة طويلة في مقاومة الغزاة، تجاه نظام حكم يأخذ بتلابيبه بكل قسوة وجبروت، وينشب أظافره في عنقه بدون رحمة أو هوادة؟ ماذا تبقي له بعد أن رأي شبح التوريث يلوح في الأفق، قادما نحوه كملك الموت لا يستطيع منه فكاكا. لكي يقضي على الأمل الباقي له في التغيير والتبديل.
لا خيار للشعب المصري الآن سوي العصيان المدني. لا في صورة إضراب عن العمل والبقاء في البيت، كما تفعل كل شعوب الأرض. لكن في صورة تدمير لكل شئ نبيل وجميل وجيد في حياته. حتى يتهدم المعبد على من فيه.
تدمير للأخلاق، وللفن والمغنى والمعنى والثقافة والحضارة والنظافة والنظام. تقوقع وإنكماش إلى الداخل في صورة زهد في الدنيا وطلب للآخرة. أو إعتكاف وإختفاء عن العالم الخارجي داخل نقاب أسود ونظارة سوداء وقفاز أسود، كأنه الحصن والملاذ الأخير.