روح العرب تصعد في فرانكفورت

محمد عبد المجيد في الأربعاء ١٣ - أكتوبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الخوفُ هو الموّتُ غَيّرُ المـَرّئيِّ الذي لا يشعُر به المرءُ، بَل إنَّ الخائفَ قد يَموت في كلّ يومٍ عِدّة مَرّاتٍ دون الإحساس بأنَّ روحَهُ تَصْعَد، ثم تعود، ثم تصعد ...

معرضُ فرانكفورت الدولي للكتابِ تظاهرةٌ ثقافية تتبارى فيها شعوبُ الدنيا لتعرض ما لديها، وما أنتجته عقولُ أبنائـِها، وما أخرجته تروسُ مطابعِها.

كتبٌ، مطبوعات إعلاميةُ، ثقافية، علمية، تعليمية، و.. فكرية .

كتب صوتية، خرائط، فنون، أفلام، وثائقيات، أجنحة يتنافس في إبداعها الفنانون، والرسامون، والديكوريون، فلا يتركون شِبْراً في الجناح خالياً، فتفيض أضواءٌ قوية، وملونة على الرفوف بزوايا مختلفة فلا تملك إلا أنْ تدخل الجناحَ، وتتصفح كتباً بلغاتٍ قد لا تعرفها، وتتمنىَ أنْ تقرأ هذا الكتابَ الياباني، والصيني، والماليزي، والإندونيسي، والسلوفاكي، والإسباني الذي أخرجته من أجلك دور نشر أرجنتينية، ضيفُ الشرفِ في المعرض هذا العام.

الثقافةُ هي خَطُّ الدفاعِ الأوّل عن أيِّ أُمَّةٍ، والأمةُ التي تهجر الكتابَ تفتح ذراعيها لمن يُهَيّمِن عليها، أو يدوس فوقها، أو يحتقر تاريخَها وماضيها وحاضرَها حتى لو تغنّت في كل أجهزةِ إعلامِها بزمن أجدادها وأصالة جذورها!

حتى الدول الفقيرة في العالـَمِ الثاني الذي يـَمُدّ له العالمُ الأول يَدَ العَوّن ليلحق به، كانت الأجنحةُ تحتضن الكتابَ، فهو هويّة الأمة، وفخرُها، وعِزُّها، والخَطُّ الوحيدُ المستقيم لمستقبلٍ مُشرق.

إلا العالم العربي الذي كان ثُلـُثُه نائِمًا فتسمع شخيرَه في كل رُكنٍ يُغَطّيه إعلانٌ عن مَعْرض الكتاب. والثلثُ الثاني غائِبٌ عن الوعي، فالأحضانُ والقـُبلات والابتسامات والضحكات في قِمة سِرْت ستجعل أعضاءَ لجنةِ جائزة نوبل للسلام يحتارون فيمن يستحقها من ثلاثة وعشرين زعيمًا، وأبنائِهم، وأحفادِهم!

أما الثلثُ الثالثُ فقد كان مَيّتًا نِصْفه حياة، والصفّ الطويل الذي يحتله عَرَبُنا يشبه بعضَ المقاهي المـُتراصة التي ينشغل أصحابُها بأجهزة موبايل أسقطها العالـَمُ الأول في حِجْرِ العالـَمِ الثالث فَفَرحنا بها كفرحةِ يوري جاجارين عندما صَعَد بمركبته إلى الفضاء ورأىَ الكرةَ الأرضيةَ التي مايزال بعضُنا يظن أنها مَسَطّحةٌ وتقف علىَ قرنيّ ثور!

الدنيا كلُّها كانت تحتفل بالكتابِ في أهَمّ مَعْرض لخيرِ جَليسٍ في الزمان، إلا أبناء لـُغة الضاد، ولو اعتذر المتواجدون لكان أشرفَ لهم من حضورٍ متكاسلٍ، باهتٍ، يخجل منه زائرون ظنوا أنَّ جزءًا مِنْ ميزانيات أجهزةِ الأمن والسجون والمعتقلات يمكن أنْ تقوم بتلميع السوّطِ والزنزانةِ و .. القضبان!

الكتابُ صناعةٌ وفَنٌّ وفِكْرٌ، أما في عالمِنا العربي فهو حِبـْرٌ وورقٌ و .. كماليات!

سألتُ إحداهُنَّ في دار نشرٍ عربية تعرض كُتُبـًا مُتْرَبَـًة، وقادمةً من مخازن عتيقةٍ في سفارةٍ عربيةٍ عن السبب في أنَّ مُعظمَ المعروض روايات مصرية قديمة، وباللغة الإيطالية، فأجابتْ بأنها لم تلاحظ ذلك!

موظفٌ في وزارة الثقافة العراقيةِ سألْتُه عمّا فعلوا بالكتبِ التي ذُكر فيها اِسْمُ صدام حُسين في المقدمة أو الاهداءِ أو ثنايا الكِتاب، فقال لي بأنَّ الوزارةَ تمنع عرضَ الكُتب العراقية المطبوعة قبل عام 2003، ثم أردف قائلا: إنني كعراقي فخورٌ بأنَّ رئيسَ الوزراء نوري المالكي قضىَ تمامـًا علىَ الطائفيةِ، وأصبحنا نتمتع بأمنٍ ومساواةٍ لا مثيل لهما في مكان آخر، ولا تعرف في العراقِ الفارقَ بين الْسـُنّي والشيعي!

جناح ( الأهرام) يعرض كُتبـًا شاهدتُها منذ أنْ بدأت القراءةَ الجادةَ، أي لخمسين عامـًا خَلـَتْ! والشيءُ الذي لا يخلو منه مَعْرضٌ للكتابِ المصري هو ( حول العالم في 200 يوم)، رغم أن مئات الآلاف من الشباب العربي والمصري تفوّقوا على أنيس منصور في مغامراته الجول فيرنية، بل إن ابني ناصر( 11 عامًا) قام بمغامرات في بلاد أكثر مما فعل صاحب الذين هبطوا من السماء عندما نشر عن المئتيّ يوم حول العالم!

كانت معي أسطوانة سي دي عليها كتابي الحادي عشر ( قلمٌ في عيون الطغاة – كتابات بالخط الأحمر)، وكنت أعرف مُسبقا أنه لا يمكن لأي دار نشر عربية أن تقبل الكتابَ، تمامًا كما حدث في زيارتي السابقة للمعرض.

عندما تتحدث مع صاحب دار نشر عربية فإنَّ عينيه تلمعان، ثم تظهر في العين اليمنى صورةُ زعيمِ بلده، وفي اليسرىَ صورة ضابط في أمن الدولة.

إذا كان الناشرُ بمفرده، وتسلل اطمئنانُه إليك لفؤاده فإنه يؤيدك، ويدْعمك، ويتعاطف معك، ويصب اللعناتِ المتلاحقةَ علىَ حكومتِه وأجهزة الأمن،باستثناء ثلاث أو أربع دول عربية!

أما إذا كانوا عِدةَ أفراد فسيتسابقون في الدفاع عن النظام حتى لتظن أنهم جميعا يُخْفُون رتَبَهم الشـُرّطية تحت أكتافِهم!

في دور النشر العربية يظل الخوفُ من السلطة سَيّدَ العَرض، والكتاب السياسي الذي تشُمّ منه أجهزةُ حماية الزعيم رائحةَ تمرد أو عصيان مدني أو غضب أو عدم رضا ليس له مكانٌ ولو كان صاحبُ دار النشر أسدَاً يزأر، ويُقسم لك أنه ينام مِلء َجفونه حتى لو أيقظت طرقاتُ زائر الفجر ومخبروه على بابِ سكنه الجيرانَ و .. جيرانَهم!

القصرُ يؤكد لك أنْ لا مانع من نشر كتبٍ أدبية، وروايات، وأشعار، ونقد لاذع في الفنون، ويمكنك أن تـُغرق المكتبات وأجنحة المعارض بكتبٍ دينية، إسلامية ومسيحية، شريطة أن لا توقظ الوعيَ بحقوق المواطن، ولا تربط حقوق الإنسان على الأرض بأوامر السماء!

في الجناح اللبناني الذي يعرض لعدة دور نشر سألتُ المسؤولَ ومن معه عن امكانية نشر كتابي، فأكد لي أن لا حدود للحرية في بلد الأَرز، وأن لا رقابة على الكتاب في موطن الكتاب، فالكلمة المطبوعة هي بيروت.

وبعد حوار أطلعته على فحوىَ الكتابين الثامن والتاسع ( قمت بتوزيع كميات كبيرة منهما مجانا)، وقرأتُ له عناوينَ فُصول الكتابِ المطلوب نشره، اعتذر لي بأن هناك رقابةً ذاتية، ومصالح مادية في كل الدول العربية، وتعاون أمني بين كل عواصم أمتنا العربية الواحدة!

عرضتُ الكتابَ علىَ مسؤولِ جناح الجامعة الأمريكية بالقاهرة، رجل ألماني مثقف، ويتحدث الانجليزيةَ بطلاقةٍ ويعرف بعضاً من العربية، وكان في انتظار الدكتور علاء الأسواني.

رفض رفضاً قاطعا بحجةِ أنَّ الكتابَ ستتم مصادرتُه فور خروجه من المطبعة، ولو طبعته الجامعة الأمريكية في الخارج فلن يعرف طريقَه إلى عاصمة أم الدنيا. وكان الرجلُ يعرف تفاصيل المشهد المصري المؤلم، لكن ما باليّد حيلة!

مسؤولة في الجناح الماليزي الحكومي والذي يعرض كُتبا كثيرةً مترجمة من العربية ولغات أخرى، أكدت لي أن هناك تعليماتٍ مُلـّزِمة بعدم نشر كتبٍ تستفز الأنظمةَ العربية، فكل الممنوعات يمكن التسامحُ معها إلا الرأيّ الآخر المكتوب، فالزعيمُ العربي علىَ استعداد لقطع العلاقات مع الأسرة الدولية كلها، واعلان الجهادِ، على طريقة ملك مُلوك أفريقيا ضد سويسرا، مواجِهًا كل من تسوّل له نفسُه اعتبارَ الكتاب أقل خطرا من المخدرات و .. الارهاب!

زعماؤنا العرب يصكّون وجوهَهم، ويضعون أصابعَهم في آذانِهم، ويُغلقون عيونـَهم إذا حلـَّقَتْ طائرات إسرائيلية فوق القصر الجمهوري في دمشق، أو تجسس الموسادُ على طائرة الرئيس المصري، أو اغتالت أجهزةُ أمن الدولةِ العبريةِ قياداتٍ فلسطينيةً في ضيافة تونس الخضراء، أو تنصتت علىَ مُكالمات زوّار المملكة الهاشمية والمقيمين بها، أو امتصت التعويضاتُ عَرَقَ الليبيين في مقابل غضّ الطرف عن جرائم العقيد، أو انفصل جنوبُ السودان قبل اختطافِ البشير لمحاكمته في لاهاي ، أو .. الخ

أما الكتاب فهو وسيّدُ القصر لا يلتقيان، ومن أراد من الصحفيين والكُتّاب والمثقفين والمفكرين أنْ يأمن غدرَ وليّ الأمر فعليه أنْ لا يقترب من الخط الأحمر، أي الحديث إلى الناس عن حقوقِهم، وعن السجون والمعتقلات والكرامة و.. أسرة الزعيم.

غيابُ العرب عن معرض فرانكفورت الدولي للكتاب لم يكن مصادفةً، لكنه كان احتقاراً، وازدراءً من أنظمتنا العربيةِ لهذا المهرجان الثقافي الدولي، فالكِتَابُ لا يعنينا في قليل أو كثيرٍ، وهو آخرُ اهتمامات المواطن في بيته، والأمةُ التي يقرأ أبناؤها لا يستحمرها طغاة، ولا يستغفلها فراعنة، ولا يستجحشها مُستبدون، ولا ينهب خيراتـِها لصوص.

أكاد أَبْكي حُرقةً، وألـَمَاً، ووجعاً، وأسفاً علىَ تلك الخسارة الفادحة في مثقفي عالمِنا العربي، وفي أصحاب قلم بلاط صاحبةِ الجلالة السلطة الرابعة، وفي دور النشر والمطابع والمكتبات، فهذا الغول الذي صنعناه، ثم جعلناه رقيباً على قلوبِنا وعقولنا ما كان له أنْ يعيش، ويُعشعش عَفَناً أخضرَ فوق أقلامِنا لولا طغيان الرقابة الذاتية على سوط الأمن الخارجي فوق ظهورنا!

غاب العربُ عن فرانكفورت، أو ماتوا، أو فقدوا الوعيَّ، فالنتيجةُ في النهايةِ واحدة، وإذا عاد الكتابُ إلى أرفف بيوتِنا فإنَّ أعمارَ طـُغاتِنا ستقصر، وأحلامَ أبنائِهم في التوريث ستتبخر!

بلغ حُزني في المعرض مداه مرتين: الأولى على غياب ثلاثمئة مليون ضادي لا يعترفون بأن كلمة ( اقرأ ) موجودة في قاموس لغتِهم، والثاني على ارتعاشة أيدي أصحاب دور النشر الذين يساندون طغاتـَنا في جعل الخطّ الأحمر أقرب إلى قلوبـِهم من مكتب الأمن العام.


 

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

أوسلو في 13 أكتوبر 2010

Taeralshmal@gmail.com


 


 


 


 

اجمالي القراءات 11726