منذ ستين عاماً والعرب والإسرائيليون يسعون إلى سلام دائم وعادل في المنطقة، ولكن لا سبيل إلى ذلك، فلماذا؟
ومنذ عام 1948 ظهرت العشرات من مبادرات السلام من الشرق والغرب، ومن العرب والعجم، ولكن لم تفلح أية مبادرة من هذه المبادرات في إقرار السلام الدائم والعادل في المنطقة، فلماذا؟
وقامت بين العرب وإسرائيل عدة حروب، من أجل إخضاع العرب أو إسرائيل للسلام الدائم والعادل، منذ 1948 وحتى 2006، ولكنcute;كن لم يتوصل الفريقان إلى السلام العادل والدائم، فلماذا؟
واستطاع الفريقان - العربي والإسرائيلي - توقيع اتفاقيات "سلام" بدءاً من عام 1979 في كامب ديفيد، وانتهاءً في عام 1994 في "وادي عربة"، ومروراً بعام 1993 في أوسلو، ولكن هذه الاتفاقيات – ومن خلال التجربة على أرض الواقع – لم تؤدِ إلا إلى مزيد من التوتر في المنطقة، نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية وثقافية مختلفة، كان أبرزها ظهور الجماعات الدينية/السياسية المتشددة التي اختارت لأسباب مختلفة أيضاً، طريق النحر والانتحار ومعارضة كل بادرة سلام سياسية مع إسرائيل، وأخذت بطريق "الكفاح المسلح"، بدلاً من طريق "الكفاح السلمي" الذي لا تقدر عليه غير شعوب معينة. ولم تفلح اتفاقيات السلام الثلاث السابقة في إرساء السلام المنشود. وكانت عبارة عن سلام بين الدول والأنظمة السياسية، بعيداً عن الشعوب، وعن رغبتها في السلام، وكيفية هذا السلام. لذا، فلم يتم الاستفتاء على هذه المعاهدات الثلاث في بلدان العالم العربي، ذات الشأن. وانحصر مجال هذه المعاهدات في نطاق ضيق، وأصبح السلام بين القاهرة وتل أبيب من جهة، وبين عمان وتل أبيب من جهة أخرى، محصوراً ومحاصراً في سفارتين مختبئتين في شقتين، ومقاطعتين من الفعاليات الشعبية المختلفة. بل تتم مقاطعة كل من يجرؤ على المسالمة والتطبيع مع "الكيان الصهيوني" ونبذه وعزله عن بقية المجتمع، وطرده من كافة المنظمات والتنظيمات، التي يُفترض أنه ينتسب إليها، كما جرى مع مثقفين مصريين - على سبيل المثال لا الحصر- ومنهم الكاتب المسرحي علي سالم – فلماذا كل هذا؟
-2-
من الملاحظ تاريخياً وبشرياً، أن التاريخ البشري قد اقترن بحضارة العنف. وهو قد انتهج العنف أكثر مما انتهج السلام. وما فترات السلام في التاريخ البشري غير جزر صغيرة منفصلة ومتفرقة. أما المساحة الشاسعة والمتصلة من التاريخ البشري، فقد كانت مساحة من العنف والبربرية الوحشية. ولعل الحروب التي قامت بين الشعوب الأوروبية، وبين الشعوب الغربية والشرقية، وبين الشعوب الشرقية ذاتها، والفتوحات العسكرية المختلفة التي اتسمت بصبغات مختلفة، خير دليل على أن مساحة العنف والبربرية، كانت أكبر بكثير من مساحة السلام في التاريخ البشري على مر العصور.
-3-
ويؤكد المفكر السوري/الفرنسي مُطاع صفدي في كتابه القيّم "نظرية القطيعة الكارثية" أن الغرب رغم أزمنة الليبرالية، والحداثة، وما بعد الحداثة، إلا أن هذه الأزمنة لم تستطع أن تلغي البربرية من الطبع الغربي – حسب قوله – لكن هذه الأزمنة – بالمقابل - هذَّبت، وشذَّبت، ونظَّمت البربرية، وأعطتها وجهاً حديثاً جديداً. وألبستها قفازات حريرية، وإن كانت الحروب – وهي أحدى مظاهر هذه البربرية – التي خاضتها أوروبا مع نفسها (وأشهرها الحرب العالمية الأولى، والثانية، وحرب الاستقلال الأمريكية وغيرها) قد أعطت هذه البربرية المبررات الكافية لارتكاب ما جرى فيها من جرائم قتل ودمار وعنف وحشي، ولم تقدم للبشرية أملاً ولو ضئيلاً في إشاعة السلام الدائم بين بني البشر.
فلماذا كان كل ذلك؟
-4-
الجواب عن هذه الأسئلة الحائرة وغيرها من الأسئلة، التي تبحث عن السلام الإنساني الدائم ، تكمن في رؤية الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724- 1804) للسلام الدائم بين البشر.
فكانط – وكان من أوائل الفلاسفة الغربيين الذين انهمكوا في موضوع السلام البشري الدائم – كان يرى أن السلام الدائم، لا يمكن أن يتحقق بين الشعوب ذات المصالح المتضاربة، التي تؤدي الى العداء فيما بينها. ولو طبقنا هذه المقولة على كثير من أحداث التاريخ ومنها الصراع العربي – الإسرائيلي، لوجدنا أن هذه المقولة صحيحة وواقعية، وخبرناها منذ نشوب الصراع العربي – الإسرائيلي قبل ستين عاماً ويزيد.
فالشعب الإسرائيلي يريد وطناً له في فلسطين. وهذا الهدف يتعارض كليةً، ويتضارب مع مصلحة العرب الفلسطينيين في وطنهم الأصلي. إذن، فهناك تضارب في المصالح، وعلى هذا التضارب سيقام – عبثاً – السلام الدائم "المنشود" وهو سلام – في رأينا – سيظل هشَّاً وقابلاً في كل مرة للانهيار راهناً ومستقبلاً، ما لم يتم فناء مصالح أحد الطرفين؛ بمعنى أن يتخلّى طرف من الطرفين عن مصلحته في إقامة وطنه الخالص له، دون منازع.
-5-
ويقول الفيلسوف الألماني الآخر نيتشه، في هذا الصدد، أن السلام الدائم لا صلة له بمنطق العلاقات الدولية، فهو يظل أقرب الى هدنة – طويلة أو قصيرة – بين حربين، منه الى السلام الدائم. وهذا – بالضبط – ما هو قائم بين العرب وإسرائيل الآن، حتى بالنسبة لمصر وإسرائيل من جانب، والأردن وإسرائيل من جانب آخر. فالهدنة الحالية بين هذه الأطراف – طالت أو قصُرت – ستكون نهاية للسلام القائم بين الدولتين، وليس بين الشعبين المتضاربة مصالحهما.
-6-
ولكن ما العمل بعد ذلك، في رأي الفيلسوف كانط؟
يجنح كانط، الى حل فلسفي ولكن غير واقعي، وهو قيام "الدولة العالمية الشمولية" التي ستضمن قيام سلام دائم بين الشعوب المختلفة، التي ستضمنهم الدولة الواحدة، وهو أمل بعيد ومستحيل، ويقضي على الحريات الخاصة، لذا فقد اقترح كانط استبدال هذا الحل بحل آخر، يتجسد بضرورة استكمال الحريات الداخلية والذاتية للشعوب المتناحرة والمتحاربة لكي تستطيع بعد ذلك أن تنشئ فيما بينها "عقداً اجتماعياً" على مستوى الإنسانية ينظم علاقاتها مع بعضها من منظور المصلحة المشتركة للبشرية عامة." وقد ذكَّرنا صفدي في كتابه المشار إليه، بأن هذا الطرح الكانطي كان من بين الأسباب التي أدت الى قيام "عصبة الأمم" عام 1919 بعد الحرب العلمية الأولى، ثم قيام "الأمم المتحدة" عام 1945 بعد الحرب العالمية الثانية. وكأن الحربين العالميتين كانتا سبباً في ميلاد تنظيمين دوليين كبيرين، يهدفان الى تحقيق قدر - ولو يسير - من السلام الدائم للبشرية.