رواية ضد الإحتقان الطائفى بمصر

حمدى البصير في الأحد ٠٣ - أكتوبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

رواية تنتصر لـ "الوحدة الوطنية" في أيام الاحتقان الطائفي بمصر

 

  في روايته الجديدة "زهر الخريف" يفتح صديقى الكاتب الصحفى والأديب المصرى  الدكتورعمار علي حسن بابا وسيعا لقضية "الوحدة الوطنية" وهي مسألة وجودية بالنسبة لماضي مصر وحاضرها ومستقبلها، حيث يعرضها عبر حكاية مكتملة ذات حبكة روائية ظاهرة، وبلغة مشبعة بشاعرية واضحة، وهي سمة متكررة في أعماله السابقة، التي تزاوج بين الجماليات المحتفية بـ"أدبية الأدب" وبين السياق ا&aaCcedil;لحاضن للتجربة الإبداعية.

ويتزامن صدور الرواية مع ما أثير مؤخرا من "حرب تصريحات" أو "مواجهات إعلامية" بين بعض رموز الكنيسة وبعض المفكرين الإسلاميين البارزين. فقبل أيام خرج الرجل الثاني في الكنيسة الأنبا بيشوي بتصريح غريب وصف فيه المسلمون بأنهم "ضيوف على مصر" وكلام أغرب حول "القرآن والمسيحية" ورد المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد سليم العوا باتهام عجيب للكنيسة بأنها تريد أن تكون "دولة داخل الدولة" ولمح إلى وجود "مخازن أسلحة بالكنائس" فرد الرجل الأول للمسيحيين الأرثوذكس الأنبا شنودة بنفي هذا تماما. وانفتح الباب على مصراعيه في مصر كلها، لأخذ ورد بين هذا وذاك، لتنبني معركة إعلامية جديدة، أنتجت في طريقها أصواتا عاقلة تدعو الطرفين إلى التمهل والتعقل.

     وتنطلق هذه الرواية من تجربة اجتماعية وإنسانية خالصة يضيف إليها المؤلف من خياله الكثير، بعد أن وضع الأحداث في سياقها التاريخي السليم، ودققه بوضوح، وربط تفاعلات شخصيات الرواية بما كان يجري وقتها في الواقع المعيش، وهو ما أعطى مثلا ناصعا على  روح التسامح والتعاون التي كانت تسود بين المسلمين والمسيحيين في مصر، قبل الدخول في نفق الاحتقانات الطائفية التي بدأت بحادث الخانكة الذي أطلق موجة طائفية بغيضة لا تزال تعيش في مصر حتى هذه اللحظة.

  وتدور أحداث الرواية في الفترة الواقعة بين هزيمة يونيو 1967 وانتصار أكتوبر 1973 وترسم لوحة تزخر بالعديد من الشخصيات المجهدة، التي تروض وقتا يمر ثقيلا في انتظار شاب ذهب إلى الحرب ولم يعد، بعد أن كان يملأ الدنيا بأفعاله البطولية في مطاردة مجموعة من اللصوص الطامعين في قريتهم الغافية المستكينة.

 وبطلا الرواية هما شابان مصريان أحدهما مسلم والآخر مسيحي، يعيشان في قرية صغيرة وديعة مجهدة يلفها النسيان لكنها صامدة بين الزرع والنهر، بالقرب من مدينة المنيا وسط صعيد مصر، وتحارب بالرصاص والغناء اللصوص الطامعين في القوت والبهائم. في الليل، تختلط فرقعات البنادق الآلية مع صوت عذب وربابة شجية لشاعر يستدعي  في نشوة مستعرة سيرة أبي زيد الهلالي ورفاقه العامرة بالبطولة والرجولة والنبل، فيشعل الحماس في النفوس المتألقة وسط الظلمة الشاملة. وهذه الروح الأصيلة والحزينة في آن، جعلت الرواية تحتفي بالموروث القصصي الشعبي إلى جانب الكثير من ألوان الفلكلور مثل العديد والأمثال والتنجيم والحكمة الإنسانية الخالصة، التي اقتطفها المؤلف من مصادرها الأصلية ووظفها تباعا في نصه السردي المتتابع.

هذان البطلان هما عليّ عبد القادر إسماعيل وميخائيل ونيس سمعان، صديقان جمعهما حب المغامرة، وذكريات الطفولة، والخوف على ذويهما المتعبين، قادا أهاليهما في معارك حامية دفاعا عن قريتهما الوديعة المجهدة، ضد عصابات الليل. وحين وقفا على أبواب الشباب الغض، جاءتهما الفرصة للدفاع عن الوطن برمته، فذهبا سويا إلى حرب 73، عاد ميخائيل شهيدا، وضاع عليّ في الصحراء الواسعة لتبدأ رحلة البحث عنه، وتشتعل الأسئلة، من دون أن تتهادي الإجابات.

 ويظل أبطال الرواية حائرين في التوصل إلى ما يشفي الغليل وتريح النفوس التي يعتصرها الألم، ويلهثون ما وسعهم في سبيل فك هذا اللغز العصي، ويلهث معهم القارئ حتى الصفحة الأخيرة من الرواية، التي حملت إجابة تنطوي على مفارقة، وتبرهن على أن "الدنيا" ضيقة رغم اتساعها، وأن ما نجري أحيانا وراءه دون فائدة قد يأتينا في لحظة عابرة من دون أدنى ترتيب أو انتظام، ودون أي جهد كبير نبذله في سبيل تحصيله.   

ومن أكثر الشخصيات جاذبية في الرواية هي شخصية رفاعي الرجل البسيط الذي قادته قدماه حتى الصعيد الأوسط، ليبيع الخبز للفلاحين، ويروى لهم حكاية مدينة باسلة، بعد أن دمر الإسرائيليون بيته ومخبزه، ثم تترى الأحداث سخية رخية ليجد رفاعي نفسه في النهاية عائدا إلى مدينته وما حولها للبحث عن الشاب الضائع، الذي ربطته به علاقة إنسانية خالصة، تختلط بصدى صوت الأطفال الصغار وهم يزفونه كل صباح وهو يضحك ويوزع أرغفته، ويغني معهم: "يا رفاعي يا بتاع العيش .. خدنا معاك ودينا الجيش". ورغم أن شخصية رفاعي لم تحتل حيزا كبيرا في الرواية إلا أنها الأكثر قربا من النفس، رغم أن تأثيره في سير الأحداث ليس عميقا.

لكن الشخصية الإشكالية في الرواية هي "وفاء" حبيبة علي عبد القادر، التي لم يتزوجها سوى أسبوع واحد قبل تجنيده وذهابه إلى الحرب. كانت وفاء تطالع دوما من شرفتها الوسيعة انحناءات الشارع الذي ينتهي بجسر طويل مفتوح على المحطات التي يحل فيها الغرباء والعائدون،  لعل حبيبها الغائب يهل مع أول إطلالة للنور، أو في سكرة الليل الراحل بلا هوادة. تغمض عينيها لتراه آتيا كالقدر، يشق الظلام بجسده الفارع وإلى جانبه صديقه الحميم، وشريكه في الكفاح ضد أولاد الليل، وحين تفتحهما لا تجد سوى الفراغ، فتنتظر في صبر جميل، والشيب يتسلل إلى رأسها كالسم الذي يقتل في هدوء وعلى مهل، ولا تجد أنيسة ومواسية سوى جورجيت حبيبة ميخائيل التي افتقدته إلى الأبد، لكنها لم تبخل على صاحبتها بكلمات ونصائح تقويها في مواجهة الانتظار الموحش.  

     إن "زهر الخريف" لا تهمل "الشكل" سواء ما يتعلق بالمعمار الروائي أو التشكيل الجمالي للغة، لكنها تحتفي أكثر بالمضمون، حيث تحمل "قضية" جوهرية، من الضروري أن يلتفت إليها الأدب، وهي قضية "الوحدة الوطنية" شريطة ألا يقع العمل الإبداعي في فخ الأيديولوجيا أو الوعظ أو المنشور السياسي، وهو ما تجنبه عمار في روايته، فلم يطغ مضمونها العامر بالقيم والمعاني على شكلها الساعي إلى الاكتمال.

يذكر أن هذه هي الرواية الثالثة لمؤلفها عمار علي حسن، الذي تزاملنا معا فى تأسيس جريدة العالم اليوم المصرية منذ 20 عاما ، قد سبق أن أصدر روايتين هما "حكاية شمردل" و"جدران المدى" إلى جانب مجموعتين قصصيتين هما "عرب العطيات" و"أحلام منسية". كما أصدر المؤلف، الذي يحمل الدكتوراه في العلوم السياسية، العديد من الكتب والدراسات في مقدمتها "النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية" و"الفريضة الواجبة: الإصلاح السياسي في محراب الأزهر والإخوان المسلمين" و"التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر"، وفاز الكتاب الأخير بجائرة الشيخ زايد للكتاب عام 2010 في فرع التنمية وبناء الدولة ،كما فاز عمار بالعديد من الجوائر المصرية والعربية في مجال الإبداع الأدبي.

حمدى البصير

Elbasser2@yahoo.com

اجمالي القراءات 9238